• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : أنا .
                          • الكاتب : نبيل جميل .

أنا

     هكذا كانت حياته، مملة في نظره ونظر الآخرين من أصدقاءه . ولم يكن لديه العديد من الأصدقاء ، ربما اثنان أو ثلاثة ، وهم البقية الباقية من رفاقه في الجيش . فعل الكثير كي يكون له أصدقاء حميمين جدد ، رغم انه لم يرغب في الكثير من الأحيان ، حتى من ناحية النساء ، وان كان يعتقد بأنَّ من السهل مصاحبة إحداهن ، خاصة الأرامل ، زوجات قتلى الحروب . وحين كان يتمشى ذات مرة ، وهذا مايحصل دائماً ساعات الغروب على كورنيش شط العرب ، تمنى لو يتحدث إلى إحداهن وهن بصحبة أطفال أو يتنزهن متأملات ساعة الغسق ، كان يحب أن يتعرف إلى امرأة واحدة ، واحدة فقط ، ويفضّل ان تكبره في السن ، فقد كان يرى إنهن الأنضج والأكثر خبرة بأمور الحياة ، لكنه وفي مثل كل مرة يفكر : ( اخاف ان اقع في الحب وينتهي مصيري للزواج) ، جاذبية النساء كانت تجعل القشعريرة تسري في بدنه . مرة تابع واحدة وكانت ترتدي (تنوره) قصيرة سوداء وقميص اصفر وشعرها مقصوص على طريقة الصبيان ، وعلى طول شارع المطاعم ثم في شارع الكويت ، كان يتتبع خطاها وهي تتبضع ، وقد هالهُ منظرها وطريقة مشيتها الأنيقة المموسقة ، كانت بشرتها برونزية لامعة وعيناها مكحولتان ، وشعرها ذي لون أشقر فاتح ، ولم يهتم بالصبي الذي كان معها ، فكر ، لابد انه ابنها . علّمته سنوات الجيش ان يرصد الآخرين ، سبع سنين قضاها فوق برج الرصد ، تحركات العدو كانت تثير فيه الريبة ، وكان يشعر بهذا حتى بعد التسريح ، لكنه كان لا يثق ببرج الرصد ولا بنفسه وهو يتحمل المسؤولية بأكملها ، ففي العديد من المرات كان يعتمد على حدسه الذي وان كان يخطئ احياناً ، لكنه كان يفتل بعض الأكاذيب من خلال جهاز الإرسال (الراكال) وعوقب اثر ذلك عدة مرات ، ولأكثر من شهرين ظل يراقب تلك المرأة التي كانت تتفتح أمامه كل صباح كأنها زهرة عباد الشمس ، وهي تنزل من الباص أمام فندق (حمدان) وتتباعد لتتضاءل في الشارع المؤدي الى المجمع التسويقي ، عرف في أي يوم تخرج للتبضع وفي أي يوم تخرج للنزهة ، كان يفضل أن لا تراه ، كان يشعر بلذة وسعادة كبيرتين تغمرانه حين يأوي الى السرير ، كما لو كان انتهى للتو من النوم مع امرأة ، يستيقظ نشطا ، يستحم ، يحلق ، ثم يتناول إفطاره وقوفاً في المطبخ . انه لأمر رهيب ان تراه أمه بهذا النشاط في ايام معدودة من الأسبوع ، وكانت تردد على مسامعه وابتسامة واسعة على وجهها : ( بنت خالتك تسأل عليك ..صادقها .. اخرج معها .. لا تفوتك فهي مدبرة منزل جيدة وعندها راتب .)
- لا فائدة يا أمي .. أنا ما خُلقت للزواج.
- ستشعر بالندم ذات يوم..
    دخلت مجموعة من الأدباء الى المقهى الذي يرتاده ، وفتحت موضوعات عديدة ، كان هو ينصت ، ولا عجب ان يشركهُ احدهم بالنقاش ، كانت أجوبته مقتضبة وشديدة الوقع ، بهدوء كان يزخرف المفردات كأنه ينحت أو يكتب قصيدة ، بينما ضجيج الآخرين كان يدوّم في فضاء المقهى وسط غيمات من دخان السجائر الرخيصة ، لم يعتد ان يجلس أكثر من نصف ساعة ثم ينهض لجولته المسائية المعتادة على كورنيش الشط ، وهناك تذهله التماثيل البرونزية لقتلى الحروب ، ويجد جسده ضخماً أمام هيئاتهم المتورمة ، المشوهة ،البشعة، وحده كان تمثال (السياب) يؤرقه ويجعله حزينا وضئيلاً أمام قامة شاعر المطر . 
                      *            *              *
     بعد خمس سنوات من ضياعه بين المقهى والكورنيش والعمل في مهن متعددة ، تمنى لو انه قُتل في الحرب ، فقد أيقن بأنه من غير الممكن ان يتآلف مع حياة المدينة ، تمنى لو ان الحرب لم تنته ، شعر بالملل حتى من هوايته المفضلة ، القراءة ، وحتى بعد ان اصدر مجموعة شعرية نالت استحسان القراء والمتابعين ، ومدحها عدد من النقاد لجرأتها في كشف المسكوت عنه ، ومحاكاتها للطبقات المسحوقة في الواقع الضحل الذي يعيشه أي بلد يخرج من حروب طويلة .. وأمام النهر راح ينشد إحدى قصائده المطولة ، مستنداً الى جذع شجرة كالبتوس وبيده قنينة خمرة ، لا يعلم متى كسر قعرها وحزّ أوردة يديه .
 
البصرة /2008



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=32662
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 06 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19