• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : وجع فراشات ضياء سالم البيض .
                          • الكاتب : حيدر عاشور .

وجع فراشات ضياء سالم البيض

كل عصر عرضة لتحكم السلطوي والأهواء الفردية والشخصية وفراشات بيض تمثل مرحلة من هذه المراحل التي رسخت في عقلية ومخيلة ضياء سالم وهو ينقل بصور سردية واقع الألم الموجع في غياهب السجون وسط الخلافات الحزبية وتطلعات فكرية تحاول رسم طريق الحرية بالورود ولكن قوة السلطة وظلم الجلادين كان الأساس في وضع بناء لمسيرة حافلة بالدم والقتل مما جعل أصحاب الورود الحمر قانعون بتقبل الحياة كما هي .. وصاحب الفراشات البيض التي تدور حوله أينما ذهب ومهما كانت قوة رائحة الدم وعفونة المكان يراها تستنشق له الهواء من بين أجنحتها هواء الأمل من تغير كل الأوضاع في أي لحظة ... وهنا ضياء سالم الحالم بالحرية التي ارتوى من علقمها حتى الثمالة ... وهو يصف المكان بعد انقطاع الكهرباء الذي حمل العفونة والحرية وأعداد كبيرة جدا من الفراشات البيض وصراخ مجنون يشبه الفراشات بالجراد ويطاراتها بألوانها البنفسجية ويعلك أخر إرهاصاته ... استخدامه لهذه الألفاظ في مكان محصور وأجساد تتألم من العذاب الجسدي والنفسي بقسوة وهي تحلم بالحرية وهي تنازع الأمرين .. يوحي الينا بالخلط بين عملية الموت والحياة ،وعملية التلاعب الفكري بالغة والسرد وتوصيف قسوة الحالة .. يحاول أن يكون واعيا بعملية نقل المأساة باللاشعور الى جانب قوة إلهامه الفكري وهو يتنقل بحذر شديد مرة يكون ملحدا وأخرى واعظا ليخرج من أصل العقيدة التي من اجلها كانت وظيفته السجن والتعذيب والحرمان وألم الدائم وهو يقول :

-أكثرنا إلحادا صلى حين تطلع الى أجنحتها البيضاء وهي ترشقنا بوابل من صراخنا المكبوت ص6. واضح جدا في هذا المقطع التأثر النفسي وهو يتخيل أشياء جميلة وسط محيط ضيق اظلم ملطخ بالدم والروائح النتنة التي تجلب وتخلق أنواع الحشرات التي تعيش على جسد الإنسان رغما عنه ... وهو يتخيل الجمال بعقله الباطن الحالم بالحرية بحرية الفراشات البيض وهذا شعور طبيعي لمن يحمل في قلبه حب الحرية وفي عقله فكر لقضية يعيش من اجلها وقد يموت كما يموت كل من ينادي بها ومصرا عليها وهو يودعهم بشكل يومي وهو عبارة عن انطلاقة خيال متألم كرسه السارد(ضياء سالم) من وحي ضميره ..قد تكون القصة ذات أهمية بالنسبة لنا من الوجهة قرأت مرحلة صعبة عاشها اغلب العراقيين وقد تعود أهميتها لأسباب شخصية عاشها الكاتب عن كثب إضافة الى كونها تمتلك الواقعية المباشرة بروح القصة (السرد) وبلاغة اختيار اللغة وصناعة المفردة المؤثرة بتواصلها للحكاية ..فان سير التطور بالنسبة للغة وفكرها وقصتها يعد ذات أهمية بالغة وقد أكدها الناقد حسين سرمك من على واجهة الغلاف الأخيرة حين كتب(قصة تمتلك سعة أسلوبية متفردة) هذا القول ليس يأتي جزافا من شخص مثل حسين سرمك إذ لم يرى بين سطور ضياء سالم مايثير على صعيد القص واللغة وتطور أسلوبي مغاير عما نراه في الأخريات من القصص التي واكبت إصدار(فراشات بيض) .لان فراشات بيض كانت تتكلم بلغت الحلم بوصفه مجنونا بوعي مدرك ومتمني الخلاص من جهة اعتقد انها تسايره وتبكي على ألامه فيستلبه اليأس من الحياة والزمن وهو يحدث نفسه (ثمة شيء يتسربل في الخفاء ،نهيق الزمن الميت ،ووعود المخذولين بالزنابق الحمر ) ص11. فتولد في رواسب دواخله الاكتئاب والخمول يورداه مورد التهلكة على الرغم من أحلامه البنفسجية المتمثلة بالفراشات البيض التي تحوم حوله كملائكة فكان يستريح من عناء الخوف والانتظار بالانهماك في تخيلها ليدخل مرحلة اللاشعور مرحلة خطره تقف على حدها شعرة بين الصحو والجنون حين تموت الفراشة البيضاء وهي تخترق ساحبة الهواء فتمزقها اشلاءا بتنبؤ مجنون فلكي يساق الى المصحة وآخرين يتطهرون بالكذب من اجل الحرية وهم يصرخون الموت للامبريالية ... لينتقل ضياء سالم مكملا فراشاته البيض بحفلة دم يناقش بها جدلية الكون في مكان تتساوى فيه الآراء التي لا تحتوي على اي معنى ولاتصل الى حقائق وتبريرات من نقاشاتها العقيمة عن الوجودية والبحث عن الله ..يصور لنا سالم بواقعية مباشرة الحانة التي تجمع ائتلافات عجيبة من البشر وهي تحتسي وتناقش في علم اللاهوت والطبيعة وذكريات لا تعود .. في حفلة دم مجموعة أمراض نفسية ولدها الواقع السياسي في أغلبية من يحلمون بالزهور الحمراء وهم يساقون باستمرار الى زنزانات الخوف والدم ... وهنا تقبع الرفعة بين صخور يصعب الاقتراب منها وكل من يتحدث عن الرفعة كشئ شائع يصبح على وشك ان يفقد كل مقياس سليم لها خاصة إذ كانت من النوع النرجسي وفجأة تستذكر طفولة غريبة وشرسة وقاسية لا تنقصها الجدية الفائقة التي يتسم بها القصاصين الواقعيين ..ويقترب من هذه الجدية في بعض الانفعالات المترسبة في أعماق روحه منذ صغره وهو يستذكر طفولته بمجرد رؤيته الدم ليعترف ضمنا بسيادية غريبة وهي امتصاص الدماء (كنت مأخوذا منذ الطفولة بذلك الدم ،وان امتص دمي حين اجرح ) ص 29 .. وقد جعله تقليدا للأطفال حوله (مص دمك كي لا تموت ) ولكنه في هذا الهم وألم يمص الدم بالصبر ... فحفلة الدم نسيج متواصل بين طفولته وشعوره بالكبر وسط حطام رفعته ..وشوزفينتيه بعودة فراشاته البيض وهي تحلق بأجنحتها البيضاء وهي تدعوه للسفر الممنوع ولكنها وضعته في مصحة يلعن بها الاشتراكية كي تزول من رأسه ويغادر كوابيسه وتاريخه ..ولكن الكوابيس نوع من تراكمات التاريخ ليخوض حلما في سيناريو من مخيلته وضع له عنوان (احتفالية الدراهم ) من زمن غير زمنه وإسقاطاته على حاضر بمدينة تسكنها الأقزام والأسرار وإذا كانت ثمة مبالغة هنا فهي مبالغة من نوع نادر والحقيقة إن ضياء سالم الذي ينتسب الى الحياة الواقعية ينقل طيف يتسم بالجمال رغم انني عشت في عالم سيء السلوك وهو العالم الذي وظفه ضياء سالم في خياله وهو فيض من غيض من عالم الذي يعيشه ونعيشه في غرائبية يحتمل فيها كل شيء وقد يصبح الحلم حقيقية وبالعكس .... في قصة  احزان السنونو نقل سارد صورة القادة المتسلطين على رقاب الناس حين يكونوا تحت رحمتهم ويشعرون بأنهم أعلى سلطة في الكون ... فهم يملكون المكان بما فيه .
الجنون في قصة (صاء باء) يبدأ من الصوت وينتهي بصوت على شكل صراخ وهذا مايريد قوله السارد بأن الأصوات تحرك سواكنه والمتخيلات تصنع أبطاله الذين عاشوا في ذاكرته كرمز وطني ودليل على وجود حقيقة في القص وهي أيضا الوجع وألم ورؤية الحياة من عين عوراء وزمن عاقر لا يصنع التجديد ليموت صاء باء وبيده رسم لشمس عوراء ... وهي صرخة بوجه الحياة القاسية والتي لا تشرق فيها شمس الحرية وهذا تنبأ يحسب للقاص ضياء سالم عن أحوال البلاد وهي عقيمة التجديد في كل الأزمان الصحيح فيها مجنون يصدق ان في بلده حرية والحقيقة تزف عفونة الماضي بالقتل اليومي واستباحة الدماء في كل أرجاء البلاد .اما جدليته في (عواء في منتصف الحكمة ) يتكلم عن مأساة الالتحاق بالموت وهويحمل همومه على كتفه ويمسخ فراشاته النرجسية ويعلن نصفه الصاحي والأخر المجنون وسط غربة عالم مسافر باتجاهين مختلفين منهم مساق الى الموت والأخر ينتظر سر من أسرار هذا الكون فقد جمع ضياء سالم عالم كامل في عربة قطار أبرحته لعدة مرات ضربا بعد اتهامه بالسكر والجنون .ومن الناحية القصصية وظف أفكاره تحت شروط حددها لنا قوانين الجمال السردي والصدق القصصي لان  ضياء سالم طرح الأفكار الأخلاقية التي يستهجنها الكثيرون وهي في الواقع جانب رئيسي من جوانب الحياة الإنسانية فمسألة كيف نعيش هي ذاتها فكرة أخلاقية وتستغرق اهتمام كل إنسان وتشغل باله ... ان القصة في قراراته نقد للحياة وان عظمة القاص تكمن في استخدامه للأفكار في سبيل الحياة استخداما مكينا جميلا وان الأخلاقيات التي رسمها بصور مجنون غالبا ماتعالج بطريقة محدودة زائفة اذ انها مرتبطة بنظم من الفكر والعقيدة ... هذا الجنون او أخلاقيات السارد نسفت الفكر والعقيدة والشعور بالوطنية على شاهده عن بصيرة من خلال المحترفين المتظاهرين بالعلم وهم تجار وكثيرا من الأحيان يصبحون مصدر تعب لمن حولهم ... فالباقيات من فراشات بيض (مشاهد من اجازة دورية ) كبد الشارع وهمومه وأحلامه وأمراضه و(اشباح ججو) ذكريات أصدقاء منفلتين وسط عالم الموت وهم من أجناس مختلفة والبطل ججو وأحلامه المريضة بماري ...والسادس باء كتبها بلغة إنسانية وحياة مبعثرة وطويلة بين الحياة والموت والتخلص من بقايا الكلاب المسعورة وقبول القصف المميت وهذه إيماءات سردية يعلنها السارد لمحاولة تغير مرحلة عاشها بشخصه لاتخلو من الحلم والحب والشعور برجوع الزمن الى الخلف .وأخيرا (خطوط مشتركة) هذه القصة الشبحية هي حقيقة بدايات السارد وتأثره بما حوله وقد اثار في هذه القصة بصيرة نفاذة واخلاص يتسم بالجرأة والاقدام وهي سيرة ذاتية مباشرة لرجل لا يثير الاهتمام الا في نفوس من حوله وهو (مزاحم الجواد) او (مزاحم جواد) ..لكن ضياء سالم بقى ينازع أسوار (مزاحم الجواد) الشبحية التي امتلاء منها كلمات ترن كالأجراس في رأسه ... عليّ ان أتحدث أخيرا عن فلسفة ضياء سالم في فراشات بيض وتضاربها بين الايمان بالدين ووجود الخالق ووجوديته المتقلبة بتقديم أفكار مجردة وفكرة الحياة الشخصية هي فكرته السائدة في ثقافته الدينية وإيمانه وتمرده على واقع سلطوي يتمثل بالحزب الحاكم آنذاك وعقيدته اليسارية التي تأثر بها ممن حوله ومن قراءته ...ففراشات بيض جزء من هذه الفلسفة التي تناولها في أشبه بالسيرة الذاتية تكشف نفس قوة الإدراك ونفس الإخلاص التام اللتين تتجليان في قصصه أما قيمتها كسيرة ذاتية فتعتبر ذات أهمية بالغة مليئة بالملاحظات والتعليقات الذكية المثمرة خلط حياته الشخصية بالحياة العامة التي شلت يوما ما حركته وأصبح واهن القوى مبتئسا في حياته وكان يعلم ذلك وينبئنا به بنفسه في سرد تشيع فيه قوة التحليل وطلاقة يسودها الحزن وألم والعذاب والحرمان والنفور من الحياة واليأس والتشاؤم والاكتئاب النفسي والحسرة المقيمة والذكريات التي لا يمكن مواساته بها ولكنه اعترف فيها عبر فراشات بيض فمن يقرأها سيجد العذاب البطيء الذي يكشف فيه فكره الفلسفي الواسع وسر علته الدفين ... واني لا أتردد في الاعتراف بأن فراشات بيض لضياء سالم تمتاز بأهمية نفسية بالغة العمق إذ أهميته تكاد تكون أهمية مرضية ولذلك تحس عند قراءتها إننا نتابع دراسة نفسية مثلما نتابع حالة مرضية عقلية بأسلوب قصصي مثير للمتعة .



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=31346
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 05 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28