المكان/ شعب ابي طالب( وادي الحجون)
الزمان/ السنة العاشرة من المبعث
ريح غضوب تعبث بأطراف الخيام , فبسمع لها اصطفاق يشبه قصف الرعد . هبوبها المتقطع وهي تلعق وجه الارض, وتحتمل منها ذرات رمال ناعمة وحبات حصى صغيرة , ثم تعود لتنثرها في مكان اخر حين يخفت هبوبها . كأنها موكلة بأداء ذلك العمل , فهي حريصة على أداءه . تارة تعصف بضراوة متلاطمة بين الصخور الصماء , فيصدر عنها نشيج اجوف يتعالى باستمرار , وتارة تركن الى هدوء مغلف بالريبة وموشى بالحذر .
وجوم مشفوع بترقب لاية نأمة صوت .. صهيل خيول بعيدة .. حنين نجائب , يحدوها الحادي رغما عنها . الصمت يضرب أطنابه , ويفترش وادي الحجون , فبلقي بظلاله على وجوه تسفعها الشمس . يتقاطر الاسى من العيون الغائرة , النسوة يجلسن في مجموعات صغيرة وقد انحلهن الجوع , والخوف من الاتي . نشاط مؤقت يدب في الجميع حين يسمع صوت المؤذن , وهو يدعوهم للاصطفاف خلف صاحب الوجه الانور .عندها تنزل السكينة على ارواحهم المنهكة والموجوعة بالم الفراق .
احدى النساء تخرج قبضة من حشف التمر وتوزعها على الجالسات . تأخذ كل واحدة منهن تمرة تتصبر بها من الم جوعها . قالت : عسى الله ان يفرجها علينا في هذه الليلة , لم يبق في الخيام من مؤونة .
طفل صغير ينهض من حجر امه .. يركض قليلا , وقد غارت قدماه الصغيرتان في الرمال .. يتعثر بأسماله , ويسقط على وجهه دون بكاء ! امه بدت كالغائبة عن وعيها . تنقلب من فراشها وتزحف على يديها ورجليها بصعوبة . تقلب الصغير على ظهره , واضعة راسه في حجرها .. تمسح التراب عن فمه وانفه . تصيبها الدهشة , فتطلق صرخة وانية : الطفل مات .. يارب ماذنبه ؟ يأتيها صوت من خلفها : بعين الله مايجري . لقد سبقك الى الجنة .
يركض ناحيتها رجل كان ممددا في الظل المتراقص للخيمة . الرمال تصلصل بين قدميه الحافيتين . يجهش ببكاء صامت , وهو يحتضن صغيره الخامد عن الحركة الى صدره . يحمله ويأتي به الى الرسول . قال : يارسول الله لقد لفظتنا مكة واهلها في هذا الشعب الخالي حيث لاماء ولاكلاء . ادع الله عليهم يارسول الله .
تنفرج الشفتان الطاهرتان : انما بعثت رحمة للعالمين .. اللهم اهد قومي انهم لايعلمون .
جبال مكة تردد الصدى الحزين لكلماته : (( ياقومي اني نصحت لكم ولكن لاتحبون الناصحين )) .
خديجة – سيدة نساء قريش – مسجاة على فراش المنية , تسترجع تلك الرؤى الموغلة في الالم والمرارة . تلوك حسرتها على ابنتها , وتحاصرها الوحدة , بعدما اشاح القوم عنها . وضنت النسوة عن عيادتها , لالشئ الا لانها تزوجت بالصادق الامين . قالت تهمس لنفسها : لاقريب يزورني ولا بعيد يسأل عني , ولكن رضا لرضاك ربي , انما هي شجون نفسي يبثها لساني . يتغرغر الدمع في عينيها , وهي تديرهما في ارجاء بيتها , الذي احتضن صوت الحبيب وعطره وسبحات وجهه التي شع منها نور امتلات به شعاب مكة وجبالها . شفتاها الذابلتان تتمتمان : ( هذا محمد خير مبعوث اتى / فهو الشفبع وخير من وطأ الثرى – ياحاسديه تمزقوا من غيظكم / فهو الحبيب ولاسواه في الورى ) . يدخل الصادق الامين مسبوقا برفرفة الملائكة وحفيف اجنحتها . تتسند خديجة لتستقبله كما اعتادت تغالب ضعفها . تسند رأسها على وسادتها بمواجهته , وتغتصب ابتسامتها من بين دموعها المنهمرة وكأنما تقول له : ( ما استحسنت عيني من الناس غيركم / ولالذ في قلبي حبيب سواكم ) .
– ما يبكيك يا خديجة ؟
- ابكي لفراقك يارسول الله . ماتعدل الدنيا عندي جناح بعوضة .
– يعز علي ما نزل بك . فقد أمنت بي اذ كفر الناس , وصدقتني اذ كذبني الناس , وواسيتني بمالك اذ حرمني الناس .
– انا ومالي فداء لرسول الله .
– يا خديجة هذا جبرائيل يقرئك من ربك السلام .
– الله هو السلام ومنه السلام وعلى جبرائيل السلام وعليك يارسول الله السلام ورحمة الله وبركاته .
– ان الله يبشرك ببيت في جنة الفردوس , لاصخب فيه ولا نصب .
– انت والله يا ابا القاسم جنتي .
تتكثف اللوعة في عيني رسول الله حزنا على وشيك الفراق .
– جزاك الله عني وعن الاسلام خيرا ياخديجة . ان الجنة مشتاقة اليك.
تتململ في نومتها , وتلوذ بوجه رسول الله لوذ الحمائم بافانين الشجر, او كأنها تتزود منه قبل رحيلها . تراه يقلب طرفه , منكسرا بينها وبين فاطمة ذات السنوات الخمس.0 .
تلج اسماء بنت عميس مستاذنة , وتجلس قرب راسها تنهنه عنها حزنها .
– اتبكين ياخديجة وانت زوجة خاتم النبيين ؟ اتكين وانت سيدة النساء؟ اتبكين وانت المبشرة بالجنة ؟
تنظر خديجة بعيون واهنة صوب ابنتها .
– مالهذا بكيت . انما ابكي على فاطمة , من لها من بعدي ؟ ومن يلي امرها عند زفافها ؟
تسكت اسماء ولاتجد ما تقول .
– تعلمين ياسماء ان كل امراة في تلك اللحظات تحتاج الى من تفضي اليه بسرها .
– ان كان هذا مايبكيك فقري عينا , فأنا أعاهدك أن أتولى أمرها حين زفافها , وأكون لها كما تحبين .
عند ذلك يفتر ثغر خديجة عن ابتسامة رضى وتسبل عينيها حيث تزفها الملائكة الى الجنة .لكن نظرة حزن شفيفة ارتسمت على محياها , وفاطمة متعلقة برقبة ابيها تساله عن سر نومة امها في هذا الوقت .
|