• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : تغييض دجلة .
                          • الكاتب : د . محمد تقي جون .

تغييض دجلة

وقف ابن سيَّا على سيف دجلة المنصلت المنفلت، وهو يلوّح للقلوب الواجفة يخيفها ويحيفها. كأنه مجنون سلب عقله بعد أن سُلب منه كلُّ شيء حتى ماؤه!

كان دجلة محمَّلاً بالكثير من الأسئلة المدفونة في أجوبتها، ومسكوناً بالكثير المعلوم والمجهول. كان كالموتور المسلوب المجد، الذي عجز حتى عن الإعلان عن نفسه. وكانت الناس تفرّ منه جزعاً، ولا تكتم الاستهزاء والسخرية به، وربما ينظر له بعضهم بعطف كبير، تأكداً من أنه سيعود الى سباته، وان صولته غير المتوقعة هذي ما هي الا صحوة الموتى.

كان ابن سيا يعلم تماماً أين موضع وثاقه!! فهو يعلم ما لا يعلمه دجلة والناس معاً. وسرّح البصر: دجلة تفيض غائضةً، والناس تهرع عارضة، والربوع اليابسة حائضة تنتظر حملاً.. عجباً كلّ هذا مع العراق الذي كان ليس قبل قرن ولا عصر ولا دهر، بل سنين معدودة، أرض البركة والودكة، وسنينه العجاف سياسية ليس غير.

وتمشى ابن سيا وأشار بيده: هنا موثق دجلة أيها العراقيون.. فكوا دجلة، فكوا دجلة، تحبلِ الأرض ويسمن النحض. وتأوّه بأبيات فائضات:

 

خاضت وما باضت دجاجتنا           فكأنّها من عقمها ديكُ

والماءُ فاضَ وغاض دجلته                    فدمٌ له في الارض مسفوكُ

وربوعنا حاضت وما حبُلت           فمتى الولادةُ يا مماليكٌ

 

ثم خاطب دجلة التي ستنزع ثوب ترفها المائي وتعود إلىٍ أطمار التصحر واليبوسة:       

 

حييتُ سبخك عن قرب فيا كدري          يا (دهلة) الخير أو  يا دجلة (الجزر)

يا (دجلة الغير) تسقي أهلها وشلاً        والآخرين  نمير الوِرد واالصَــــــدَرِ

أصبحتِ أرضاً وأعشاباً ومزبلةً            وظلَّ ساقيةٍ أو ظلَّ منحــــــــــــــدِرِ

مسلوبة الماء يُخشى موتها عطشاً       وهي التي روت الدنيا على عُصُرِ

يا أيها النهر (سنحاريب) كابده            وخاض (كلكامش) فيه خطى حذِر

وأرسل الفكر في أعماقه شبكاً             فعاد محموله صيداً من الدُّرَرِ

لبستَ شتَّى حضاراتٍ – وقد بليتْ         وما بليتَ – جديداً شامخ الأثرِ

كم انثنيتَ بأرض الرافدين على مهلٍ      تصافحُ ذا وجدٍ وذا وَطـــــــــــــرِ

وكم تدفقتَ مجنون الخطى عرِماً                    تجورُ كالملك الجبار ذي الخطرِ

تهابك الارضُ..فالاجبالُ في فزعٍ                    والسهلُ في كدرٍ والناسُ في سَهَرِ

أنت القدير إذا أملاكها سجدت             له، وليس لـ(مردوخٍ) و(ذي حجرِ)

فاربأ بنفسك أن ترضى بنازلةٍ              فتستريح لهذا الذلِّ والصغرِ

وقفتُ والبدر مخسوفاً ومنكسراً                    يلوح فيك.. مسجَّىً كنت في المدرِ

فقلتُ دجلةُ حيَّته القرون وأحيته.. وهذا زمان الموت والكبـــــــــرِ

قد جئتَ مستبقاً  تجري بمنطلقٍ           حتى انعطفت علينا فاستبيح جري

كأنهم كمنوا حتى وصلتهم                 فعاجلوك بقتلٍ غادرٍ أشِرِ

وهل ترانا صموتاً  لا حراك بنا            حتى تعود بلا عينٍ ولا أثرِ

      ما بالها الناس من يأسٍ ومن جزعٍ           ترى العيون ولا تأسى على النظرِ

كم أنت تبكي، وكم جفَّت مدامعنا                    وكم تركناك للأقدار والغِيَرِ

خذ أدمعي من فقيرٍ فيَّ ذي كرمٍ           تبرعاً لكريمٍ فيك مفتـــــــقِرِ




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=27622
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 02 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28