• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : بغداد محط أنظار العالم .
                          • الكاتب : سيد صباح بهباني .

بغداد محط أنظار العالم

استغلّ العبّاسيون محبّة آل الرسول صلّى الله عليه وآله في قلوب الناس؛ لتحقيق أهدافهم في الوصول إلى السلطة، فرفعوا شعاراً يدعو إلى ـ الرضا من آل محمد عليهم السّلام ـ  مَوّهوا به على عامّة المسلمين حقيقة أهدافهم، وأشاعوا أنّهم إنّما يحاربون
الأمويّين من أجل إعادة الحقّ إلى أهله. ثمّ إنّهم استعانوا بأبي مسلم الخراسانيّ في تحقيق ظفرهم على فلول الدولة الأمويّة، وكانت أوّل خطبة لأبي العبّاس السفّاح بعد أن استتبّ له الأمر خطبها في الكوفة  ( تاريخ الطبري 425:7 ـ 428 ؛تاريخ اليعقوبي 83:3 ).
لكنّ هذه المدينة التي أعانت العبّاسيّين في الوصول إلى الحكم لم تكن لهم مدينة آمنة بسبب نفوذ العلويّين فيها، الأمر الذي اضطُرّ أبو العبّاس السفّاح إلى ترك الكوفة، ففارقها وسكن في قصر ابن هُبيرة الذي يبعد عن الكوفة ثمانية عشر فرسخاً ( أنساب الأشراف للبلاذري 150:3 ). ثم تحوّل عنه سنة 134هـ إلى الأنبار الواقعة غرب نهر الفرات على بُعد عشرة فراسخ من بغداد، فاختارها عاصمةً لحكمه ( معجم البلدان للحموي 257:1). ثمّ غيّر اسمها إلى ـ الهاشميّة ـ وبنى فيها عدّة قصور.
ثمّ توفي أبو العبّاس في هذه المدينة بعد سنتين، أي سنة 136هـ، ودُفن في نفس المدينة .
وأعقب أبا العبّاس المنصورُ الدَّوانيقيّ، فبنى مدينة بين الكوفة والحِيرة سمّاها الهاشميّة وجعلها عاصمة لحكمه (تاريخ الطبري 474:7 )، إلاّ أنّه ندم على ذلك لأمرين :
أوّلهما: طغيان فرقة الراونديّة في هذه المدينة، الأمر الذي جعله يواجه خطراً جديّاً لم يتمكّن من التغلّب عليه إلاّ بعد لأي.
وثانيهما: مجاورة هذه المدينة للكوفة، الأمر الذي جعله في خطر في أهل الكوفة المعروفين بولائهم لأهل البيت عليهم السّلام.
ولذلك فكّر المنصور في العثور على موضع مناسب يتّخذه مركزاً لحكمه، فبعث طائفة من رجاله يَتَحرَّون له الأماكن المختلفة، فاختاروا له موضعاً على الساحل الغربيّ لنهر دجلة قرب المدائن، وكان ذلك في سنة 141هـ. فأمر المنصور ببناء مدينة في ذلك الموضع، فبُنيت مدينة بغداد على هيئةِ دائرة، وتمّت أعمال البناء فيها سنة 145هـ، وأُحيطت بسورين ضخمين مرتفعين، وجعلوا لها أربعة أبواب كبيرة:
باب البصرة في الجنوب الشرقيّ من بغداد، إلى جوار نهر الصَّراة، وباب الكوفة في الجنوب الغربيّ من بغداد، وهو طريق القوافل السائرة إلى مكّة، وباب الشام في الشمال الغربيّ من بغداد، وباب خُراسان ( باب الدولة ) في الشمال الشرقيّ من بغداد ( تاريخ اليعقوبي 109:3 ؛تاريخ بغداد 74:1 ).
وقد أمر المنصور بجعل قصور معتمدي الخليفة وثقاته محيطة بقصره، لتشكّل ما يُشبِه الدرعَ الذي يَقيه الخطرَ، ثمّ أمر ببناء الإدارات والدواوين وبيوت قادة الجيش وعمّال البلاط والموالين لبني العبّاس. بل ذكر المؤرّخون أنّ المنصور قال
للربيع: يا ربيع، هل تعلم في بنائي هذا موضعاً إن أخذني فيه الحصارُ خَرَجتُ خارجاً منه على فرسخَين ؟ قال: لا. قال: في بنائي هذا ما إن أخذني فيه الحصار خرجت خارجاً منه على فرسخين ( تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 77:1 ).
وقد أراد المنصور بإيجاده كلَّ هذه الاستحكامات والاحتياطات أن تكون عاصمة حكمه حصنيةً أمام الأخطار، شأنها شأن القلعة الحصينة المحكمة، حتّى قيل إنّ بغداد كانت في تلك الأيّام من أكثر مدن الشرق تحصيناً ( تخطيط بغداد ،للدكتور مصطفى جواد والدكتور أحمد سوسه 21 ).
لكنّ جميع هذه التدابير والاحتياطات لم تُجدِ المنصور نفعاً، ولم تدرأ عنه ما كان يحذر، إذ سرعان ما وقع ما لم يكن في حسبانه؛ فقد شَغَب الجندُ في داخل بغداد، فأشار بعض رجال الدولة على المنصور بإبعاد القسم الأعظم من الجيش إلى الجانب الآخر من نهر دجلة، فأمر المنصور ببناء الرُّصافة، ونقل إليها ابنَه محمّد المهدي وليّ العهد ومعه قسم عظيم من الجيش. ثمّ انتقل هارون الرشيد في عصر حكمه إلى الرُّصافة، فأضحت منذ لك الوقت مركز الحكم ( تاريخ الطبري 37:8 ـ38؛الكامل في التاريخ لأبن الأثير 602:5 ).


مذبحة بني هاشم في عصر المنصور
استغلّ العبّاسيون حبّ المسلمين لأهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله في الوصول إلى الحكم كما ذكرنا، ورفعوا شعار ـ الرضا من آل محمّد ـ ، ثمّ عمدوا إلى قتل
الوزير أبي سَلَمة الخَلاّل المُلقّب بـ  ـ  وزير آل محمّد ـ الذي كان يرغب في
تسليم الحكم إلى أصحابه الشرعيّين، وهم آل عليّ عليه السّلام، حيث قُتل أبو سلمة بعد أربعة أشهر من بداية حكم العبّاسيّين على يد أبي مسلم الخراسانيّ، ونُسب قتلُه إلى الخوارج ( تاريخ الطبري 423:7؛تاريخ اليعقوبي 89:3 ) .
وبعد حكومة أبي العبّاس السفّاح الذي عُرف بالانتقام وسفك الدماء، واشتهر لذلك
بلقب ـ  السفّاح ـ ، تربّع المنصور على كرسيّ الحكم سنة 136هـ، فوجد أمامه عدّة
صعوبات ينبغي عليه تذليلها :
1ـ سلطة عمّه عبد الله بن عليّ الذي كان على رأس طائفة كبيرة من الجيش، وكان السفّاح قد بعثه لقتال الروم. وكان عبد الله بن عليّ قد ادّعى أحقيّته في الخلافة بعد موت السفّاح. فأرسل إليه المنصور أبا مسلم الخراسانيّ، فتغلّب عليه بالحيلة والقتال، وكانت عاقبة عبدالله بن عبّاس أن قُتل في السجن ( تاريخ
الطبري476:7 ـ497 مروج الذهب للمسعودي 288:3 ).
2ـ أبو مسلم الخراسانيّ، وكان قد تطاول على المنصور عدّة مرّات قبل حكومة المنصور وبعدها، وكان يجسّد خطراً حقيقيّاً على حكومة المنصور؛ لأنّ أغلب قادة الجيش العبّاسي كانوا من الإيرانيّين الذين يحبّون أبا مسلم .
وتمكّن المنصور من استدعاء أبي مسلم إلى قصره، ثمّ أوعز إلى رجاله فهجموا عليه فضربوه بسيوفهم حتّى قتلوه ( تاريخ الطبري 479:7 ـ 494 ؛تاريخ اليعقوبي 102:3
ـ104 ).
3ـ أمّا الأمر الثالث الذي كان يشغل بال المنصور ويعكّر عليه أجواءه، فهو محمّد بن عبد الله بن الحسن الملقّب بالنفس الزكيّة، وكان السفّاح والمنصور ومعهم بنو العبّاس قد بايعوه على الحكومة والخلافة. وكان النفس الزكيّة وأخوه إبراهيم قد اختَفَيا في بداية حكومة العبّاسيين وشَرَعا في دعوة الناس إلى نفسَيهما، فزاد ذلك في مخاوف المنصور.
ومن هنا ترك المنصور بغداد قبل أن يكتمل أمر بنائها وبناء سورها، وقَدِم إلى الكوفة ( قال الطبري في تاريخه (518:7) : لما استخلف أبو جعفر لم تكن له همة إلا طلب محمد والمسألة عنه ) .
ثمّ إنّ المنصور بعث من الكوفة عمّه عيسى بن موسى ومعه جيش من الخراسانيّين لقتال النفس الزكيّة في المدينة، فدارت بينهم حربٌ ضَروس انتهت بمقتل محمّد بن عبدالله بن الحسن وأنصاره وصَلبهم، بأسلوب وحشيّ ( تاريخ الطبري 559:7و619 ) .
وبعد مقتل النفس الزكيّة ثار أخوه إبراهيم في البصرة، فأرسل إليه المنصور جيشاً، فهزمهم إبراهيم، وفي آخر ساعات المعركة أصاب إبراهيمَ سهمٌ فقُتل، ودارت الدائرة على جيشه. ثمّ قَطَع جيش المنصور رأس إبراهيم وأرسلوه إلى المنصور ( تاريخ الطبري7 :646 ـ646 المنتظم لأبن الجوزي8 :88  ).
وكان هذان الأخوان قد اختَفَيا ـ خوفاً من السفّاح والمنصور ـ في الجبال والصحارى والمدن النائية. ويعتقد بعض المؤرّخين أنّ ممّا دعاهما إلى الثورة على المنصور أنّه اعتقل أباهما عبدالله بن الحسن المثنّى ـ حفيد الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام ـ ومعه طائفة من كبار بني هاشم وعذّبهم وسجنهم وضيّق
عليهم ( مروج الذهب للمسعودي 295:3 ؛تاريخ الإسلام السياسي 129 :2   ) .
وقد أشار المسعودي إلى بعض جرائم المنصور في حقّ العلويّين وبني الحسن عليه السّلام وقسوته في معاملتهم، فذكر أنّ المنصور لمّا رجع من مكّة سنة 144هـ أمر باعتقال عبد الله بن الحسن المثنّى ومعه كثير من أقاربه، فنقلهم إلى الرَّبَذة أوّلاً، وأمر هناك بمحمّد بن عبد الله أخي عبد الله بن الحسن لأمّه فجُرّد وضُرب ألفَ جَلدة. ثمّ أمر بهم فسُيّروا إلى الكوفة، فحُبسوا في سرداب مظلم تحت الأرض لا يميّزون فيه النهار من الليل، ولم يكن يُسمَح لأحدٍ منهم بالخروج، فكانوا يُضطرّون لقضاء الحاجة في ذلك السرداب، فكانت الروائح الكريهة تؤذيهم، حتّى وَرِمَت أقدامهم. ثمّ أمر بالسجن فهُدِم عليهم فماتوا تحت أنقاضه (مروج الذهب 298:3 ـ299 ).
وقد أورد الطبري تفاصيل جَلْد محمّد بن عبد الله ابن فاطمة بنت الحسين عليه السّلام وتعذيبه ـ وكان أبا زوجة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ـ فأُمر به بسبب ذلك فحُبس. يقول الطبريّ :
لمّا صار بنو حَسَن إلى الرَّبَذة دخل محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ( وهو أخو عبد الله بن الحسن لأمّه ) على أبي جعفر المنصور وعليه قميص وساج وإزار رقيق. ( ثمّ ذكر أنّ المنصور سبّ محمّد بن عبد الله هذا وأمر بشقّ ثيابه، فشُقّ قميصه ). ثمّ أمر به فضُرب خمسين ومائة سوط فبلغت منه كلَّ مبلغ، وأبو جعفر ( المنصور ) يفتري عليه ولا ينكى، فأصاب سوطٌ منها وجهه، فقال له: وَيْحك! اكفُفْ عن وجهي؛ فإنّ له حُرمةً من رسول الله صلّى الله عليه وآله. قال: فأُغري أبو جعفر، فقال للجلاّد: الرأسَ الرأس. قال: فضُرب على رأسه نحواً من ثلاثين سَوطاً، ثمّ دعا بساجُورٍ من خشب شبيه به في طوله ـ وكان طويلاً ـ فشُدّ في عُنقه وشُدّت به يده، ثمّ أُخرج مُلَبَّباً .
ثمّ قال الطبريّ نقلاً عن عبد الله بن عثمان، عن محمد بن هاشم ابن البريد مولى معاوية، قال: كنتُ بالرَّبذة فأُتيَ ببني حسن مَغلولين، معهم العثمانيّ ( يقصد محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان ) كأنّه خُلِق من فضّة، فأُقعدوا، فلم يلبثوا حتّى خرج رجل من عند أبي جعفر، فقال: أين محمد بن عبدالله العثماني ؟ فقام فدخل، فلم نَلبَث أن سَمِعنا وَقْعَ السِّياط...
قال: فأُخرج كأنّه زنجيّ قد غَيَّرت السياط لونَه وأسالت دمَه، وأصاب سوط منها إحدى عينيه فسالَت، فأُقعِد إلى جنب أخيه عبدالله بن حسن بن حسن، فعطش فاستسقى ماء، فقال عبدالله بن حسن: أيّها الناس، من يسقي ابنَ رسول الله شربةَ ماء ؟ فتحاماه الناسُ فما سَقَوه... ثمّ لَبثنا هُنيهةً، فخرج أبو جعفر ( المنصور ) في شقّ محملٍ مُعادِلُه الربيعُ في شقِّه الأيمن على بَغلة شقراء، فناداه
عبدالله: يا أبا جعفر، والله ما هكذا فَعَلنا بأُسرائكم يوم بدر!
قال: فأخسأه أبو جعفر وتَفَل عليه ومضى ولم يُعرّج! ( تاريخ الطبري
542:7 ،حوادث سنة 144هـ ) .
قال الطبري: أُتي بهم ( يقصد بني الحسن ) أبو جعفر، فنظر إلى محمّد بن إبراهيم بن حسن ( وكان يلقب بالديباج الأصفر لحسنه )، فقال: أنت الدِّيباجُ الأصفَر ؟
قال: نعم. قال: أمَا واللهِ لأقتلنّك قتلة ما قَتلتُها أحداً من أهل بيتك! ثمّ أمر بأسطوانةٍ مبنيّة ففُرِّغت، ثمّ أُدخل فيها فبنى عليه وهو حيّ ( تاريخ بغداد للطبري 546:6 ) !


محلّة الكرخ
لمّا أمر المنصور ببناء بغداد، أوعَزَ أن تُبنى أسواق في محلاّتها ومناطقها المختلفة. وكان التجّار يجلبون بضائعهم المختلفة إلى داخل المدينة فيبيعونها في أسواقها، فأضحت بغداد بالتدريج مركزاً مهمّاً من مراكز التجارة في العالم آنذاك .
ثمّ إنّ المنصور الدوانيقي نَدِم من جَعلِ الأسواق داخلَ سور المدينة، فأمر بإخراجها خارج أبواب المدينة، فنُقلت خارج بغداد سنة 857هـ (  تاريخ بغداد 79:1 ـ80؛تاريخ الطبري 52:8 ) .
وقد اتّفق المؤرّخون على السبب الذي نَدِم المنصور لأجله على جعله الأسواق داخل مدينة بغداد. ونورد هنا ما ذكره الخطيب البغدادي في هذا الخصوص. قال الخطيب :
لمّا فرغ أبو جعفر المنصور من مدينة السلام، وصَيَّر الأسواق في طاقاتِ مدينته من كلّ جانب، قَدِم عليه وفدُ مَلِكِ الروم، فأمر أن يُطاف بهم في المدينة، ثمّ دعاهم فقال للبِطريق: كيف رأيتَ هذه المدينة ؟
قال: رأيتُ أمرها كاملاً إلاّ في خلّة واحدة .
قال: وما هي ؟
قال: عدوّك يخترقها متى يشاء وأنت لا تعلم، وأخبارُك مبثوثة في الآفاق لا يمكنك سَتُرها .
قال: كيف ؟
قال: الأسواق فيها، والأسواق غير ممنوع منها أحد، فيدخل العدوّ كأنّه يريد أن يتسوّق. وأمّا التجّار فإنّها تَرِد الآفاق فيتحدّثون بأخبارك.
قال الخطيب: فزعموا أنّه أمرَ المنصورُ حينئذٍ بإخراج الأسواق من المدينة إلى الكرخ، وأن يُبنى ما بين الصَّراة إلى نهر عيسى. وولّى ذلك محمد بن حُبَيش الكاتب. ودعا المنصورُ بثوبٍ واسع فحدَّ فيه الأسواق، ورتّب كلّ صنف منها في موضعه، وقال: اجعلوا سوق القصّابين في آخر الأسواق، فإنّهم سُفَهاء وفي أيديهم الحديدُ القاطع. ثمّ أمر أن يُبنى لأهل الأسواق مسجد يجتمعون فيه يوم الجمعة لا يدخلون المدينة، ويُفرَد لهم ذلك ( تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 80:1 ).
وبهذا الترتيب أُخرجت أسواقُ التجارة ودكاكين الكسبة إلى محلّة الكرخ، وتَبِع ذلك بناءُ بيوت أولئك التجّار والبائعين. وهكذا تحوّلت الكرخ شيئاً فشيئاً إلى مركز للتجارة، إضافة إلى كونها محلاًّ للسكن ( تاريخ بغداد 79:1 ) .
وقد صرّح اليعقوبي في كتاب ـ  البلدان ـ  الذي ألّفه بعد بناء بغداد بحوالَي
130 عاماً بأنّ محلّة الكرخ كانت أبعادها من الغرب إلى الشرق فرسخَين ( حوالي
12 كيلومتراً ) ومن الشمال إلى الجنوب فرسخاً واحداً ( نحو ستّة كيلومترات )، أي أنّ الكرخ يومذاك كانت قد خرجت عن كونها سوقاً أو محلّة سكنيّة، بل كانت مدينة كبيرة تقرب مساحتها من 70 كيلومتراً مربّعاً .
وقد استمرّ العمران والبناء في الكرخ في العقود اللاحقة، حتّى عدّها علماء الجغرافيا في القرن الرابع الهجريّ من أكثر محلاّت بغداد عمراناً ( أحسن التقاسيم130 ؛مسالك المماليك للأصطخري 217 ) .


الزراع، والسقي، والاقتصاد في الكرخ
مدّ المنصور قناةً من نهر الدُّجَيل الآخِذ من دجلة، وقناةً من نهر كرخايا الآخِذ من الفرات، وجرّهما إلى مدينته في عقود وثيقة من أسفلها، مُحكمة بالصارُوج والآجُرّ من أعلاها. وكانت كلّ قناة منهما تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض، وتجري صيفاً وشتاءً لا ينقطع ماؤها في وقت. وجرّ لأهل الكرخ وما اتصّل به نهراً يُقال له نهر الدجاج، وإنّما سُمّي بذلك لأنّ أصحاب الدجاج كانوا يقفون عنده، ونهراً يُقال له نهر القلاّئين... ونهراً يُسمّى نهر طابق، ونهراً يُقال له نهر البزّازين... ونهراً في مسجد الأنباريّين ( تاريخ بغداد 79:1 ) .
ويمكن تقسيم هذه الأنهار إلى ثلاثة أقسام :
الأوّل: الأنهار التي يُستفاد من مائها لشرب الناس، حيث يُخزن الماء في أحواض في المناطق السكنيّة ويُستفاد منه للشرب على مدار السنة. ومن هذه الأنهار نهر كرخايا .
الثاني: الأنهار التي يُستفاد من مائها لسقي البساتين والضِّياع، وكان لوفور ماء السقي وخصوبة الأرض الأثر الكبير في اتّساع الزراعة وانتشار زراعة النخيل وأشجار الفاكهة، فأينعت وأثمرت ثمراً عجيباً .
وقد ذكر علماء الجغرافيا في القرن الرابع الهجري ( الاصطخري وابن حَوْقَل ) أنّ البساتين والمزارع كانت متّصلة بين بغداد والكوفة؛ بحيث لا توجد منطقة غير مزروعة في المسافة الفاصلة بينهما، وتبلغ حوالي ثلاثين فرسخاً ( مائة وثمانين كيلومتراً ) ( مسالك المماليك 84 ـ85 ؛تاريخ التمدن الإسلامي ،جرجي زيدان
188:2 ) .
الثالث: الأنهار المستخدمة لنقل البضائع التجاريّة. وقد ذكر اليعقوبيّ أنّ نهر عيسى الكبير الذي حُفر لأهل الكرخ ويأخذ من الفرات كانت تمرّ فيه السفن الكبيرة القادمة من مدينة الرقّة، وهي محمّلة بالطحين وأنواع البضائع من الشام ومصر، وتصل إلى قرب الأسواق والدكاكين في الكرخ، ولم تكن حركة هذه السفن تنقطع في وقت ( البلدان لليعقوبي 250 ) .
وفي الحقيقة كانت هذه السفن التجارية الكبيرة ترد من الفرات إلى نهر عيسى، فتسير فيه حتّى تصل مدينة المحول، ثمّ يجري تفريغ البضائع من السفن الكبيرة إلى سفن أصغر يمكنها المرور تحت الجسور الكثيرة المنصوبة على نهري الصَّراة الكبرى والصَّراة الصغرى، ثمّ تصل إلى أسواق الكرخ ( مسالك الممالك 84 ـ85  ).
وكان لهذه الحركة التجاريّة أثر كبير في ازدهار أسواق الكرخ، وقد ذكرت مصادر القرن الرابع أنّ هذا النشاط التجاريّ جعل مدينة بغداد يومذاك مركزَ ثقلٍ في التجارة العالميّة، وكان التجّار من الصين شرقاً إلى فرنسا غرباً يعتبرون بغداد أحدَ مراكز التجارة الأصليّة  يوم ذاك  ( مختصر كتاب البلدان لأبن الفقيه الهمداني 270 ) .


سكّان الكرخ
ذكرنا أنّ بداية تأسيس الكرخ كان الأمر الذي أصدره المنصور الدوانيقي وأوعز فيه بنقل أسواق التجارة إلى الكرخ. وتشير بعض المصادر التاريخيّة القديمة إلى أنّ المنصور أوعز أيضاً بإخراج العامّة إلى هذه المنطقة ( تاريخ الطبري 654 :7 تاريخ بغداد 79:1 ). وهكذا نُقلت الأسواق إلى الكرخ، وتبعها التجّار والكسبة فبَنَوا حولها دُورَهم .
وقد أقطع المنصور العباسيّ أولاده وأحفاده ومعهم أكابر العبّاسيين في أطراف بغداد أراضيَ واسعة. ومن جملة هؤلاء الذين أقطعهم المنصور ـ حسب نقل اليعقوبيّ المؤرّخ ـ المهدي وجعفر وصالح أبناء المنصور، وعيسى وجعفر من أحفاد عيسى بن عليّ، وإسماعيل بن علي، وقُثَم بن العباس وعبدالوهاب بن إبراهيم، والعبّاس، بن محمّد، والسَّري بن عبدالله وإسحاق بن عيسى وهم عمّ المنصور وأبناء عمومته .
وأقطع المنصور في داخل سور بغداد إقطاعاتٍ واسعة لأفراد حكومته وقادة جيشه ودولته خليطاً من العرب والفُرس ( تاريخ اليعقوبي 118:3و123 ). وكان أغلب جيش المنصور وقادة جيشه من الخراسانيّين (تاريخ الطبري 508:7 ).
ومن جملة الفرس الذين كانت لهم مناصب رفيعة في الدولة العبّاسيّة البرامكة.
وكان البرامكة في ابتداء أمر العبّاسيّين يعملون في البلاط العباسيّ، وكان منهم الكتّاب والندماء والوزراء والأمراء، ثمّ ارتَقَوا في المناصب في عصر هارون الرشيد. وقد أقطع المنصور لخالد البرمكي ( جدّ البرامكة ) أرضاً شرقيّ بغداد، فبنى فيها قصراً وضَيعة .
وكان الربيع بن يونس أحد رجال حكومة بني العبّاس وأصله من الفُرس، وكان يعمل حاجباً في حكومة المنصور، ثمّ أصبح ابنه الفضل بن الربيع وزيراً لهارون عند أفول نجم البرامكة .
وقد أقطع المنصورُ الربيعَ أرضاً واسعة تدعى ـ  قَطيعَة الرَّبيع ـ ، وأقطعه
كذلك أرضاً خارج بغداد جعلها أسواقاً ( تاريخ بغداد 88:1 ) .
ومن رجال حكومة المنصور يقطين بن موسى، وقد تنقّل في المناصب المختلفة في حكومة السفّاح ثمّ في حكومة المنصور. أمّا ولده عليّ بن يقطين فقد أصبح وزيراً لهارون الرشيد. وقد أقطع المنصور يقطيناً هذا أرضاً إلى جانب نهر الصَّراة. وأسرة يقطين هي أسرة كوفيّة من موالي بني أسد ( رجال النجاشي273/الرقم715 ) .
وقد أشار اليعقوبيّ إلى بعض المحلاّت في بغداد كان يقطنها فرس، مثل محلّة الكرمانيّين، ومحلّة الخوارزميّين، وأرض سلامة بن سمعان البخارائي وأصحابه، ومسجد البخارائيين، ومحلّة أبي أيّوب الخوزستاني المُورْيانيّ، وأرض الفضل بن سليمان الطوسي وغيرهم، كما تطرّق ـ ومعه الخطيب البغدادي ـ إلى ذكر العرب، والأتراك، والحرَّانيّين، وأهل حِمص، وأهل اليَمامة، والأفارقة .
وأشار اليعقوبي إلى وجود أرض بجانب نهر الصراة تسكنها قبائل عربيّة من قريش والأنصار وربيعة ومُضر ( البلدان 15 ).
وذكر اليعقوبي أيضاً أنّ المنصور أمر أن تُخصّص مِساحةٌ معيّنة في جميع المحلاّت للتجّار والأهالي ليبنوا فيها دورهم ويسكنوها .
وتبعاً لهذه المعلومات فإنّ أهالي بغداد في عصر المنصور ( النصف الثاني من القرن الثاني الهجري) كانوا ينقسمون إلى أربعة أقسام :
1ـ الأمراء والقادة مع حاشيتهم، وهؤلاء هم أقارب المنصور كالأعمام وأبناء الأعمام، وعائلة البَرامِكة وعائلة الرَّبيع وعائلة قُحطُبة .
2ـ رجال الدولة ورؤساء الدواوين، كرئيس ديوان الصدقات، ورئيس ديوان المظالم، والقوّاد. وهؤلاء كان لكلّ منهم أرض واسعة يعيش فيها مع رجاله وحاشيته وأعوانه.
وكان كثير من أفراد هذه الطبقة من موالي المنصور، ومنهم عدد كبير من الفرس .
3ـ القادة الصغار وعمّال الدواوين. وكان في هؤلاء ـ خاصّة في جيش المنصور ـ عدد كبير من الفُرس أيضاً .
4ـ طبقة الكسبة والتجّار، وكان هؤلاء التجّار ورجال الصناعات المختلفة والدَّهاقِنة قد هاجروا من البلاد المختلفة فسكنوا بغداد . وبعد أن عرفنا على معالم مدينة بغداد القديمة وكيف شيدت ، يجب علينا أن نحافظ عليها وعلى جمالها ونظافتها بالعمل الجماعي والتضحية والحب والتعاون فيما بيننا ويداً بيد للتعاون والتآخي للبناء والعمل لنعيد مجد بغداد العراق وهذا لا يتم إلا بالتكاتف وشد السواعد للعمل والبناء فلنعيد جمال بغداد بالتآخي والمحبة والله خير حافظ وهو أرحم الراحمين.
المحب المربي
سيد صباح بهبهاني
behbahani@t-online.de




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=2651
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 01 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29