• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : دعبل الخزاعي الوجه الأخر للشعر العربي 1 - المقدمة ...لماذا ؟!! .
                          • الكاتب : كريم مرزة الاسدي .

دعبل الخزاعي الوجه الأخر للشعر العربي 1 - المقدمة ...لماذا ؟!!

أولاً - المقدمة :

 لماذا دعبل الوجه الأخر للشعر العربي  :

نعوني ولمّا  ينعني غيرُ شـــامتٍ*** وغيرُ عدو ٍ قـــد أصيبتْ مقاتلـهْ

يقولون إن ذاقَ الردى ماتَ شعرُهُ**وهيهات عمرُالشعرطالتْْ طوائلهْ

سأقضي ببيتٍ يحمدُ الناس ِ أمرهٌ*** ويكثرُ مـــن أهل الروايةِ حاملهْ

يموتُ رديءالشعر ِ من قبل أهلهِ*** وجيدهُ يبقــى وإنْ مـــات قائـلهْ (1)

 على الكاتب أن يقول الحقيقة  بعيداً عن أي مؤثرات ومورثات سلبية أو إيجابية , ولا تأخذه في قول الحق لومة لائم أو استحسان لمحب دائم , يقول المازني " ومن أجل ذلك قالوا : ينبغي أن يكتب الكاتب على أنّ الناس كلهم أعداء  وكلهم خصوم . بيد من راضَ نفسه على توخي الصدق , والتجافي عن قول الزور " (2) , ودعبل - أولاً وأخيراً - شاعر عربي أصيل , نقدمه للقراء العرب وللإنسانية دون غبن لنضاله وجهاده , والرجل ذهب إلى رحمة الله , وظلمه التاريخ لأسباب سلطويه , ومذهبية ضيقة الأفق , ومن قبل بعض عباقرة العرب  , تناقلوا أخباره بعين واحدة:

وعين الرضاعن كلٍّ عيبٍ كليلة ٌ*** ولكن َّ عين السخط تبدي المساويا

 وللأسف تأتي هذه الأمور من كبار المفكرين قديماً وحديثاً (الحلقة القادمة سنذكرها ونحلل) ,دون التمييز بين تاريخ الحكام وتاريخ الشعوب , وأنا أكتب وجهة نظري المرئي بعد بحثي المضني (3) , ولا أزعم أنّ الرجل كامل الأوصاف , ولكن يجب أنْ لا نغبن أفذاذنا حقوقهم المضيئة , وجرأتهم المستميتة على نهج  المعارضة في عصر ذهبي كما هو الحال لدى الأمم المتحضرة المعاصرة وأكثر بكثير دون خوفٍ أو وجل , ويجب أن نقدمهم للإنسانيه كما خلقهم الله  بتعقل وتفهم للرأي الآخر , ربما لو تعمقنا في أرائه لكانت الأمة على غير هذا الحال السياسي والحضاري , فما أدراك وما أدراني ؟!      

    الأبيات الدعبلية التي توّجت  فيها مطلع المقال  بليغة جداً - وأخص البيتين الأخيرين -, وهي من روائع ما تسرب إلينا من نظمه القليل الشهير بين بطون الكتب  , أما معظم مجلداته الشعرية فقد أتلفها المتسلطون ليستروا عيوبهم أمام التاريخ المظلوم  , و تراثه الأدبي أيضاً قرضته الأيام لقسوة الحكام , وجور الأعوام , والأبيات توضح دون أي لبس مدى معاناته , وحقد شامتيه , وتربص أعدائه ومناؤيه , لجرأته وكثرة مريديه , وذيوع شهرته , وانتشار شعره في الآفاق حيث تتلاقفه الأسماع , , وتلوكه الألسن , وتتوارثه الأجيال  ,  للتفيس عن كبت آلآم المظلومين والمستضعفين والكادحين , وإصراره على مواصلة المسيرة الشاقة  , وإن طال السفر , أليس هو القائل  " لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدورعلى من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك " (4) !! ودليله لما هجا المعتصم(ت 227 ت هـ / 842م) وسخر منه , والمعتصم ليس بالرجل الهين المتسامح الحليم , كان ذا قوة عالية , وسطوة قاسية  " فصيحا مهيبا، عالي الهمه، حتى قيل انه كان أهيب الخلفاء العباسيين " (5) , إذ أراد هذا الخليفة  شراء عقيدة حامل الخشبة  وكسب ذمته بجائزة , فسخر منه الدعبل بطلب المستحيل (مائة بدرة) , فأجابه العاجزالمحتار  " نعم ,على أن تمهلني مئة سنة , وتضمن لي أجلي معها , فقال : قد أمهلتك ما شئت , وخرج مغضباً "(6) , ولام المؤرخون المعتصم على  وعدٍ أعطاه  ولم يستطعْ الإيفاء به ,  وما أن خرج منه شاعرنا حتى قال فيه أقسى أبيات هجاء , أخذت تكررها الأيام حتى يومنا هذا ساخرة  بالمهجو , مندهشة من جرأة قائلها  :

ملوك بني العباس في الكتب سبعة ***ولم تأتنا عن ثامن لهمُ الكتبُ
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ***كرامٌ إذا عُدٌّوا  وثــامنهم كلبُ
وإني لأعلي كلبهم عنـــك رفعـــــة ً *** لأنك ذو ذنبٍ وليــس له ذنبُ (7)

هدر الخليفة دمه , ولكن أنـّى يجده وهو واسع الحيلة , عالي الهمة , قوي البنية , مهاب الجانب , صلب العقيدة  , فهرب إلى أسوان , ومنها إلى متاهات أفريقيا فقال :

وإنَّ امرأً أمستْ مساقط رحلهِ***بأسوانَ لم يتركْ له الحرصُ معلما

حللتُ محلاً يقصرُالبرقُ دونهُ***ويعحزُ عنهُ الطيــفُ أنْ يتجشــما (8)

ولا يثيرك العجب العجاب , فالرجل هجا وسخر من قبل ومن بعد  الخلفاء العباسيين العظام على إطلاقهم , كالرشيد والأمين - ملمحا له , لأنه دون المستوى حسب رأيه - , وإبراهيم بن المهدي - ابن شكلة -  والمأمون والمعتصم نفسه والواثق والمتوكل , ووزرائهم  الحسن بن سهل وزير المأمون ووالد بوران زوجة المأمون  , وأحمد بن أبي داؤد وزير المأمون والمعتصم , وأحمد بن أبي خالد وزير المأمون , وأبي عباد الكاتب (ثابت بن يحيى الرازي) كاتب ووزير المأمون , ومحمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم والواثق , صاحب التنور المممسمر الذي كان يشوي فيه مناؤيه  , ولما قيل لابن الزيات : دعبل قد هجاك , فأجاب : ماذا أفعل لمن يحمل خشبته على كتفه ...!!, والمتوكل شوى هذا الوزير بتنوره سنة (233 هـ / 847 م) , وغسان بن عباد والي خراسان ومن ثم السند للمأمون , ومالك بن طوق والي الجزيرة في عهد المتوكل  الذي أرسل من  دس  السم لدعبل بعد أن بلغ الشاعر خمس وتسعين سنة ميلادية (765 - 860 م /148هـ -  246 هـ) , وهجا العائلة المتنفذة بني وهب , التي  أصبح أبناءها وزراء , ورماهم بالتخنث ! وقاضي القضاة يحيى بن أكثم , ودينار بن عبد الله قائد حرس الخلافة, وولاه المأمون كور الجبل  , وطاهر بن الحسين الخزاعي (بالولاء) قائد جيوش المأمون ومن دكّ بغداد وقطع رأس الأمين  , والمطلب بن عبد الله الخزاعي والي مصر قي عهدي الأمين والمأمون وغيرهم من القادة والمسؤولين , وأخيراً نصح الفضل بن مروان وزير المعتصم هازئاً به , لم يقف هذا الموقف الجريء والمستميت على إمتداد التاريخ العربي والإسلامي سوى دعبل  , بل ركل الولاية مرتين بقدميه , ولاية سِمِنجان من أعمال طخارستان (9) في عهد الرشيد سنة ( 174 هـ / 790 م) , وولاية إسوان  في عهد المأمون سنة (200هـ / 815م) , في حين أنّ المتنبي العظيم طلبها من الأستاذ كافور الأخشيدي , ولم ينلها وذلك سنة  (346 هـ /  957 م ) :

وغير كثيرٍ ٍأن يزورك راجلٌ **** فيرجعُ ملكاً للعراقيين واليا  (10)

طبعا مع فارق الشخصيتين والعصرين , مهما يكن , من المفارقات العجيبة مع كل ذلك طال عمر دعبل  حتى قارب القرن من الزمان . ومن الجدير ذكره أنّ موقفه المعارض كان على المستوييَن السياسي والديني ,إذ كانا وجهين لعملة واحدة في عصره , يمثل العباسيون السلطتين , والعلويون المعارضة لهما  , و أسمح لي أن أهمس في أذنك أنّ مديح دعبل ورثاءه مما وصل إلينا من شعره أكثر من هجائه وسخريته , ولا يقل جودة عنهما , ولكن أكثر الناس لا يعدلون ..!! 

التعقيب على موقفه والأسباب لانفراده :

1 -  هجاؤه وسخره من جميع خلفاء عصره وأركانهم في زمن كان يقتل الشاعر أو الكاتب لأتفه الأسباب وأبسطها وطال عمره المديد : هجا وسخر من كلّ هؤلاء الخلفاء والقادة العظام في عصر  كان يقتل فيه الشاعر أو الكاتب على أبيات معدودات  أو مجرد كتابة متشددة من قبل الخلفاء أنفسهم , أو ممن هم  دونهم بكثير  , فمثلاً هؤلاء  قـُتِلوا لزلة قلم أو هفوة لسان  :

 عبد الله بن المقفع الكاتب الشهير  الذي وضع كتاب (كليلة ودمنة ) , إذ بيّن فيه على لسان الحيونات واجبات الراعي والرعية , ودوّن في أحد أبوابه قانونا كاملاً لكيفية تصرف الملوك ,  وأوضح أتعس الملوك من يخافه البريء , وكان  كاتباً لوالي العراق الأموي يزيد بن عمر بن هبيرة , واتصل بالعصر العباسي بعيسى بن علي عم السفاح والمنصور والي الأهواز , هذا المقفع   قطعه سفيان بن معاوية والي البصرة إربا إرباً ورمى أعضاءه في  التنور سنة (142 هـ /759 م) , بطلب شفهي غير مباشر , وقيل بأمر كتابي  عقبى تشدد المقفع في كتابة صيغة الأمان التي طلبها عبد الله بن علي عم المنصور كي يبايعه (11) , وبرر بعض المؤرخين مقتلة لتزندقه والله أعلم .

وبشار بن برد  الرجل قدم على الخليفة المهدي ومدحه , ونال نصيبه من الجوائز , ولكن الخليفة هدده بالقتل لغزله الفاسق , ونسيبه الفاضح , ومهما قيل في سبب مقتله من أبيات تشير إلى تزندقه , وإنما الصحيح - حسب وجهة نظري , قد تمّ الأمر بتحريض الخليفة المهدي  من قبل الوزير يعقوب بن داود كي يقتله بتهمة الزندقة (168 هـ /784 م) لقوله الخبيث :

بني أمية هبّوا طال نومـــــكمُ *** إنَّ الخليفة يعقوب  بن داودِ

ضاعتْ خلافتكم يا قوم فالتمسوا**خليفة الله بين الزقِّ والعودِ

 فضرب سبعين سوطاً في البصرة , وقيل  لم يشيعه غير أمة سوداء أعجمية , هل تصدق مؤرخي السلاطين , إذ جعلوها  أمة غير حرَة , وأعجمية غير عربية  , في عصر عربي , وسوداء لسبب عنصري , أما البصرة قد فرغت من ناسها وأخيارها وشهّامها ورحمائها . 

 صالح بن عبد القدوس الذي قتله الخليفة المهدي وبرأه حفيده ابن المعتز الشاعر والأديب , والذي لم يحظِ بالخلافة إلا ليلة (قتل(296 هـ / 908 م) " يقول ابن المعتز ... حدثني محمد بن يزيد قال: حدَّثني العوفيّ قال: أخذ صالح بن عبد القدوس في الزندقة، فأدخل على المهدي، فلما خاطبه أعجب به، لغزارة أدبه وعلمه وبراعته، وبما رأى من فصاحته وحسن بيانه وكثرة حكمته، فأمر بتخلية سبيله، فلما ولّى ردّه وقال: ألست القائل:

وإن من أدبته في الصبا***كالعود يسقي الماء في غرسهِ

حتى تراه مورقاً ناضراً**** من بعد ما أبصرت من يبسهِ

والشيخ لا يترك أخلاقه**** حتى يواري في ثرى رمســـه

إذا ارعوى عاد إلى جهله **** كذي الضنا عاد إلى نكسـه

قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وأنت تترك أخلاقك? ونحن نحكم في نفسك بحكمك. فأمر به فقتل. " (12) .

 وحماد عجرد هذا المسكين كان متنفذاً في قصور الخلفاء , وله حظوة عند بعض المسؤولين بحيث يتوسل به بشار بن برد لقضاء حاجاته , وأيضاًهجّاء كبشار وابن الرومي ودعبل , ولكن دعبل لم يُنزّل نفسه لصغار القوم وعامة الناس , شأنه الكبار الكبار لأسباب عقائدية وسياسية , وما استطاعوا إليه سبيلا حتى شارف القرن من عمره المديد , لذلك ولأسباب أخرى سنذكرها أطلقنا عليه ( الوجه الآخر للشعر العربي ) , نعود لحماد , والعود أحمد , نعم حماد هجاء حتى النخاع , ويبدو بشار أمامه مهذباً ! وحدث خلاف بينهما وهجاء , ولكن لم يقتل الحماد بسبب هجائه , بل بسبب تشبيبه بامرأة اسمها زينب بنت سليمان , إذ كان الشاعرصديقاً مقرباً من محمد بن أبي العباس السفاح , وهذا الـ (محمد) خطب هذه الـ (زينب) , فلم  يزوجوه , فطلب من حماد أن يقول فيها شعراً , فلبى الطلب مراراً , ووقع في الفخ إذ كرها مرة بقصيدة مس فيها الشرف حسب مفاهيم أخيها , ومنها البيت , ويقصد بالـ (مليك) أخاها محمد بن سليمان :

ولولا مليك نافذ فيه حكمهُ *** لأدى وصالاً ذاهباً كل مذهبِ

فهدر دمه الأخ المكلوم , مما أثار تخوف حماد , فمدح سليمان وابنه محمد والعائلة , لم ينفعه هذا التنازل والخنوع , فلما مات محمد بن أبي العباس السفاح تتبعه وجد  في طلبه حتى قتله مولى لمحمد بن سليمان بالأهواز (13) , وقيل كانت تهمته الزندقة , واختلفوا في سنة وفاته سنة (155 هـ /772م ) أو (161هـ /778م) , هل أنت معي تتساءل : كيف فلت دعبل من أنياب ليوث ونمور وذئاب  , لا تعرف الرحمة مع أشياعهم كالرشيد وبرامكته , والمأمون وذي رئاسته, والمعتصم وفضله وأفشينه , والمتوكل وابن زياته ناهيك عن أعدائهم ومعارضيهم السياسين , بل وطال عمره المديد , كأنه يسير وفق المثل المشهور ( أطلب الموت توهب الحياة)؟ أليس هذه الجرأة المتناهية وجهاً آخر للشعر العربي؟

2 - ليس بسبب تشيعه وولائه للمعارضة العلوية , ومدحه لآل البيت كان وجهاً آخرللشعر : دعبل شاعر عربي مسلم موالي لآل البيت بدليل تائيته  الشهيرة  , ولكن هذا لا يعني أنه متميز بوجهه ,  فالشاعر العربي عربي مهما كان مذهبه أو دينه أو عقيدته السياسية , فمثلاً  هؤلاء من أكبرالشعراء الموالين للبيت العلوي , ولكنهم ليسوا بوجه آخر للشعر : 

 الفرزدق أبو فراس همّام بن غالب التميمي : من أشرف بيوت البصرة ( ت 114 هـ / 732م) الذي تقوم العرب وتقعد على قصيدته في مدح الإمام زين العابدين (ع), وسجن عليها ستة أشهر من قبل هشام بن عبد الملك قبل توليه الخلافة , ومطلعها :

هذا الذي تعرف البيداء وطأته *** والبيت يعرفهُ والحلُّ والحرمُ

ولكنه أصبح مرتزقاً من بعد , ومدح الخلفاء الأمويين , بل رأى أن الخلافة من حقهم :

أمّا الوليد فإنَّ الله أورثهُ *** بعلمهِ فيهِ ملكاً ثابت  الدعم ِ

والكميت بن زيد الأسدي ( قتل 126 هـ /  744 م) , فإذا كان الفرزدق من أهل البصرة , فالكميت من أهل الكوفة , والفرزدق هو الذي أجازه بعد أن عرض على رائده قصيدته البائية الشهيرة في مدح آل البيت  , والتي مطلعها :

طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ *** ولا لعباً مني وذو الشيبِ يلعبُ

ومنها البيت الشهير الذي يستشهد به النحاة , والقصيدة من مجموعة (الهاشميات)المتبقية , فمعظم شعره اندثر  , والبيت الشاهد :

فما ليً إلا آلَ أحمدَ شيعة ٌ*** وما ليَ إلا مذهبَ الحقِّ مذهبُ

الشاهد فيه قوله " إلا آل أحمدَ" , و " إلاّ مذهبَ الحقِّ " حيث نصب المستثنى بإلا في الموضعين , لانه متقدم على المستثنى منه , والكلام منفي (14) .

الكميت ( أبو المستهل)  كان شجاعاً فارساً خطيباً سخياً فقيهاً مناظراً , ومصرحاً بولائه لآل البيت في أصعب الظروف , هذا صحيح لا ينكره أحد , ولكن عند هجائه اليمانية ,غضب عليه والي العراق خالد بن عبد الله القسري وسجنه , وسعى به للخليفة هشام بن عبد الملك , فأمر بقتله , ففرَّ من السجن وذهب إلى الشام , فاستجار بقبر معاوية - كما قيل - , ومدح آل أمية بقوله:

  والآن صرتُ إلى أميةَ*** والأُمور إلى المصايرْ

والشيعة تعلل مدحه بالتقية , وبإجازة من الإمام الباقر (ع) (15) , ولو أن الشيعه تضعه مع دعبل على قدم المساواة , لكننا لا نستطيع أن نراه وجهاً آخر للشعر العربي , ليس بسبب مدحه فقط , وإنما لم يتجرأْ كدعبل من الهجاء والسخر من القيادة من ألفها إلى يائها , وربما يسأل سائل , وهل كان دعبل محقاً في هجائه وسخريته في عصر يعده العرب والمسلمون كان ذهبياً , ولِمَ لا ؟ كان العصر ذهبياً بكل مكوناته وعناصره ...بسلطاته ومعارضيه وعباقرته ورجاله وناسه , ثم هل كان دعبل علماً بما يأتي به الغيب ؟! !

المهم تمر عدة أعوام  , ويتولى يوسف بن عمر الثقفي ولاية الكوفة , وذهب الكميت إلى مجلسه وكان جنود من اليمانية وقوفاً على رأس يوسف، وكان يتحين فرصة للتخلص من الكميت، فأشار إليهم أن يضعوا سيوفهم في بطنه، ففعلوا ووجأوه فمات لساعته بعد نزف شديد (16)

والسيد الحميري أبو هاشم إسماعيل بن محمد بن يزيد ( ت 173 هـ / 789 م ) , ولد قرب  الرحبة على الفرات من بلاد الشام , كان متصوفاً , له مدائح بديعة في أهل البيت ، قيل : إن بشارا قال له : لولا أن الله شغلك بمدح أهل البيت ، لافتقرنا ,(17) ولكن كان مقرباَ من المنصور والمهدي . وله مديح فيهما , مدح بني هاشم جميعاً بعلوييهم وعباسييهم , فلم يكن معارضاً , من أين يأتيه الوجه الآخر ؟!

والشريف الرضي (359 هـ - 406هـ / 970م - 1016م) : شاعر من الطبقة الأولى دون شك ,كان أديباً فقيهاً , تعرض أبوه للسجن الطويل , وعاش عيشة البؤس في صباه , وهو سيد علوي  , ولكنه ليس منفردا , فقد تفرق ولاؤه بين الديلم والأتراك , مدح الطائع ورثاه , ومدح القادر من بعده  ,ونكبه الأحير , ثم نكبه بتهمة ولائه للعلويين , ولا ريب هو من شعراء العرب والشيعة الكبار  , ومدح الوزراء والملوك دون أي تكسب أو ارتزاق , فمثلاً يخاطب بهاء الدولة البويهي :

فجربني تجدني سيف عزم ً***يُصمّمُ غربهُ وزنادَ راء (18)

لذلك  لا يمكن أن يكون وجهاً آخر للشعرالعربي . 

3-  كرمهُ الشديد دليل جرأته المتناهية , وكان متميزاً فيهما , إضافة لعلو منزلته  : لا ريب عندي عقبى ما ذكرته سالفاًً, وما سيأتي لاحقاً من قصائد الهجاء والسخرية لعلية القوم وعظماء السلطة النافذة , وما تواترت من أخبار عنه في بطون الكتب , إنـّه أجرأ شاعر ولدته الأمة مع امتلاكه سعة الحيلة,وعلو الهمة , ومنزلة احتماعية محببة .

 صاحب (الأغاني) ما كان يود دعبلاً طبعاً لمولاته للخلفاء والنافذين , فيحاول الإساءة إليه ,  والتقليل من شأنه  , ويروي الأخبار عن الحاقدين عليه مثل أبي خالد الخزاعي , والأصفهاني صاحب (أغانيه) لم يعاصره أصلاً , إذ ولادته 284 هـ / 897م بينما دعبل وفاته  246هـ /860م , يذكر لنا , ونحن نريد الزبدة : قال له ذات يوم أبو خالد الخزاعي" ويحك ! قد هجوت  الخلفاء والوزراء والقواد ووترت الناس جميعاً, فأنت دهرك كلـّه شريد , طريد , هارب , خائف , فلو كففت عن هذا , وصرفت هذا الشر عن نفسك , فقال : ويحك ! إنـّي تأملت ما تقول ,, فوجدت أكثر الناس لا ينفع بهم إلا على الرهبة ..." (19) , ضع خطاً تحت (وترت الناس جميعا), الرجل كان محبوباً مهاباً ذا شخصية قوية , ينقل عن شخصيته الرائعة (أبو العباس المبرد ) ( ت 286 هـ / 899م)صاحب (الكامل) الشهير , حين رافقه وقبل يديه  ما يدهشك , وينفل الرواية ابن المعتز العباسي في (طبقاته) !! ويعتبره ابن الكلبي النسابة المعاصر له: بأنه خزاعة كلها , بل أحاطه اليمانيون كلهم , وكانوا في عصره يشكلون معظم القبائل العربية المتنفذة , والبحتري شاعر القصر الجعفري الشهير , والذي كان بمثابة وزير إعلام المتوكل , رثى أستاذه أبا تمام ودعبل في ثلاثة أبيات رائعة سنذكرها في   حينها , وكان دعبل يتحفظ أن يذكر أي شاعر مهما بلغ حجمه وشعره بسوء عدا أبا سعد المخزومي الذي حُرك ضده من قبل الخلفاء ,ولعلك أدرى أنّ مديحه لآل البيت أكسبه المعارضة والعلويين وأشياعهم , ولولا كل هذا لما طال عمره المديد , ثم ضع خطاً تحت كلمة (خائف) , هل يعقل من يخاف يهجو ويسخر من أكبر وأعظم وأبطش وأقسى رجال عصره ؟ بل على العكس بدليل قوله " فوجدت أكثر الناس لا ينفع بهم إلا على الرهبة ", يقصد بأكثر الناس المتسلطين على رقاب الناس الذين هجاهم ونبذهم حفظاً لكرامته ! لذلك يقول على من يعتب عليه على موقفه:

فإنْ كنت تحسبني جاهلاً***فأنت الأحقّ ُ بما تحسبُ

فلا تكُ كالراكب السبع كي***يهابَ وأنت لـه أهيبُ (20)

ومن العجيب أن دعبل سبق ميكافيلي الإيطالي ( ت 1627م) بحوالي  ثمانية قرون , وعكس فلسفته , إذ يريد دعبل  ان يكون الشاعر مرهوباً من الحاكم أو المتسلط بقوة الشعر الذائع الصيت , إذ كان وسيلة إعلامية نافذة مهيمنة على المجتمع , في حين (مكيافلي في كتابه (الأمير( يخاطب أميره قائلاً " كن مرهوباً أفضل من أن تكون محبوباً " .

الشجاعة والكرم لدى الإنسان صفتان متلازمتان , ويتناسبان طردياً , لذلك كان دعبل شديد الكرم جداً , وكرر هذا مراراً وتكراراً في شعره ,, ولهذه الخصلة المحببة  كان الإعراب والعوام , وبعض المتنفذين يتسترون عليه من عيون الخلفاء والمتسلطين , أقرأ كيف يخاطب  زوجته , الذي يطلق عليها ( سلمى ) , ويدلعها بالكنايات :

قالتْ سلامة : أين المال ؟ قلتُ لها :***المالُ ويحك لاقى الحمد فاصطحبا

المالُ فرّق مالي في الحــــقوق فما *** أبقين ذمّـــاً ولا أبقين لي نشـــــــبا (21)

قالت ســــلامة دعْ هذي اللبون لنا*** لصبيةٍ مثل أفراخ القطـــا  زغبـــــــا

قلتُ : احســـبيها ففيها متعة  ٌلهمُ  *** إن لم ينخْ طارق ٌيبغي القِرى سـغِبا (22)

لمّا احتبى الضيف واعتلـّتْ حلوبتها*** بكى العيـــالُ , وغنـّت قدرنــا طربا

هذي سبيلي ,  وهذا فاعلمي خـُلقي **فارضي بهِ أو فكوني بعض من غضبا (23)

دقق على ( أسلوب الحكيم ) في إجابة عجز البيت الأول  , وصدر البيت الرابع , والأستعارة المكنية الرائعة في ( وغنـّت قدرنا طربا) ,ما هذا التفاني في التضحية في سبيل العام , لا يمكن لهذا الشعر أن يكون مصطنعاً , الشاعر الشاعر لا يمكن أن يسكب إلا ما يعتلج في خوالج نفسه الصادقة , وأزيدك  هذين البيتين :

إذا نبح  الأضياف كلبي تصببتْ*** ينابيع من ماء السرورعلى قلبي

فألقاهمُ بالبشـــر والبر والقِرى *** ويقدمهمْ نحوي يُبشـــرني كلبـي (24)

ما هذا الكلب المعوّد  على تبشير صاحبه عند قدوم الأضياف , وما عددهم وكثرتهم وتعويدهم حتى يتعود هذا الكلب , فأخذ يأنس الناس لأنس صاحبه , وينقل إلينا ابن المعتز هذه الحادثة الطريفة  : " قصد إلى دعبل شاعر,فقال : إني مدحتك , فقال : أوتعرفني ؟ قال : نعم أنت دعبل  , قال إذن فأنشد  , فأنشده:

لقائل ٍقلتُ وقد قال لي ***أكرم مـــن تســـــــألهُ دعبلُ

أيطلبُ السائل من سائل ٍ؟ ***فقال لي السائل لا يبخلُ

لبئس ما قدر في نفســه*** أن يسأل الناس ولا يسألُ

قال : فوصله وأكرمه " (25)

في  عصر دعبل ينتشر اسم الشاعر وشعره في العالم العربي والإسلامي دون معرفة شكله أو شخصيته لعدم وجود آلات التصوير والمحطات المرئية , والصحف والشبكة العنكبوتية , فسؤال دعبل (أو تغرفني ؟) من حيث الشخصية لا الاسم ,وركز رجاءً على (أكرم) و (لا يبخل), والحقيقة دعبل كان مآوى الشعراء , ولا يمس أحداً منهم مهما صغر شأنه , وضاقت سعة شهرته , وفي تلك الأيام كان الشعراء من الطبقات المميزة بحسن الأحوال الأقتصادية لظروف العصر , وتأثير الشعر  , عدا الهجّائين , وعلى ما يبدو لنا كان دعبل مسنوداً من بعض المعارضين للسلطة , وأحياناً من المحسوبين عليها خشية من سلاطة لسانه وتوريطهم في مأزق كبير , ولكن لا يبقى شيء لديه لبسط يديه , ونحن ما يهمنا موقفه الصلب الذي لم يتزعزع مطلقا من القيادات العليا طيلة عمره المديد .

4 - عصر دعبل ودولته المترامية الأطراف تجعله عاجزاً أن يجد مآوى له, ولا يبالي ! :

نصف عباقرة العرب وأفذاذهم عاصروا دعبلاً (تولد 148 هـ) , وبزّهم شهرة وسمعة مع صاحبه أبي نؤاس (تولد 142هـ)  , الأخير أكبر منه بست سنوات  , الأول لهجائه المقذع , وسخريته اللاذعة من أعظم قيادات العصر ورجالاته , لذلك شبهه المرحوم هادي العلوي بظاهرة مظفر النواب في هذا العصر في كتابه ( الهجاء في الشعر العربي) - سنعلق في الحلقة الثانية , أما الثاني لمجونه وعبثه وتغزله , وأنا أشبهه بظاهرة نزار القباني في هذا العصر من حيث الشهرة , والنظم على طريقة ولوج المشاعر والأحاسيس الإنسانية اللاهفة بغريزتها للجنس الآخر , والمتعة الجسدية بأنواع ملذاتها بالنسبة للنؤاسي  الذي تزهد أواخر حياته حتى الطهر !   , ولك أن تشبه القباني بعمر بن أبي ربيعة مع فارق السلوك لمقتضيات مركز الأول  , وهو أكثر شهرة من عمر الأموي , وأقل شهرة من النؤاسي العباسي ! الوظيفية والرسمية والعائلية  , والعصر الذي عاش فيه دعبل , كانت الدول الإسلامية كلها تحت سلطة الخليفة ( أينما تمطري خراجك لي ) , فليس للشاعر ملجأ آخر يلجأ إليه عند هجائه , ومن هنا ينفرد دعبل في وجهه الآخر ,  لذلك يفول المتنبي :

آتى الزمان بنوه في شبيبتهِ *** فسرّهم وأتيناه على الهرم

ونسى المتنبي (ت 354 هـ) عصره فيه متنفس للهروب الآمن , فعندما ضايقه سيف الدولة ورجاله , شدّ الرحال إلى مصر الأخشيدية , ولما هجا كافور هرب للعراق ومنه إلى بلاد قارس عيث غضد الدولة البويهي ,ومدحه ورثى أخته , وكذلك يقول أبو العلاء المعري (ت  449 هـ) :

وإني وإنْ كنتُ الأخير زمانه *** لآتْ بما لا تستطعهُ الأوائلُ

عصر دعبل عصر بشار في عبثه وتجديده , وأبي العتاهية في زهده , ومسلم بن الوليد( أستاذه) في مصرع عوانيه , وديك الجن في حمصه , وأبي نؤاس في مجونه وغلمانه ,وعلي بن الجهم في عيون مهاه بين رصافته وكرخه, وأبي الشمقمق بين سحابه وأرضه ووجوديته , وأبي دلامة في ظرفه ومنادمته , وأبي تمام مع سيفه في عموريته , والبحتري بين متوكله في جعفريه , وابن الرومي في تطيره ووسوسته , والعباس بن الأحنف صديقه في رقته , وأبي الشيص ابن عمه ورفيقه , الكسائي في قراءته ونحوه والفراهيدي في عينه وعروضه ,سيبويه في كتابه وبصرته والأخافشة كبيرهم وأويطهم وصغيرهم في نحوهم , وابن العربي في لغته , والرؤاسي في صرفه ,وابن العربي في لغته , وابن هشام في سيرته , والجاظ في ضخامته عاصره في تمام حياته إلا قليلا ( الجاحظ 159 هـ - 255 هـ ) , الطبري في تاريخ ملوكه ورسله , واليعقوبي في اختصار تاريخه , والمبرد في كامله , وابن الكلبي في نسابته , والأصمعي في روايته وحفظه , وسهل بن هارون في كتابته وبخله , والخوارزمي في جبره ومقابلته , وجابر ابن حيان في كيميائه , وحنين بن إسحاق في ترجمته , وثابت بن قرّة في أعداده وسنتهِ الشمسية , ومن الأئمة والفقهاء  مويى الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري لم يشهد إمامته , ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل , وولد قبل وفاة أبي حنيفة بسنتين  وغيرهم مما لا يتسع المجال لذكرهم , ولم أدوّن التواريخ للإختصار ,أقول اشتهر دعبل أوسع ممن ذكرتهم حيث وصل شعره من بلاد الأندلس حتى حدود الصين عند ممن يتكلم العربية , ويتتبع أخبار الخلفاء والوزراء والقادة والولاة , ولكن أتلفوا شعره , ولم يبق إلا النزر القليل , ومع كلّ هذا ظلّ شاعراً شهيراً مميزاً يردد العرب شعره ساخرين من الطغاة  مندهشين لشجاعته  , لأن الناس من جبلتهم وطبيعتهم الإعجاب والتعلق بالأبطال , فماذا لو وصلنا جميع نتاجه : " قال الجاحظ: سمعت دعبل بن علي يقول: مكثت نحو ستين سنة ليس من يوم ذر شارقه إلا وأنا أقول فيه شعرا. " (26) وله مؤلفات أخرى انقرضت برسم العداء والغزوات ومنها :" له كتاب: الواحدة. في مناقب العرب ومثالبها. وكتاب: طبقات الشعراء. وهو من التآليف القيمة، والأصول المعول عليها في الأدب والتراجم، ينقل عنه كثيرا المرزباني في معجم الشعراء "(27)

(5) لا يوجد شاعر عربي على امتداد العصور الأدبية من  المهلل وامرئ القيس حتى شوقي  والجواهري هجا كل سلاطين عصره وقيادته , وثبت على موقفه حتى الموت سوىدعبل الخزاعي:

الشعراء الجاهليون منذ مطلع القرن السادس الميلادي (500م) وبزوغ شاعرية  عدي بن ربيعة الذي أول من هلـّل بالشعر  ( المهلل ت 531م ) مروراً بأصحاب المعلقات العشر وهم - حسب التسلسل التاريخي - : امرؤ القيس , طرفة بن العبد , عبيد بن الأبرص , حارث بن حلزة ,عمرو بن كلثوم , النابغة الذبياني ,زهير بن أبي سلمى , عنترة العبسي , الأعشى الأكبر , لبيد بن ربيعة , وبقية الشعراء كالخنساء والحطيئة (28) بمعنى حتى الهجرة النبوية الشريفة (622 م) , كان الشعر الجاهلي بدوي النزعة ينطلق من بيئته الصحراوية , ويتعلق بالأطلال الدارسة , والذكريات العالقة  , أما الشاعر فهو لسان القبيلة يفتخر بمآثرها , ويذود عن شرفها , ويكرّ على أعدائها إعلامياً , وهنالك حادثة شهيرة سجلها الشاعر التغلبي عمرو بن كلثوم في قصيدته الحماسية المنفعلة بعد أن تعرض وأمه للإهانة من قبل ملك المناذرة في الحيرة عمرو بن هند ( ت 576م) , ومطلعها مشهور لدى القاصي والداني :

ألا هبـّي بصحنك فاصبحينا *** ولا تبقي خمور الأندرينا

والحقيقة لا تـُعد القصيدة موقفاً سياسياً ولا عقائدياً , بل نزعة قبلية خالصة ,لأن القسم الأول منها يحتكم فيها لدى الملك ابن هند , وهذا يعني أنّ القبيلة التغلبية وشاعرها  ابن كلثوم يعترفون بالملك , ويرضون بحكمه , وغلبهم البكريون وشاعرهم الحارث بن حلزة , والقسم الثاني من معلقة ابن كلثوم الذي أكملها من بعد  يفتخر بقبيلته ومقتله للملك بعد الإهانة , تشرذم التغلبيون بعدها شذراً مذراً , وهنالك خاطرة أخرى في العصر الجاهلي مرّت على أحاسيس الشاعر النابغة الذبياني , إذ تعرض كناية للمتجردة امرأة النعمان بن المنذر الرابع ملك الحيرة , فقال عنها :

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ***فتناولته واتقتنا باليدِ

فنذر النعمان دمه , فهرب إلى الشام  , ولجأ إلى ملوك  غسان ثم اعتذر إليه بشعره الذي يقول فيه :

فأنك  كالليل الذي هو مدركي *** وإن خلت أن المنتأى عنك واسعُ

ثم أردفه بقصيدة استعطاف أخرى يقول في أحد أبياتها :

نبئت أنّ أبا قابوس أوعدني ***ولا قرار على زأر ٍمن الأسدِ (29)

ثم صفح النعمان عنه وحياه بتحية الملك , وقال أبيت اللعن " أتفاخر وأنت سائس العرب , وعزّة الحسب "(30) .

والحطيئة  ت 59هـ / 679م ) وهو شاعر مخضرم جاهلي إسلامي  اسمه جرول بن أوس , موقفه مضطرب بين الهجاء والمديح , نسبه متذبذب , يتكسب بشعره , يكيل المديح لمن يرعاه , ويقذف من يرده خائباً , حبسه الخليفة عمر بن الخطاب , استعطف  الشاعر الخليفة ببيتين من الشعر قال فيهما :

ماذا تقول لأفراخ ٍ بذي مرخ ٍ***زغب  الحواصل  لا ماءٌ ولا شجرُ

ألقيت فارسهم في قعر مكرمةٍ*** فأغفرْ عليك ســــلام الله يا عمرُ

 فصفح عنه على أن لا يتعرض لعرض المسلمين , نتعدى شاعري الرسول : (كعب بن زهير) صاحب البردة (بانت سعادُ) , و( حسان بن ثابت ), وجميع الشعراء الأمويين والعباسيين معظمهم مدح الخلفاء والسلاطين والأمراء  , أوتوجهوا لأغراض الشعر الأخرى دون المساس بأصحاب الأمر والنهي , كجميل بثنية وكثير عزة وليلي الأخيلية ومجنون ليلى وعمر بن أبي ربيعة وشعراء السياسة كالأخطل شاعر بني أمية , والفرزدق الموالي للعلويين والمتكسب من الأمويين , وجرير الذي تنازع مع الأخطل لمدح عبد الملك بن مروان بدعم من الحجاج ,وقال لعبد الملك :

ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح ِ

أشرنا ونشير الآن للكميت واستغاثته بالأمويين ومقتله علي يدهم , وبشار المجدد الأول  ومدحه للمهدي وهجائه  ومجونه ومقتله , وأبي نؤاس المجدد الثاني  وخمرياته وغلمانه ومرافقته للأمين ومدحه وتزهده أخيراً  , وأبي العتاهية ومدحه للمهدي و الرشيد والمأمون  ومجونه وتزهده  , والحسين بن الضحاك  وخلاعته , والعباس بن الأحنف وغزله وتشبيبه بتعفف , وأبي تمام ومحاولته للتقرب من المأمون , فما استطاع , ثم أصبح شاعر المعتصم الأول وهو شاعر فتح عمورية (والسيف أصدق أنباءً من الكتب ) , وتلميذه البحتري شاعر المتوكل والفتح بن خاقان , ثم غمز من قناة ولي نعمته , ومدح المنتصر قاتل أبيه , ثم هجا الأخير ومدح المستعين , وعندما يقتل المستعين هجاه ومدح المعتز , وأخيراً تشبه بالمهتدي الذي جعل الخليفة عمر بن عبد العزيز , ولكنه رثى دعبلا وأستاذه أبي تمام , وابن الرومي ماذا تتوقع منه وهو المتطير المسكين غير قوله :

لا أقذع السلطان في أيامهِ***خوفاً لسطوته ومر عقـــــابهِ

وإذا الزمان أصابه بصروفهِ**حاذرتُ رجعتهُ ووشك مثابهِ

وأعدُّ لؤمـــــاً أنْ أهمَّ بعضهِ***إذْ فلـّت الأيــــــامُ من أنيابهِ

فليعلم الرؤساء أني راهبٌ ***للشر والمرهوب من أسبابهِ

حرم الهجاءُعلى امرئٍ إلا امرأً*وقع الهجاءُعليهِ من أضرابهِ (31)

هذا شأن معظم  الشعراء عاجزين على هجاء السلاطين في حياتهم, ويخشون رجوعهم من بعد أو ـسلط مريدوهم , وأعلنها صراحة وبالفم الملآن ليعلم الرؤساء أنه يرهب منهم , وما عليه إلا  هجاء أضرابه  , وما كان الدعبل كبقية الشعراء , إذ يهجو ويسخر , ولم يهتزُّ له طرف , أنتظر مني حلقة هجائه وسخريته , وما ذلك ببعيد!!

وذكرنا الشريف والمتنبي , نعم بقى لدينا أبو العلاء المعري الذي لم يمدح أي خليفة أو سلطان , ولم يهجُ  منهم أحدا كالعباس بن الأحنف  , نعم هجا المعري زمانه وسياسييه بل الدنيا  كلها :

لا أخطب الدنيا إلى مالك الد *** نيا ولكن خطبني أختها

النفس فيها وهي محسـودة *** ذات شقاءٍ عدمتْ بختها

ما أمّ دفـــر ٍأمّ طيبٍ ولـــو *** أنـــك بالعنبر ضمختــــها (32)

ننهي الحلقة بأبي العلاء , وحكمه على ( أم دفر) الدنيا ,فهل تستأهل الكلام , والحال من بعضه؟ !  عليك أن تتمعن  في شعر المعاصرين , وكم من دعبل احترم موقفه الثابت المتعقل  من التمايز الطبقي والفكري , وليس بالضرورة أن يطابق أو يتقارب موقفه وفكره من موقفي وفكري , فما بيننا ما يقارب ألف ومائتي سنة , ولكن في خبايا  التاريخ  عبر وقكر وصور ومواقف جريئة يجب علينا التأمل فيها واحترامها ودراستها وتحليلها للصالح العام  , ويجب علينا أن  لا نطلق الأحكام  عليها كما أطلقها الأقدمون , والإنسان إنسان , وإلى الحلقة القادمة الآتية , وكلُّ آت قريب !! 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=23460
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 10 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18