• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : التسقيط وإعادة الإحلال .
                          • الكاتب : محمد علي آل مسيري .

التسقيط وإعادة الإحلال

 التسقيط في اللغة من السقوط والانحدار وفي الاصطلاح هو الحط من القدر ونفي الصفات الحسنة وتهميشها وإبراز الصفات السلبية أو الكاذبة بغرض النيل وتشويه الصورة ، ويستخدم كأداة على مستوى الأنظمة السياسية حيث يهدف إلى الحد من تأثير دوائر الاستقطاب النامية والتي تحاول كسر مزلاج باب حقل السلطة والسيطرة على أكبر مساحة فيه ، مما يؤدي إلى التصادم مع الفاعلين داخل الحقل بوسائل مختلفة يتم فيها استثمار رأس المال الاجتماعي والمعرفي والاقتصادي في إدارة الصراع كما يقول بيير بورديو ، من أجل السعي نحو إعادة ترتيب الحقل وفق قواعد وتحالفات جديدة كما نراه في بعض الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة في بعض الدول أو من قبل الأنظمة الشمولية أو الثيوقراطية لتقويض أي محاولة لإعادة ترتيب الحقل السياسي.

 

 

التسقيط ينطلق من ركائز اجتماعية أساسية تملك الفعالية الكافية لإثارة الناس والتأثير على قراراتهم، فالفساد المالي والخيانة والاستغلال السلبي للنفوذ تُشكل موضوعات في غاية الحساسية بالنسبة للمجتمعات الغربية بينما يحتل الدين والشرف المكانة الأبرز لدى الجماهير في الدول الإسلامية والعربية والدول التي توصف بأنها محافظة عموماً.

 

 

لجوء الأنظمة السياسية إلى محاولة تسقيط دوائر الاستقطاب الحديثة من أفراد وجماعات يعود في رأيي إلى ما سماه ادوارد ثورندايك بتأثير الهالة ، والتي تعني أن عامة الناس يميلون إلى إصدار أحكام مبدئية عن الأشخاص والأفكار التي يتعرفون عليها لأول مرة دون أن تكون تلك الانطباعات صحيحة بالضرورة ، هذه الأفكار تبقى في الغالب مع الشخص ولا تتغير إلا اذا تعرض إلى هزه فكرية عنيفة ، ولأن دوائر الاستقطاب تسعى لشغل مكان يزيد من شعبيتها داخل الحقل ، فإن التسقيط الذي تمارسه الأنظمة يعمل على الذهاب إلى الجمهور بصورة مباشرة قبل تنامي قوة تأثير دوائر الاستقطاب وغرس فكرة سلبية ومشوهه عنها ، لتصبح الجماهير تحت تأثير هالة يصعب معها الانجذاب لهذه الدوائر، ومن ناحية أخرى فإن التسقيط كمادة توفر التبرير للجماهير الناكصة والمهاجرة عكسياً من تأثير القوى الصاعدة إلى أحضان القوى التقليدية.

 

 

تسقيط دوائر الاستقطاب المتمردة على النسق العام داخل الحقل السياسي في الأنظمة الشمولية والثيوقراطية يُستخدم لمواجهة التحديات والتغيرات الاجتماعية المتجددة التي تحاول إنهاء حالة السيطرة التقليدية المفروضة من قبل السلطة المحتكرة لممارسة العنف المشروع على حد تعبير ماكس فيبر وتقوم بفرض نمط سائد على الحقل من اجل الحفاظ على المغانم التاريخية المُتحصلة عن طريق شبكة معقدة من المصالح المتقاطعة ، محاولة التأثير على دوائر الاستقطاب داخل الحقل الاجتماعي بصورة عنيفة عن طريق التسقيط واستخدام الوسائل المالية أو القانونية أو توظيف العنف المحتكر للمصلحة الذاتية للسلطة ينتج عنه تصادم تلك المكونات مع بعضها البعض من جهة ومع السلطة من جهة أخرى بصورة  حادة بسبب البروز المتصاعد للاعتزاز بالقيم والمبادئ والأهداف والسلوكيات والأدوات التي تؤمن بها مجمل دوائر الاستقطاب ومن ورائها جماهيرها ، محاولة التأثير هذه تخلق وسطاً متوتراً شديد الاحتقان خصوصاً فيما بين دوائر الاستقطاب التي تمتلك أهداف متشابهه لكنها تختلف في استخدام الأدوات ، ونتيجة لهذه الحالة المحتقنة والهائجة تقوم السلطة بمحاولة تقطيع وإضعاف أي رابطة قائمة بين تلك المكونات خصوصاً المكونات التي تتسم بوجود علاقة مترهلة من الأساس وغير مشدودة ، مما يجعل الحقل الاجتماعي في حالة فوضى تستفيد منها الأنظمة في تحييد ما يمكن تحييده وتحجيم المكونات الأخرى لفرض واقع جديد ذو قطع متباعدة وغير متصلة تحقق  المصلحة العامة للنظام السياسي.

 

 

النجاح في السيطرة على كل دائرة استقطاب متمردة على النمط العام قبل تزايد تأثيرها يمهد الطريق للمرحلة التالية وهي عملية إعادة إحلال بعض العناصر وحقنها داخل الحقل مكان الدوائر القديمة لتمارس دور استقطابي يعتمد على رأس المال الاجتماعي والعلمي والاقتصادي القائم على تبادل المصلحة المشتركة مع النظام ودوائر الاستقطاب الأخرى القابلة للاحتواء والتقارب لتشكل بذلك شبكة معقدة من التحالفات التي يصعب اختراقها مستقبلاً، وحينها سيكون الحقل في حركة متناغمة مع مصلحة النظام السياسي الذي ضمن مؤقتاً تحصين الحقل ضد أي عمليات تحفيز جديدة تحاول اقتحامه مرة أخرى.

 

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الحقل هادئاً بصورة دائمة، فالأجيال المتعاقبة تحاول استنهاض دوائر استقطاب جديدة من نفس رحم الأيديولوجيا أو إطلاقها من حواضن أخرى ذات متبنيات فكرية حديثة، لكن هذه المحاولات تواجه عائق أساس في اعتقادي يتمثل في مدى عمق القطيعة التي  تمت  بين الجيل السابق والجيل الناهض بسبب السيطرة على الحقل بالإضافة إلى تشظي وانحلال دوائر الاستقطاب السابقة وفشلها في نقل خبرتها إلى الأجيال التالية ، وجود حالة عميقة من القطيعة يحيل التجارب الحديثة إلى نفس تلك التجارب السابقة في الوقت الذي تحتاج فيه إلى تجاوز تراث الماضي والوصول إلى مرحلة من التجديد والتحديث الذي يُحصن مفاصلها من التقطيع كحال التجارب السابقة ولتكون قادرة على صد محاولات التسقيط ومتمسكة بخيار رفض الاستسلام لحقل اجتماعي سياسي مُسيطر عليه يميل إلى المحافظة على ذات النسق.

 3-10-2012




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=22773
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 10 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19