• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : حرب وسجن ورحيل-61 .
                          • الكاتب : جعفر المهاجر .

حرب وسجن ورحيل-61

- الرحيل-
استلمت الجوازات الثلاثة وانطلقت خارج دائرة المخابرات التي يمكن أن يغيب الشخص بين جدرانها والى الأبد دون أن يسأل عليه أحد وانتابني    شعور ممزوج بالحزن والفرح معا الحزن على فراق الوطن الذي آليت أن لاأعود أليه ألا وقد زالت دولة الظلم والاستبداد والرعب التي كان يمثلها البعث ألصدامي الفاشي بامتياز وكان أملا ضعيفا في تلك الظروف القاسية التي أستأسد فيه أراذل البشر على مقدرات الشعب العراقي والفرح الذي  غمرني هو خلاصي وخلاص عائلتي من موت محقق  فيما إذا بقينا لسنة أخرى داخل الوطن المكبل  بالقيود من قبل تلك الطغمة الدموية. رغم أن فراق الوطن والأحبة هما من أصعب أنواع الفراق على المرء على الأطلاق وكما قال الشاعر:
ياطائرا لعبت أيدي الفراق به
مثلي  فأصبح  ذا  هم  وذا  حَََزن
ومن جراح ومن وجد ومن رهق
 في كل منعطف ذكرى  تؤرقني
 
 
لاأدري كيف قضيت تلك الليلة ولن يغمض لي جفن  وشريط الذكريات يمر أمامي من أيام طفولتي ألي    آخر  ساعات الرحيل . حيث تذكرت المعلمين الذين تعلمت منهم الكثير رحمهم الله خاصة معلم الصف الأول (عبد حمود) صاحب الصوت الجهوري والطويل   القامة كعود السنديان الذي كان يتعامل معنا باللين تارة وبالشدة أحيانا ومدير المدرسة عريبي الزامل الشديد الصارم الذي لايبتسم  والذي كان صديقا لوالدي رحمهم الله  لكنه كان يجلب (الهريسه ) في محرم  بيديه ماشيا ألينا وغالبا ماكنت أقابله في الطريق وأتلعثم  وتأخذني الرهبة حين أراه قاصدا بيتناوهو يقول لي حين أحاول أن  آخذ  القدرمنه  ( هذا موشغلك بعد سنتين لو ثلاثه أنته تجيب الهريسه لبيتكم  خلينه نحصل ثواب أبا عبد الله الحسين عليه السلام  ماطول بينه حيل)   تذكرت  معلم التأريخ محمد علي محمود العجيل الذي مازالت كلماته عالقة في ذهني (أقرؤا ياأبنائي تأريخ  بلادكم فأن  التأريخ يعلمكم الكثير لأنه روح الأمه واللي مايعرف تأريخ بلاده يظل مثل الأطرش  بالزفه .)  وتذكرت معلم    الانكليزية حسين سلمان الذي كان يحثنا على  تعلم  تلك اللغة ويقول دائما جملته المأثورة : (حارب عدوك بلغته)   fight your enemy with his   language.        تذكرت زملاء الطفولة وأين   هم الآن ؟ وكيف تفرقوا ؟ وكيف خرج جميع طلاب المدارس  ومعلميهم في الساعة الثامنة صباحا ألى الشارع الرئيسي في المدينه في ذلك اليوم الخريفي من عام 1954م وكان عدد المدارس ثلاثة فقط والجميع بالشورت الأبيض والجوارب البيضاء وحذاء باتا الأبيض كذلك لكي  نستقبل الملك فيصل الثاني بعد تتويجه حين زار العديد من مناطق العراق ومنها مدينة الحي لوجود أقطاعيين كبار فيها لهم معرفة بالملك  وقد كنا نردد في ذلك اليوم ( مليكنا مليكنا          نفديك بالأرواح. فمرحبا ياسيدي بوجهك الوضاح)  وقد اصطكت عظامنا ونحن نرتجف من شدة البرد في ذلك اليوم الخريفي الذي كانت تتساقط فيه أوراق الأشجاروقطرات  ناعمة من المطرورأيت كيف يسرع عمال البلدية الذين استنفروا لآلتقاطها     ووضعها في أكياس خاصة أعدت لذلك الغرض بأمر من مدير البلدية وكنا لانراهم في أوقات أخرى حتى يرى الملك وحاشيته  المدينة نظيفه ليفرح كما كان يقول لنا معلمنا وقد بقينا على تلك الحال لأكثر من ساعتين حيث أطل الملك بسيارة مكشوفة بابتسامته العريضة مع عدد من السيارات السوداء خلفه  وكان بجنبه خاله الأمير عبد الأله وبدأنا نصفق ونهتف وننشد الأناشيد له وهو يبتسم لنا ويحيينا بكلتا يديه ثم ذهب مع بلاسم الياسين وعائلته والذي كان يرتبط مع العائلة الملكية بعلاقة مصاهره وركب اليخت الذي كان يملكه وقاموا بجولة نهرية في نهر الغراف الذي كان يعج بالخير الكثير في ذلك الزمن لغزارة مياهه وعدم تلوثها حيث كانت البساتين على ضفته الأخرى تمتد لمسافات بعيدة وهي تزهو بمختلف أشجار الفاكهة كالرمان والمشمش والتفاح والخوخ وغيرها وقد أوصى الملك فيصل الأول بالاهتمام  بنهر الغراف   كما كان  يقال لأهميته الأروائية .  تذكرت الأحياء والأزقة التي كنت أجوبها مع  أصدقاء الطفولة في  تلك المدينة المسالمة الغافية على نهر الغراف  الجميل . تذكرت  ذلك النهر وكيف وضعت جنازة والدي حين توفي ووضع التابوت في(الطبكه) وهي عبارة عن عبارة قديمة تتحرك على جانبي النهر بواسطة حبال قوية ومتينة لنقلهاألى الضفة الأخرى من النهر ومن ثم ألى النجف الأشرف  وكيف تعلمنا  فيما بعد السباحة  في ذلك النهرالرائع ذو المياه الصافية   وصرنا  نعبره سباحة في أيام الصيف بكل سهولة دون أن نعاني أية مشاكل. وكيف أن أحدنا غرق فيه ولن  نستطع إنقاذه لأنه كان بعيدا عنا وقد حزنا وبكينا عليه كثيرا  لأنه كان أبن  معلم الرياضه  (مهدي شويليه )  وقد غرق في النهر العديد من الأطفال وكانت الأمهات  يتحدثن فيما بينهن  حكاية مفادها( أن النهر لابد له أن يأخذ عدة أطفال كل عام لكي يستمر في تدفقه!!! ) .تذكرت كيف كان الإقطاع في  مدينة الحي هو المسيطر وهو الآمر الناهي وكأنه هو الحكومة وقد تردد على لسان الكثيرين أن القائمقام يقضي بعض الليالي في  دورهم العامرة بكل مالذ وطاب وينفذ كل مايطلبون منه.  وقد بنى الشيخ  مهدي بلاسم الياسين سورا حول المدينة أمام مرأى ومسمع  السلطة المحلية دون أن تحرك ساكنا ومنع أي شخص من أجتيازه حيث وضع عليه حراسا يهددون كل شخص يقترب منه بإطلاق النار عليه. تذكرت كيف هجم عملاء هذا الإقطاعي على المدينة في   ضحى أحد الأيام من عام 1956 بالعشرات وهم مسلحون بالبنادق والسيوف والخناجر وقتلوا عددا من أبناء المدينه ومنهم (كاظم الصائغ) الذي كان يصوغ الذهب جنب دكان والدي الصفار وحين حدث الهجوم كنت مع والدي في الدكان فأغلقنا الدكان على نفسيناوبقينا داخل الدكان ألى أن أنتهى الهجوم  أسرعنا بعدها ألى البيت بعد أن ساد هرج ومرج في المدينة وتوقع الناس أن يتم هجوم آخر وقد أضربت المدينة وأغلقت جميع المحلات كل ذلك حدث لأن المدينة كانت متعاطفة       مع مصر أبان العدوان الثلاثي عليها  عام 1956م وبعد تلك الحادثه خرجت المدينة  بمظاهرة عن بكرة أبيها احتجاجا على ذلك الهجوم الوحشي والأستفزازي الغير مبرر .و تذكرت كيف قامت  نساء المدينة بمظاهرة صاخبة أيضا  ونشرن  شعورهن على أكتافهن وهن يصرخن بأعلى أصواتهن  ويرددن كلمات  نابية هادرة ضد الأقطاع وعملائه والحكومة الملكية  المتعاونة معهم ضد الشعب .    وكيف أن نوري السعيد الذي كان رئيسا للوزراء في تلك الفتره غضب غضبا شديدا وبعث بقوة ضاربة ألى تلك المدينة وقمع  الانتفاضة بكل قسوة ونصب المشانق في وسط المدينة حيث أعدم البطلان الشهيدان علي الشيخ حمود وعطا مهدي الدباس وكان الأول يملك مكتبة في مدخل المدينة سماها مكتبة السلام وعن يمينها ويسارها رسمت حمامتان بيضاوتان وكانت تباع فيها الكثير من الكتب السياسية وقد تعرضت تلك الكتب للمصادرة لمرات عديدة  ثم أغلقت نهائيا أثناء العدوان الثلاثي على مصرعام 1956م  . وقد رأيت بعيني مع حشد كبير من أبناء المدينة جثتيهما الطاهرتين وقد تدلتا من تلك الحبال   ومشنقتين كبيرتين نصبتا في وسط المدينة عقابا لها  وكيف استولت تلك القوة الخاصة بقمع الأنتفاضه على أسطح البيوت وعلى سطح سينما واسط التي كان يملكها السيد (جابر سيد معن) وبعدها (تركي حساني) والتي كانت أعلى بناية في المدينة في ذلك الوقت وصوبت رشاشاتها نحو الناس   وتردد أن الثوار المسلحين بالبنادق قتلوا حوالي 80 شرطيا من تلك القوه  وقد سقط أحد قادة تلك القوه ويدعى   (عنتر ) من أعلى سينما واسط مضرجا بدمائه كما قال الخبر الذي انتشر في المدينه لكن تلك القوة أخمدت الأنتفاضة وقمعتها بكل قسوة وشدة وأخذت تفتش البيوت وتنهب كل ماخف حمله وغلا ثمنه واعتقلت مئات الناس عربا وأكرادا ونقلتهم ألى بغداد وتم أطلاق سراحهم بعد ثورة 14 تموز العظيمه. وقد تم دفن الشهيدين عطا مهدي الدباس وعلي الشيخ حمود قرب قبر سعيد بن جبير الكائن خارج المدينه  ولم تسلم جثتيهما لأهلهما في بداية  الأمرفاستغل الأقطاعي الحاقد  مهدي بلاسم الياسين ذلك الحدث وأرسل مجموعة من عملائه  تحت جنح الظلام  لينبشوا قبريهما ويمثلوا بجثتيهما أبشع تمثيل وبعد تلك العملية التي أكتشفتها بعض الحطابات  في المنطقه  ثم تم تسليم الجثتين ألى عائلتيهما وقد كنت في ذلك المكان الذي حدث فيه جريمة نبش القبرين وحضرت سيارتان  ألى المنطقه ونزل منها عدة أشخاص بالملابس المدنية وانهالوا ضربا بالهراوات على الواقفين وهربنا جميعا ولم أصب بأية هراوة لأنني كنت رياضيا سريعا في العدو ورأيت بعيني   كيف نصبت المدافع الثقيلة حول المدينة لدكها  من قبل وزير الداخلية سعيد قزاز الذي قال عبارته المشهورة : (قضاء الحي مالازم ) وكل ذلك يعرفه أبناء الحي الذين مازالوا أحياء يرزقون أمد الله في أعمارهم  تذكرت شخصيات كثيرة رحلت منها الشيخ عبد الأمير قسام   وعائلة بيت مرشد وعائلة الحكيم وبيت كردس و عائلة بيت عبد بخشي الذي كانت  يخرج  من بيته  العزاء الحسيني بموكب مهيب تذكرت التشابيه الذي كان يقوم به أهالي المدينة في محرم وكانت المدينة وكأنها ساحة حرب حقيقية وجيش عمر بن سعد يقدم بخيوله وملابسه الحمراء وكأنه جيش حقيقي وكان المرحوم (محسن نجيه )أبو صبار يمثل دور (حرملة بن كاهل ) وتأتيه الأحجار من كل حدب وصوب من الشباب والنساء والشيوخ لتمثيله ذلك الدور وقد اضطر أن يصرخ في أحدى المرات (يمعودين أرحموني لاتضربوني بعد راح أموت  آني عمكم أبو صبار لعنة الله على حرملهوأشباه حرمله. )  وتذكرت الشاعر الشعبي محمد  أبو نزار وكان نزار معلما من دورتي وقد سألت عنه في الآونة الأخيرة وقالوا لي أنه حي يرزق فسلامي له ولكل المعلمين الأحياء أطال الله في عمرهم ورحم المتوفين منهم وتذكرت العديد من المغنين والرواديد الشعبيين الذين لاينازعهم منازع في قراءة الأبو ذيات الحزينة  التي كانت قلوب الناس تهفو أليها قبل آذانهم. تذكرت مجالس العزاء الحسينية التي كان يقيمها : (الشيخ علي) أمام داره في شارع الشط وما كانت تحدث فيها من مفارقات غريبة وكان يحضرها مدرس اللغة العربية (حميد مهدي الخالصي ) وما أكثر أعتراضاته على لغة الشيخ علي العامية التي كان يخاطب بها الجمهورلكن اعتراضاته كانت تذهب سدى ولا يسمعها أحد ويقولون له نحن لانحب اللغة العربية الفصحى التي تنطق بها لأنها بالنسبة لنا كاللغة الأجنبيه !!!وكان دائما يهز بيديه ويرفض أقوالهم ويقول مساكين لايحبون لغة القرآن ولغة نهج البلاغه لغة الفطاحل والعلماء وسيظلون في جهلهم ألى أن يموتوا.!!!   تذكرت  صباح الرابع عشر من تموز عام 1958م وكيف خرجت المدينة تهتف بحياة الزعيم عبد الكريم قاسم وكيف أن شيوخ المدينة لم يصدقوا بالثورة لكنهم رضخوا للحقيقة بعد أن سمعوا نشرة الأخبار من إذاعة لندن لأنها هي الإذاعة الصادقة الوحيدة بالنسبة لهم!!!
تذكرت الأحداث التي أعقبت تلك الثورة العملاقة   والتأييد العارم لها وفي كل يوم كانت تخرج مظاهرة تأييد للثوره لكن  الصراع الذي حدث   فيما بعد بين البعثيين والقوميين من جهه والشيوعيين من جهة أخرى والأخطاء التي ارتكبها الزعيم وشدة اعتداده بنفسه وعدم مبالاته بالخطر المحدق بالثورة  خيب آمال الذين كانوا يخافون على أجهاض الثوره وهذا ماتحقق مع الأسف الشديد.وكان البعثيون والقوميون يلقبون أنفسهم ب(الجبهة الوطنية القوميه ) والشيوعيون ب  (الشبيبة الديمقراطيه)وكان رئيس الجبهة محسن شيخ حمود الذي هرب ألى سوريا أثناء الأنتفاضه وعاد مرة أخرى ألى مدينة الحي  ليقود القوى المناهضة للقوميين بعد أن  انقلب على أفكار أخيه الشهيد علي الشيخ حمود وكان رفيقه قبل ذلك ولا أدري هل كانت تلك الأنشقاقات صراعا على الزعامة أم غير ذلك؟. وكان رئيس الشبية الديمقراطية : (كرم ) الذي كان بعين واحدة وقد تآمر عليه الأقطاعي مهدي بلاسم وحاول قتله في أوقات مختلفة حيث كان يردد (لاجابتني أمي أذا خليت شيوعي واحد يتنفس بهاي المدينه . )وكان ينظر ألى كل شخص وطني يحارب الأقطاع والظلم على أنه شيوعي.!!! ثم أعتقل كرم في زمن البعث ولا أدري ماحل به بعد ذلك وقد ألتقيت بأحد أقاربه هنا في السويد ونقل معلومات عن أبنه أتحفظ عليها لعدم تأكدي منها. وغالبا ماكانت تحدث مواجهات بين الطرفين في شوارع المدينة وفي أحدى المرات ضرب شخص من الشبيبة الديمقراطية شخصا آخر من الجبهة الوطنية بإحدى القناني الزجاجية الفارغة فأدمى رأسه  وسال الدم على جبينه ووجهه. فصاح واحد من جماعته بأعلى صوته : (أنتصرنا ورب الكعبه.!!! )    تذكرت  محاكمة فاضل عباس المهداوي لأزلام النظام الملكي ومرافعات المدعي العام ماجد محمد أمين ضدهم  وكيف كان سعيد  قزاز وزير داخلية النظام الملكي يرد عليه ويقول : (سأصعد المشنقة مرفوع الرأس وأرى تحت أقدامي من لايستحق الحياة.!!! ) ويرد عليه المهداوي بكلمات أقسى منها. لكن فاضل الجمالي كان هادئا رزينا في قفص المحكمة بعكس سعيد قزاز.   تذكرت  كيف استقبل الناس في مدينتي نبأ أنقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 م واستشهاد الزعيم عبد الكريم قاسم وكيف خرج الناس في ذهول وهم يبكون وينوحون مابين مصدق ومكذب بمقتل الزعيم.  شريط  سينمائي هائل من الذكريات مر أمامي  تذكرته في تلك ألليله يمكن أن يصبح رواية تسجيلية كبيرة بأحداثها المتناقضة الكثيرة والمتشعبة والصاخبة وهناك شخصيات رحلت بهدوء يستحق كل منها رواية للحديث عنه. تذكرت الانقلابات التي حدثت والصراعات التي رافقتها ثم الحروب التي أشعلها طاغية العراق والشباب الذين درستهم وحصدتهم قادسية صدام وأم المهالك . تذكرت زملاء المهنة وتعاطفهم الكبير معي في فترة سجني من قبل النظام الصدامي بتهمة هروب أبني خارج العراق .تذكرت الجيران الذين عاشوا معي  في فترة السجن التي استفدت منها ورصدت العديد من الصور فيها وتحدثت عن العديد من شخصيات السجناء الذين رافقتهم في سجن التسفيرات في الكوت  رغم قساوتها تذكرت الأدباء من المعلمين وأولهم الأديب  الكبير الراحل المربي جعفرسعدون لفته    واللقاءات التي كانت تجمعنا والأحاديث التي كنا نتبادلها حول مختلف شؤون الحياة وخاصة  حديث الحروب والحصار والانتفاضة الشعبانية الكاسحة التي أعقبت مهلكة أم المهالك السوداء والتي كادت  تطيح برأس  النظام  لولا التآمر عليها من الأمريكان  وشيوخ نجد والحجاز المعبأين بالعقد التاريخية والطائفية المقيتة التي تسري بدمائهم وكيف أن النظام  تعامل معها بكل تلك الوحشية التي قل نظيرها في التأريخ  وكنا نتحدث عن راتب الموظف في زمن الحصار والذي تحول ألى (فلس ونصف ) وكيف أخذ الموظف والمعلم يبيعون كل مايقع بيده على الرصيف لكي يبقى مع عائلته على قيد الحياة  حتى أن وسائل الأعلام الكويتية كانت تسخر من الموظف العراقي وتعتبره الشحاذ الأول في الوطن العربي..كنا نتحدث عن الظلم الكبير الذي وقع على مختلف شرائح الشعب والذي كان نصيب الكرد الفيليين منه  كبيرا ومازالوا لحد هذه اللحظات تنتهك كرامتهم انتهاكا صارخا ترفضه كل شرائع الأرض والسماء وقد جربت ذلك بنفسي في العام الماضي فقط وكيف يضم الطابق الثالث من مديرية الجنسية العامة عصابة أو مافيا دون تحفظ من رجال ونساء تعودوا على امتهان كرامة الأنسان لمجرد أنه كردي فيلي هؤلاء (البعض) ولا أقول جميعهم  المعشعشين في هذه الدهاليز المظلمة أقولها بملأ فمي هم من أعتي أنواع العنصريين والطائفيين والساديين والمرتشين وكأنهم قطاع طرق مازالوا يحكمون في زمن طاغيتهم صدام وهم بمعزل تام عن الدولة التي يدعي رؤوسها بأنها تشهد عصرا ديمقراطيا لافرق بين مواطن وآخر في القومية أو الدين هؤلاء  خفافيش الظلام   الذين كلما رأوا  مواطنا فيليا معتز بكرامته الإنسانية يحاولون تحقيره ويعرقلون معاملته  ويبتزونه بمختلف الوسائل الدنيئة التي تتنافى وحقوق الإنسان دون حسيب أو رقيب وأنا مستعد أن أحضر للشهادة واثبات ذلك بنفسي أمام أية جهة قضائية لو طلبت مني ذلك .  ولا يمكنني أن أتهم أحدا دون أثبات ودليل وتجربة عشتها بنفسي لعشرات السنين السابقة ولم يتغير شيئ بعد كل هذه السنين بل زاد الطين بلة في هذا الزمن زمن الديمقراطية الأمريكية التي غامت فيها الأشياء وأصبحت بدون لون أو رائحة ومازال جهالنا فيها على الخيل تركب وألبابنا فيها تجر وتسحب بعدما راجعت ذلك المكان السيئ ببعض الخفافيش الذين يعشعشون فيه ووجدت تلك الذئاب البشرية التي لمست سلوكها المشين ولم أصدق نفسي بما رأيته ولا أريد أن أطيل وأسهب أكثر من هذا الذي ذكرته  ورغم كل تلك الأحداث المأساوية  الهائلة التي مرت بالشعب العراقي ظلت الطيبة العراقية وظل التعاطف الحميمي بين الجيران لاتفرقهم قومية ولا يفرقهم دين أبدا رغم بعض الظواهر الفردية الشاذة التي لايمكن أن  تلغي طبيعة الشعب العراقي النبيلة التي لحمتها وسداها الغيرة والحمية والنخوة وإغاثة الملهوف والتعاطف الأخوي الصادق  مع كل  العوائل التي   ذاقت مرارة الجوع والحرمان والاضطهاد العنصري و في زمن الحصار والتي فقدت أبناءها في الحروب أو الشباب الذين أعدموا وغيبوا في سجون النظام الصدامي القمعي وأعدادهم بمئات الألوف  وقد لمست   تلك القيم العراقية الأصيلة بنفسي ولم ينقلها أحد لي على الورق.   لقد استعرضت كل ذلك الشريط وروحي تضطرب وقلبي يحترق  ويتلوى  من فرط  فراق الأحبة والوطن الذي  لم تبق منه ألا ساعات قليلة وأنا أرى نفسي مرميا خارج الوطن دون ذنب ارتكبته بعدما اشتدت وكثرت التحقيقات الأمنية معي ومع عائلتي والتي لم  تظهر لها أية نهاية وختمت بالتجويع وهذا أعتى أنواع الظلم بأن يجوع الأنسان في وطنه الغني بعد أن يفقد كرامته. سرحت  مع أفكاري وهواجسي وخاطبت نفسي كيف سأتأقلم  مع أماكن جديدة مجهولة لاأعرف عنها شيئا بعد هذا العمر الذي قضيته في وطني وملعب صباي  والتي   تقدر بخمسة و خمسين  عاما وكأن لسان حالي يقول:
وطني هواك يموج بي
ويشدني  شد  النطاق 
وأراك  نبعي والشذى
حزني لبعدك لايطاق 
سيظل عشقك في دمي
وطني المفدى ياعراق
ومع أول خيط لبزوغ الفجر ركبنا نحن الثلاثة سيارة تكسي   لتنطلق بنا من الكوت ألى  بغداد وسط حزن ووجوم تامين والخوف يسيطر علينا في جمهورية الرعب وفي الطريق شاهدت عشرات التماثيل والجداريات لرئيس النظام حيث ازدادت عن الفترة التي سبقت غزو الكويت بعد أن دمر المنتفضون معظمها أثناء الانتفاضة الشعبانية عام 1991م  لقد أقيمت معظم التماثيل في ظرف الحصار وماتت مئات الغوائل العراقية المتعففة  من جراء الحصار ولن تسعفها سلطة الدكتاتور رغم التعاطف الكبير من بقية أبناء الشعب لكن هول المأساة كانت أكبر من إمكانياتهم المحدودة.
دخلنا بغداد بعد أن نهبت السيارة الأرض نهبا ورأيتها تتشح بوشاح الحزن بعشرات اللافتات السوداء المعلقة على جدرانها من أولئك الشباب الذين قضوا في الحروب ورأيت العشرات من الأحداث  يبيعون كل شيئ على الأرصفة وفي الكراجات وكحمالين وصباغي أحذيه ورأيت العديد من الجنود نائمين على الأرصفة  والذين صحوا يطلبون من المارة شيئا من النقود أو سيكارة وكنت أتمنى أن يراهم رئيس النظام وهم في تلك الحاله  وكانت صور صدام وجدارياته فوق رؤوس أولئك البائسين.أشتريت   جريدة الثورة من كشك  في كراج علاوي الحله  لألقي آخر نظره على ماجادت به قرائح البعثيين بحق القائد الضرورة والعراق المزدهر !!!والذي تحولت معظم مرافقه الحيوية  ألى حطام وهشيم وشعبه ألى جياع تتصدق عليهم الأمم المتحدة بأموالهم وديون بلغت مئات المليارات من الدولارات تتطلب عشرات السنين لتسديدها ومازالت الدول (الشقيقة) تبتز العراق وتطالب بالمزيد من الأموال  نتيجة الضرر الذي أصابها على أيدي حليفها الهمام وجلاوزته وقططه السمان وفي الصدارة منها مشيخة الكويت. وكانت صور القائد الضرورة في صدارة الجريدة كعادتها ولم أر فيها سوى كلمات الثناء والمديح لرأس النظام وقصيدة لرعد بندر خضير (شاعرأم المهالك) يعظم فيها رأس النظام بكلمات لايعقلها إنسان سوي. فرثيت لحال الشعب العراقي وحدثت نفسي كم من الأعوام العجاف ستمر على العراقيين تحت سطوة وسيطرة هذا الجلاد ومخابراته وأجهزة أمنه القمعية الرهيبه؟
 رقد على أرض الكراج أسطول من  باصات الأجرة الطويلة  الأنيقةالتي تشتغل بين بغداد وعمان وكأنها خرجت توا من المصنع وكانت تلك الباصات الأنيقة هي من غنائم أم المهالك التي  أصبحت ملكا للطاغية  الصغير عدي وكانت  تحتوي على كل وسائل الراحه والتي يدفع العراق ثمنها اليوم بعشرات  أضعاف سعرها. دخلنا نحن الثلاثة في الصالون المخصص لنقلنا ألي عمان بعد تدقيق جوازاتنا وكان معنا العديد من العراقيين وقليل من الأردنيين  ولم نصدق أنفسنا بأننا سنتخلص من أبشع كابوس رهيب لما تبقى من حياتنا بعد هذه السنين الطويلة من المعاناة . انطلقت السيارة نحو عمان وألقيت من خلال زجاج النافذة نظرة تعبى على بعض معالم بغداد الحزينة وسالت دموعي على الرغم مني وكأن  كل شيء في أعماقي يصرخ عراق عراق عراق أنه صراخ أنسان له كل هذه الذكريات مع وطنه وأهل وطنه بحلوها ومرها لكنها لن تنسى أبدا.  وفتحت  ديوان بدر شاكر السياب لأقرأ قصيدته (غريب على الخليج) ولي فصل آخر مع قصيدة (حرائق الرحيل.)ومسرحية (شاهد ماشفش حاجه ) لعادل أمام وبطانته والتي كانت تعرض في تلفزيون الباص في الطريق وحديث آخر مع جلاوزة النظام  ومعاملتهم الوحشية القاسية عند الحدود العراقية الأردنيه والتي كانت  أقسى من شرب الحميم .
جعفر المهاجر/السويد
 1/1/2011 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=2276
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 01 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29