• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : في مواجهة حرب الإشاعات .
                          • الكاتب : د . عبد الخالق حسين .

في مواجهة حرب الإشاعات

 يواجه العراق، ومنذ تحريره من حكم البعث الفاشي، مخاطر كثيرة وجسيمة، أهمها: الإرهاب، والفساد، وحرب الإشاعات. كتب الكثير عن الأول والثاني، أما الثالث، حرب الإشاعات، فكتب القليل عنه. لذلك أود في هذه المداخلة التركيز على هذا الخطر الداهم الذي ساهم في تشويش وبلبلة عقول وضمائر شريحة واسعة من الناس، بمن فيهم أناس كانوا ومازالوا من ألد خصوم البعث.
 
الإشاعة سلاح ماض وخطير له دوره الفعال في مواجهة الخصم وتشويه صورته وإنهائه سياسياً واجتماعياً. والمعروف أن ذهنية المجتمع العراقي خصبة ومهيأة لتصديق الإشاعات، ومهما كانت غير معقولة. وما يجعل سوق الإشاعة رائجة هو انقسام الشعب العراقي على نفسه إلى مكونات دينية وطائفية وعرقية متصارعة، إضافة إلى كيانات سياسية متنافسة على السلطة والنفوذ والمال. وقد أثبت الواقع بعد أن سقطت سلطة القمع، ومعها سقطت ورقة التوت عن عورات المجتمع العراقي، تبين أن هذه المكونات هي متعادية فيما بينها، لذلك فكل جماعة عندها الاستعداد والأذن الصاغية لتصديق أية إشاعة ومهما كانت بذيئة وغير معقولة ضد الخصم والترويج لها. وإذا ما احترم الإنسان عقله وتصدى للإشاعة ونبه الآخرين عن زيفها ومخاطرها، فسرعان ما توجه له تهمة العمالة لهذه الجهة أو تلك ما لم يسبح مع التيار والمساهمة في ترويج الإشاعة.
 
ليس هناك أكثر خبرة من البعثيين في صناعة الإشاعة ونشرها على أوسع نطاق، فمنذ تأسيس حزبهم وخاصة خلال الستينات أيام حكم الأخوين عارف، وهم خارج السلطة، كانوا نشطين في هذه الصناعة. وخلال 35 سنة من استحواذهم على السلطة، أرسلوا آلاف البعثات الدراسية للغرب وبالأخص لألمانيا الشرقية في التخصص في الإعلام والتجسس والتدرب على التعذيب والحرب النفسية، والتفنن بتلفيق الإشاعات للسيطرة على عقول الناس، وإثارة الصراعات بين خصومهم (فرق تسد)، لإضعاف المجتمع  وإخضاعه لحكم البعث. وفي عهدنا هذا استفادوا كثيراً من تقنية نقل المعلومات مثل الانترنت والبريد الإلكتروني والفضائيات، وبرامج الكومبيوتر للتلفيق وتزوير الوثائق والتلاعب بعقول الناس.
 
الخبرة الأخرى التي امتلكوها هي، معرفتهم للعزف على الوتر الحساس لكل مكونة من مكونات المجتمع، واللغة التي يمكن أن تؤثر في كل منها. فإذا كانت الإشاعة موجهة للعرب السنة ضد الشيعة، يستخدمون تعابير مثل: "الصفيون"، و"الفرس المجوس"، و"عملاء إيران"، والنفوذ الإيراني،...الخ، أما إذا كانت الإشاعة موجهة لمخاطبة الشيعة لإثارة فئة ضد أخرى، أو ضد زعيم سياسي شيعي، وفي أكثر الحالات يكون السيد نوري المالكي هو المستهدف، فهنا يستخدمون عبارات من القاموس الشيعي، مثل أسماء بعض المرجعيات الشيعية لتتبعها عبارة "قدس الله سره"...الخ، واختيار أسماء خاصة بالشيعة لكاتب الإشاعة أو صاحب التصريحات المزيفة التي يراد تمريرها. المهم في هذه الحالة اعتماد كل الوسائل لإقناع المتلقي بصحة الإشاعة.
 
وعلى سبيل مثال لا الحصر، استلمنا قبل أيام تقريراً بعنوان: "السيستاني يكشف عن وصيته: الحكيم يصلي على جنازتي.. وأمنعوا المالكي وأعضاء حكومته من السير فيه". نجتزئ بعض الجمل من هذه "الوصية" التي زعم كاتبها أنها وصية المرجع الشيعي المعروف، آية الله السيد علي السيستاني.
يبدأ التقرير: " بغداد/ المستقبل نيوز: ذكر السيد باقر العلوي وكيل المرجع الشيعي الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني في نيوزيلندا ان "سماحة المرجع الأعلى كتب في وصيته لذويه ان يدفن كما دفنت جدته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) دون ضجة"، وأضاف خلال خطبة مناسبة الليلة الثالثة من ذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في مسجد وحسينية الإمام المنتظر في مدينة أوكلاند، ان "سماحته أوصى بأن يصلي عليه صلاة الجنازة سماحة المرجع الديني الكبير السيد محمد سعيد الحكيم".
الملاحظ هنا اسم وكالة الأنباء (مستقبل نيوز)، ولم اسمع بهذه الوكالة من قبل، وإن وجدت فهي واحدة  من عشرات "الوكالات البعثية" التي هي مجرد أسماء وهمية لهذا الغرض. الثاني، اختيار اسم "السيد باقر العلوي"، والإدعاء أنه وكيل السيد السيستاني، ليس في النجف الأشرف، ولا كربلاء، ولا في أية مدينة عراقية، بل في نهاية العالم، في نيوزيلندا. وإذا كان السيد السيستاني حقاً قد كتب هذه الوصية، فلماذا لم يسلمها لأحد وكلائه المقربين منه في العراق، ولماذا يرسلها إلى وكيل لم يسمع به أحد مقيم في نيوزيلندا؟
 
جملة أخرى جديرة بالتأمل: "وأضاف خلال خطبة مناسبة الليلة الثالثة من ذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في مسجد وحسينية الإمام المنتظر في مدينة أوكلاند،...". هل حقاً هناك حسينية وبهذا الاسم في مدينة أوكلاند؟ وأي قارئ يريد أن يتحقق من ذلك؟
 
المهم هنا هو التركيز على اسم الشخص المستهدف من هذه "الوصية"وهو السيد نوري المالكي، فيقول: [وبيَّن وكيل المرجع إن "السيد السيستاني أشار في وصيته الى جملة من الأمور منها رفضه سير رئيس وأعضاء حكومة المالكي خلف جنازته،.."]. لماذا؟ فيوضح قائلاً: " وذكر السيد باقر العلوي إن "المرجع الأعلى ممتعض جداً من فشل المالكي وعلى مدار أكثر من ست سنوات من تحقيق أي منجز يذكر للشعب العراقي". فالبعثيون يبكون دماً على الشعب العراقي! وقال العلوي ان "المالكي يمتاز بالمكر والخديعة والقدرة على التفرقة بين الآخرين".] وهذا هو بيت القصيد من هذه الإشاعة.
 
والجدير بالذكر، أني استلمت هذه "الوصية" من كاتب يدعي الموضوعية، واليسارية، ومحاربة حكومة المحاصصة الطائفية والفساد، وكان قد عاتبني مرة وبمرارة، بل وكتب مقالاً ينتقدني دون أن يذكر اسمي، لأني كتبت ضد طارق الهاشمي، وقال أنه كان عليَّ أن أكون منصفاً، وأن لا أتخذ هذا الموقف من الهاشمي قبل إدانته قضائياً!! فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته!. نسي صاحبنا الموضوعي هذا، أن الهاشمي هو الذي أدان نفسه بهروبه من وجه العدالة، واللجوء إلى أسياده في قطر والسعودية وتركيا، فلو كان بريئاً حقاً من التهم الموجهة له، لصمد واستقال من منصبه، وواجه القضاء وأثبت براءته، تماماً كما فعل الدكتور فلاح السوداني، وزير التجارة السابق. ولكن هذا الكاتب الموضوعي لم يتردد بتوزيع إشاعات البعثيين التافهة التي لا يمكن أن يصدقها أي عاقل.
 
على أي حال، تبين أن هذه "الوصية" قديمة، كانت متداولة منذ نهاية العام الماضي، وكان مكتب السيد السيستاني قد أصدر بياناً جاء فيه: "نفى مكتب المرجع الديني السيد علي السيستاني أمس صحة ما تداولته مواقع اخبارية بشأن وصية السيستاني، معرباً عن اسفه لنشر تلك المعلومات نقلاً عن شخص زعم انه وكيل المرجعية في نيوزيلندا." وأضاف "ان هذا الخبر مفبرك جملة وتفصيلا ولا يوجد لسماحته وكيل في نيوزلندا في الاسم المذكور ".المصدر:الصباح.(1)
 
إشاعة الأخرى قيد التداول هذه الأيام بعنوان: "هكذا باع نوري المالكى سيارة الملك غازى وقبض ثمنها 8 مليون دولار". وقد أخبرني صديق وهو ضد المالكي، أن سيارة الملك غازي استحوذ عليها عدي صدام حسين في التسعينات، وباعها. وهكذا راح هؤلاء يستعيرون جرائم أسيادهم وينسبونها للمالكي.
 
طبعاً، هذا غيض من فيض من موجة الإشاعات، إذ كما صرح أحد النواب، أنهم واجهوا نحو عشرين إشاعة خلال عيد الفطر هذا العام. 
 
على أن الإشاعات ليست مقتصرة على البعثيين فقط، إذ هناك من يحاول منافستهم في هذا المضمار. فقد عودتنا صحيفة المدى، لصاحبها فخري كريم بإشاعات من الوزن الثقيل ضد الحكومة، ورئيسها تحديداً. وقد أشرنا إلى موضوع إرسال إستبعاد الشيعة من بعثة الطيارين للتدريب في أمريكا..الخ، الخبر الذي نفاه آمر القوة الجوية، ولكن الصحيفة لم تتوقف عن هذا السلوك، فنشرت بعد أيام خبراً آخر بعنوان: (منع غير المحجبات من دخول الكاظمية يثير استغراب الأهـــالـي ويــزعــج التــجــار)، جاء فيه: "أعلنت الحكومة المركزية والمحلية منع دخول النساء السافرات في عموم مدينة الكاظمية تلبية لطلب احد القادة الأمنيين الذي كان قد حضر مجلس عزاء بمدينة الكاظمية واثناء تجواله بالمدينة شاهد امرأة غير محجبة فطلب منع دخول غير المحجبات إلى عموم مدينة الكاظمية... وطالب باستحداث شرطة اطلق عليها اسم شرطة الآداب". وعند صدور مثل هذه الإشاعة لا بد وأن تتبعها ردود أفعال بين إدانة وتأييد، وإثارة الرأي العام وتضليله وإشغاله بمثل هذه الأمور. 
هذا الخبر، هو الآخر تبين أنه مفبرك، حيث نفته وزارة الداخلية جملة وتفصيلاً، إذ كما جاء في السومرية نيوز: (الداخلية تنفي منع دخول النساء "غير المحجبات" إلى مدينة الكاظمية)، ورد فيه: "نفت وزارة الداخلية العراقية، الأربعاء، (29/8/2012) الأنباء التي تحدثت عن منعها النساء غير المحجبات (السافرات) والشباب الذين يرتدون ملابس الموضة والقصيرة من الدخول إلى مدينة الكاظمية، وفي حين أكدت أن ذلك يدخل ضمن الحريات الشخصية، أشارت إلى أنها لا تضم في تشكيلاتها شرطة الآداب".
 
والسؤال هنا: ما الغاية من نشر هذه الإشاعات والأخبار الكاذبة، ومن المستفيد منها؟ الغاية واضحة، وهي التصيد بالماء العكر لإفشال العملية السياسية والديمقراطية بغطاء الدفاع عن الديمقراطية "الحقيقية". والديمقراطية الحقيقة في رأي هؤلاء هي أن تكون حسب مقاسات البعثيين، ومقاسات صاحب المدى، وليس حسب ما تفرزه صناديق الاقتراع. وحجتهم أن رئيس الوزراء هو من حزب الدعوة، أي إسلامي، وأن الإسلاميين لا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين، ويرددون مقولة (فاقد الشيء لا يعطيه). ولا أدري متى كان البعثيون وحلفاؤهم، ومن لف لفهم، كانوا ديمقراطيين حقيقيين؟
كما ونود أن نؤكد لهؤلاء السادة "الديمقراطيين الحقيقيين" أن الدولة الديمقراطية لا يمكن بناؤها على الإشاعات وتلفيق الأخبار الكاذبة. فهذه الحملة ليست نزيهة، ودليل على أن المستهدف منها هو على حق، لذلك يلجأ خصومه إلى التلفيق ومحاربة الحقيقة. وهم على خطأ، لأن ما بني على باطل فهو باطل، ودليل على الإفلاس الفكري والسياسي والأخلاقي.
 
والجدير بالذكر، فيما يخص صحيفة المدى، أن نشرت قبل أسابيع (Middle East On line) مقالاً لأستاذ في جامعة إنديانا/بنسلفانيا، بعنوان: (Can Maliki Survive Washington’s Designs?)(2)، استشهد الكاتب بخبر نقلته صحيفة المدى، مفاده أن أمريكا مازالت تتمتع بنفوذ في العراق. وليعطي الكاتب دلالة للخبر، وصف الصحيفة بأنها مقربة من واشنطن: 
(the Iraqi newspaper, al Mada which is closely connected to Washington). وأنا لست ضد التقارب من أمريكا، بل أدعو الحكومة العراقية إلى بناء علاقة استراتيجية حميمة مع أمريكا، فلأمريكا الفضل في خلاص الشعب العراقي من أبشع نظام دكتاتوري فاشي عرفه التاريخ، وبدون الدعم الأمريكي لا يمكن للعراق أن يتخلص من مشاكله مع الإرهاب ودول الجوار التي تريد له الشر، ولكن أن يأتي صاحب (المدى) الذي كان حتى وقت قريب قيادياً في الحزب الشيوعي العراقي الذي اعتبر معاداة أمريكا والغرب و"الرأسمالية المتوحشة" جزءً مهماً من أيديولوجيته، وشرطاً أساسياً من شروط الوطنية، يوصف اليوم بأنه مقرب من واشنطن، هذه مسألة مثيرة للحيرة والتساؤل. وهنا نود أن نذكِّر أحد كتاب المدى الذي تهجم علينا قبل أيام في مقال بائس، قائلاً: " يبدو أن منظّر دولة القانون السيد عبد الخالق حسين نسي القراءة بالعربية جيدا، او ان ثقافته الانكليزية التي ظلت تراوح بين ادعاء الماركسية والتغزل بالرأسمالية،...ألخ". ندعوه ليعرف أن ولي نعمته الذي كان يدعي الماركسية، هو الآن يتغزل بالرأسمالية ويتقرب من أمريكا.
 
خلاصة القول، أن العراق الجديد يواجه هجمة ضارية من الشباطيين، القدامى والجدد، في تضليل الناس بنشر الإشاعات، والأخبار المفبركة، القصد منها إرباك القيادة السياسية، وتضليل الناس، وخدعهم لإفشال العملية الديمقراطية، وتمهيد الطريق لعودة حكم البعث الفاشي. وحسناً فعل مكتب آية الله السيد السيستاني بالرد السريع وتكذيب الإشاعة عن الوصية المزعومة. لذلك نقترح على من يهمه الأمر، وخاص مكتب رئاسة الحكومة، تشكيل لجنة من الإعلاميين مهمتها ترصد الإشاعات والأخبار الكاذبة، والتصدي لها وفضحها وهي في المهد، وملاحقة صناعها ومقاضاتهم لحماية الرأي العام من التضليل.
 
لا شك أن مواجهة الخرافة والإشاعة عملية صعبة، لأن السباحة عكس التيار أصعب من السباحة مع التيار، ولكن يجب أن لا تثنينا هذه الصعوبات عن أداء واجبنا الوطني وإرضاء ضميرنا، إذ كما قال جورج أورويل: "قول الصدق في زمن الخديعة عمل ثوري". 
 
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com  العنوان الإلكتروني 
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/  الموقع الشخصي
أرشيف الكاتب في موقع كتابات في الميزان :
ــــــــــــــــــــــــــــ
مواد ذات علاقة بالموضوع
1- مكتب السيستاني ينفي صحة معلومات بشأن وصية المرجع الأعلى
 
2- Middle East Online::Can Maliki Survive Washington's Designs?
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=21501
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 09 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19