• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : محمد ؛ الرسالة والرسول الجزء الثاني .
                          • الكاتب : مير ئاكره يي .

محمد ؛ الرسالة والرسول الجزء الثاني

 

بقلم / الدكتور نظمي لوقا / مفكر وفيلسوف مسيحي مصري
أعده وعلق عليه وكتب له الملاحظات ؛ مير عقراوي / كاتب بالشؤون الاسلامية والكوردستانية 
[                      صبي في المسجد ... 
صبي قصير ، نحيل ، عصبي الملامح ، واسع العينين ، تطل منهما نظرة تطلّع ، وفي ثيابه إهمال وفي يديه آثار حبر ، ورباط حذائه مرسل يكاد يتعثر به وهو يمشي ، وسنه لم تتجاوز السادسة إلاّ قليلا . يقطع الطريق جادّا مسرعا بعد صلاة العصر بقليل الى مسجد في السويس ، قريب من مبنى المحافظة بها ، لايلوي على شيء . 
ويتمهّل الفتى عند دكان الحلاق الذي يواجه المسجد ، ليرى الشيخ جالسا ، بقامته المفرطة في القصر ، وجبهته المفرطة في العلو ، وبشرته البيضاء المحمرة ، وثيابه النظيفة الناصعة ، ولحيته الصهباء (1) التي يخالطها بياض كثير . 
ويقريء الفتى أستاذه الشيخ السلام ، ويهش الشيخ للقائه ، ويده تداعب ساعة جيبه الكبيرة المصنوعة من المعدن ، يفتحها ، ثم يتحسّس عقاربها ، ويغلقها ثم يعيدها الى جيب قفطانه (2) الأبيض .. وترتسم على وجهه ظلال إبتسامة ، يكاد الفتى يراها في موضع عيني الشيخ ، لولا أن هاتين العينين أغلقهما مرض في الطفولة الباكرة إغلاقا أبديا . 
ويقبض على قلب الفتى قابض ، لم تذهب به الألفة المعادة كل يوم .. وينظر بحسرة الى صفحة السماء الصافية ، ويقشعِرّ بدنه ويتنهّد . ما أنكد هذه الآفة .. إنه ليؤثر الموت على هذا الحرمان الوجيع ، من ومضات النور ، وهمسات ظلاله .. وهي تبدي أتفه وأشوه المرئيات .. حتى هذه البقية من الروث التي تركها حصان كان يجر عربة عابرة .. فكل شيء عزيز على العين ، حتى ولو لم يكن جميلا مرغوبا .. لأنه يبدي لها نورها . 
ويتأبّط الشيخ الكفيف ذراعي الصبي ، وإنه ليضارعه طولا أو قصرا ثم يدبّ بعصاه عبر الشارع .. والصبي لايخطيء نظرات الفضول من الحلاق ، وزبائنه ، وعابري السبيل . الى أن يدخل الشيخ وتلميذه من باب المسجد ، ليبدآ درسهما اليومي من بعد صلاة العصر ، الى صلاة العشاء . 
ففي مدينة السويس الصغيرة ، سنة 1926 ، لم يكن أحد من أهليها يجهل من الشيخ سيد البخاري ، إمام مسجدها ، وعالمها وفقيهها ، يجلّونه ويرهبونه . فإن له لعلما ورأيا ، وإن فيه لشجاعة في الحق ، وذرابة (3) في المنطق ، وأنفة تدخله لديهم مدخل الكبر الذي لا يغتفر لمن كانت به كالشيخ خصاصة شديدة ، يداريه بتجمل أشد . 
ولم يكن أحد من أهليها يجهل كذلك من الصبي الصغير ، إبن ذلك الموظف النازح الى السويس ، فيه وسامة وأناقة ، وفي لسانه عذوبة وذلاّقة (4) .. وإنهم ليعرفونه رجلا قبطيا (5) صليبية .. يؤم الكنيسة يوم الأحد .. وفي مدينة كالسويس يتساءل الناس عن النازحين اليها والغرباء من الطارئين . وهم يعرفون أن لهذا الموظف والد الصبي أرومة معرفة في صناعة القسوس . فكم له من جد من ذوي الطيالس السود والعمائم السود (6) .. فلا شك إذن في قبطية هذا الصبي الذي يرونه كل يوم يؤم مسجدهم الحنيف مع الامام العالم الشيخ .. وأن الحيرة لتستبد بهم ، ثم تأخذهم نافلة من الغيرة ، يتهامسون بها فيما بينهم ويتناجون . ومن أمّ منهم المسجد لصلاة المغرب ، رأى الشيخ ينفض يده من درس الفتى في مؤخرة المسجد ، ويتقدم فيؤم المصلين ، ثم يعود ليصل من الدرس ما آنقطع . والفتى ينظر اليهم مصلين ، ويسمع لما يتلى في الصلاة ، وفي عينيه ذلك التطلّع القلق ؛ فمنهم من يزوّر عنه ، ومنهم يحملق فيه بفضول . 
وخرج بعضهم من النجوى الى العلن ، فجاهر الشيخ بما في نفسه ، وراجعه فيما يفعل . فإن كان حبا للتدريس ففيم رفض التدريس لإبن فلان وفلان من الوجوه على مابذلوا له من مال وفير ؟.. وإن كان حبا للمال ، ففيم خطبه التي يحارب بها التقرّب للأولياء ، وتقديم النذور ، ورَفْعَهُ صندوق النذور من مسجده ، وقد كانت له من ذلك حصيلة طيبة إن شاء . 
ويغضبها الشيخ غضبة لله وبيوته ، ولسماحة دينه ، ويبدي من ذلك مايفحم سامعه . ولكن السامع ينهض غير قانع مما سمع . لأن حجة العقل لاتقنع القلب . والقلوب التي لايعمرها نور الحب ، لاتستجيب إلاّ للأثرة ، والأثرة تتغذى بالعداء لا بالولاء . 
ويضمر الشيخ في نفسه أمرا ، فإذا كان الغد أرسل الى ذلك المعترض أن يوافيه بعد صلاة العصر لأمر . ويحضر الرجل وقد عقد مجلس الدرس بجوار عمود المسجد ويستمهله الشيخ قليلا ريثما يفرغ له . ويتابع الدرس . وكان موضوعه تفسير سورة الضحى . ويتلو الصبي السورة بلسان قويم ، وإيقاع سليم . ويختمها ب( صدق الله العظيم ) . ثم يشرع في تبيين معانيها ، مستشهدا بسيرة الرسول الكريم . والشيخ يناقشه حينا ، ويوجهه حينا آخر ، ويستوضحه حينا ثالثا .. حتى اذا بلغ الموضوع غايته .. وجه الشيخ الكلام الى صاحبه الزائر قائلا ؛ 
_ كيف بنوك يافلان ؟ 
_ بخير يامولانا .. يقبلون الأيدي .. 
_ تعرفني يافلان أمقت تقبيل الأيدي وأخذل عنه الناس .. أعرفت فيم أرسلت اليك ؟ .. 
_ فأطرق الرجل وقال ؛ 
عرفت يامولانا . 
_ إنصرف راشدا .. 
ونهض الرجل محييا . وتحرى أن يصافح الصبي الصغير في مودة سابغة أشبه شيء بالإعتذار .. 
ورآه الفتى بعد ذلك اليوم – وكان ساعاتيا له دكان قريب من المسجد – يستقبله بالتحية التي يلقي بها الشيخ ، كلما مر به قادما أو منصرفا .. ويكاد يلمس في صورته وإيمائه هزة الخشوع . 
وكان والد الفتى – أكرم الله مثواه – شديد الولوع بالفصاحة والفصحاء . إتفق له شيء من قرض الشعر في صدر شبابه . وآمن أن ولده البكر ينبغي أن يصيب من ينابيع الضاد (7) وبلاغتها أكبر حظ مستطاع . ورأى هزال ما يتاح لطلاب المدارس من ذلك كله فعهد بولده الى ذلك الشيخ الذي آلتقى به في دكان الحلاق فبهرته منه شخصية مشرقة ، وذهن رحب ، وسماحة ما كان يتوقعها في أحد الأشياخ ، فقد سمعه يستشهد أمامه بآيات من الإنجيل وهو في حديثه الدارج مع الناس من حوله لايحيد عن الفصيح من اللفظ والجزل (8) من التراكيب فكأنما خرج الشيخ لِتَوّه من سوق عُكاظ (9) ، وهم الشيخ أن يعتذر بزهده في التدريس ، لولا أن الوالد ذكر له أنه أقرأ ولده كليلة ودمنة (10) قبل أن تسمح سنه بدخول الدراسة الابتدائية . وأن الفتى – وهو أصغر طلاب مدرسته وأقصرهم قامة – وجد نفسه في مؤخرة صفوف الفصل في أول يوم . فرفع يده وقال للمعلم – وكان معمما – بلغة فصيحة ؛ 
_ أريد أن أجلس بجوار السبورة ! .. 
فضج التلاميذ بالضحك ، وقال المعلم ضاحكا ؛ 
_ لك ذلك أيها الفيلسوف العجر (11) ! .
فذهبت مثلا (!) ، وصارت هذه كنيته بين أترابه وأساتذته ، لأنه يأبى أن يُحَدِّثَ المعلمين إلاّ باللغة الفصحى .. 
_ وآشتهى أن يُقَوِّمَ لسانه بالقرآن ، وتتهذّب نفسه بالمعقلقات وعيون الشعر (12) .. 
فأخذت الشيخ هزة وقال ؛ 
_ أما وأنت لاتريدني على تدريس تلك المناهج السقيمة والخوض الى تلك المدارك الضحلة فهذا مطلب تطيب به نفسي وينشرح له فؤادي . 
_ والأجر ؟ .. 
_ أمره لك .. وأكبر جزائي أن تزهر للعربية شجرة مثمرة في قلب فتى أريب ، في زمن أوشك اللسان العربي القويم فيه أن يعز وجوده كالكبريت الأحمر (13) ! . 
ووجد الفتى في أستاذه المكفوف خزانة أدب وعلم وفقه وفلسفة .. وخلق . 
كان الشيخ يحفظ أشهر دواوين العرب وعيون الخطب .. وكان التعليم بالضرورة شفويا . ولابد فيه من ضبط مخارج الحروف وإقامة النحو ، وتجنب اللحن ، وتوخّي الجزالة ، فتعلم الفتى ، يتكلم وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح . 
وبدأ الفتى يحفظ القرآن . ويقف عند كل آية ، ويملي عليه الشيخ موجزا لتفسيرها ، ثم يملي عليه مايتطرق اليه ذهنه الخصب بصددها من الأمثال السائرة والشعر المشهور . فتعلم الفتى كيف يربط المعنى اللغوى بالصورة الجمالية والذوق الأدبي . 
وخرج الفتى مبرزا في إمتحان نصف السنة وأتى شيخه فرحا مرحا ، فجعل الشيبخ موضوع درسه ذلك اليوم بيتا من الشعر الحكيم ، ثم آية من القرآن الكريم . أما البيت فهو ؛ 
واذا كانت النفوس كبارا * تعبت في مرادها الأجسام 
وأما الآية فهي ؛ { ولاتمشِ في الأرض مرحا ، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا } ! . 
وكان على الفتى أن يعالج الموضوعين بلسانه .، والشيخ يستدرجه ويحاوره على سنة سيدنا ( سقراط ) (14) عفا الله عنه .. الى أن وصل الى غايته من تصغير الغرور اليه . 
وأتاه بعد ذلك بأيام حزينا مغيضا . فقد دعاه أستاذه الى السنة النهائية وطلب اليه أن يصحح – وهو تلميذ بالسنة الأولى – خطأ طالب طُرَّ شاربه وأوتي بسطة في الجسم ، بعد أن عجز كل تلاميذ الفرقة النهائية عن ذلك التصويب ، فأجاب بداهة ، وأمر الأستاذ التلاميذ جميعا أن ينهضوا له واقفين ويحيوه تحية التعظيم ففعلوا صاغرين .. حتى اذا آنقضى اليوم المدرسي ، تربصوا له بالباب وأحاطوا به وخطفوا طربوشه وجعلوا يتناقلونه بالأرجل وصبوا على الصغير سخريتهم وآذوه باللفظ واليد ، حتى تمزقت ملابسه وآحمر قفاه . ولولا أنفته الشديدة لفاضت عيناه . 
وعض الشيبخ نواجذه ، ثم قال ؛ 
_ الموضوع الذي سنجعله مدار حديثنا اليوم هو ؛ ( آية الفضل أن تُعادى وتُحْسَدَ ) ، و ؛ 
كل العداوات قد تُرجى إزالتها * إلاّ عداوة مَنْ عاداك عن حسد 
وتشعب الحديث وتطرق الى فنون من الفكر والشعر ، حتى اذا آنتهيا الى قول أبي الطيب (15) ؛ 
واذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الشهادة لي بأني كامل 
إستشعر الفتى العزة بعد الذل ، والكرامة بعد الهوان . ولما آنس منه شيخه أن جرح كرامته قد آلتأم ، إنتقل الى جرح من نوع آخر ؛ الى جرح أحدثه الحقد ، ونزعة فطرية الى الثار(16) ، فقال للفتى ؛ 
_ أريد أن تعد لمجلس الغد قول أبي الطيب ؛ 
وأتعب من ناداك من لا تجيبه * وأغيظ من عاداك من لاتشاكل 
وأيضا قول المسيح عليه السلام ؛ أبت آغفر لهم فإنهم لايدرون مايفعلون ! . 
أمن عجب بعد هذا أن يكون الشيخ ملاذ الفتى في كل ملمة ، ونبراسه في كل مدلهمة ، وقدوته التي يأتم بها عقلا وقلبا وعاطفة وضميرا ؟ .. 
لقد أصبح الشيخ القزم عملاقا ، وسكن اليه الفتى وآطمأن ، وأخذ نفسه بأدبه وفضله . أمره الأمر ، ورأيه الرأي .. 
وذات يوم أتى غلام صغير الى المسجد يلتمس الشيخ ، فعرف فيه الفتى خادم أستاذه . فقال له ؛ 
_ ( الولد ) حضر يامولانا .. الولد خادمك . 
فأشاح بعنقه كعادته حين يضيق بشيء يسمعه . وأدنى الغلام وتسارّا برهة ، ثم آنصرف الغلام . وعندئذ قال الشيخ ؛ 
_ ما هكذا يكون أدب السادة أيها السيد (!) ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ؛ فتاي وفتاتي ، ولايقول عبدي وأمتي .. (17)
وآنطلق يوبخه بما كان للرسول وصحابته من أدب رفيع في معاملة خدمهم . ثم قال له في حزم ؛ 
_ أرجو أن تفكر حتى غد ، وعندما تخلو الى نفسك في المخدع ، ماذا لو كنت مكان أحخد ممن تسميهم خدما ؟ ، فإنه مثلنا إبن أب وأم . والدهر الذي جار عليه جار على سائرنا . 
وأحب أن تفكر قول الشاعر ؛ 
اذا ما الدهر جرّ على أناس * كلا كله أناخ بآخرينا 
وأرق الفتى ليلته وقد تصوّر أباه هلك كما يهلك كل حيّ ، وتصوّر نفسه يتلقّى الركل والسباب والإهانة خادما في بيت كبيته هذا . وطار قلبه شعاعا . وما آستيقظ حتى تعمّد أن يكون بالخادم في بيته رفيقا رقيقا . ولما رأى أمه تسبه وهي تتعجّله قضاء حاجة ثار بها ، وأسمعها طرفا مما وعاه من آداب الرسول وصحابته في هذا السبيل . فآحتقن وجهها وأتت أباه فأخبرته . ووعدها أن يكون له مع الشيخ حديث في ذلك النهار . 
ولما حصل العصر ، قيل للفتى ؛ إنه لادرس اليوم ، وذهب الوالد فلقى الشيخ وقال له ؛ إن بالفتى وعكة . ثم تطرق الكلام الى بيت القصيد ، وأدرك الشيخ مراد الرجل ، فقال محتدا ؛ 
_ هل ترضى مني أن آخذا ولدك بغير الأدب الأكمل والنهج الأقوم ، وأن أعرف الحق وأحيد به عنه ؟ 
_ بل لا أريد .. 
_ وإن أردت أنت فلن أريد (!) ، لأن ذلك هو الغش البيّن . فهل تراك أخذت على الدهر ميثاقا وقد عجز عن ذلك الملوك والسلاطين وأصحاب الملايين من قبلك ؟ 
_ ولكن الله يامولانا رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات .. 
_ ويداول الدنيا بين الناس (!) ، ثم أما قرأت كتابك ؟ ، ألم تجد فيه أن المسيح عليه السلام – ورأيكم فيه ما تعلم ! – غسل أقدام حواريييه ؟ ، آداب الرسل ليس فيها تفاوت (18)  . وإنما التفاوت عندنا حين نفرط في لباب الدين لنتملّق بزخارف الدنيا . 
وأعاد الرجل على زوجه حديث الشيخ ، وآذنها أن الفتى مستأنف درسه منذ الغد ؛ فما كان ليحبسه عن رزق من الحكمة الرفيعة أتاحه له الله في صورة هذا الشيخ . 
_ وإني يافلانة لأَستحي - ، والله أن يظن الشيخ بنا دون هذه الآداب . 
وكأنما همس الهامسون في آذان الأبوين كما همس هامس من قبل في أذن الشيخ .. ولعل غيورا من أهل الحذلقة قال لهما ؛ 
_ كيف تخاطران بالفتى هذه المخاطرة . ، فإنه يخشى أن يفتنه الشيخ عن دين آبائه . 
ووجد الفتى أبويه يقرآن له فصولا من الإنجيل كل يوم ويرسلانه الى الكنيسة يوم الجمعة . وجعلت أسرار العقيدة تصب في دماغه صبا . فآستعصى منها على ذهنه ما آستعصى وناقش ، فقيل له ؛ إن الإمعان في التفكير يسوق الى الكفر ، وأن المناقشة سبيل الشك . ومن دخل الشك قلبه فارقته نعمة الايمان ، وبغير نعمة الايمان يهلك المرء ولايدخل ملكوت السماء . 
وآلتمس الفتى عند شيخه الهداية ، فحرج الشيخ أن يطرق الموضوع ، بيد أنه حدثه عن العقل . وأنه الامام الذي أنعم الله به عليه . وأن الدين المتين يُقْوى بالتفكير والتعقل . وأن اليقين الذي لايصمد للشك يقين زائف . والمطمئن اليه مخدوع كمن يُشَيّد بيته على الرمال .. وحدثه الشيخ في ذلك اليوم عن رجل سمع به حينئذ لأِول مرة ، وكان لإسمه ونهجه أثر حاسم في حياته من بعد . حدثه عن ( غاندي ) ( 19) . وكيف يصلي بآي من القرآن والانجيل والتوراة والبرهمابوترا . وحدثه عن متصوفة الاسلام ، وعن محي الدين بن عربي (20) .. وكيف أن لباب الدين كله واحد عند من ينفذون الى الجوهر وينبذون القشور . 
_ إقرأ يابني كتابك بنفسك . وآحتكم الى عقلك ، وآعلم أن كل دين ينهى عن قالة السوء ، وعن فعل السوء ، وعن تفكير السوء (21) . 
 وسمع الفتى بعد ذلك واعظا مشهورا حضر الى المدينة وآحتشد القبط لسماعه إحتشادا مشهودا ، فإذا بعظاته كلها تنديد بطائفة البروتستنت (22) ، سماهم الذئاب الخاطفة ، وحض على إختصامهم ،.  فلا يحل لقبطي أن يصافح منهم أحدا ، أو يرد عليه السلام ! .. 
وصوّرت المخيلة الناشطة له أولئك الناس ذوي أنياب كاشرة ، ومخالب كاسرة . وذهب الى شيخه بذلك الحديث فزعا . 
فآغتم الشيخ وقال ؛ 
_ أواثق أنت مما سمعت يابني ؟ . 
_ كل الثقة يامولانا .. 
_ أعوذ بالله (!) ، إن مسيح هذا الواعظ ليس مسيح الناصرة ولامراء ! .. فالمسيح الناصري يقول ؛ أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم ! .. كبرت كلمة تخرج من أفواههم (!) ، إقرأ إنجيلك يابني وآفتح له بصيرتك .. وآصدد عن مفسّري السوء ما آستطعت . 
ووعى الفتى درس شيخه ، فتزوج بعد عقد ونصف إحدى بنات ( الذئاب الخاطفة ) المزعومين ! . 
وحفظ الفتى القرآن لتسع ، ووعى المعلّقات وديوان الحماسة (23) ، وقرأ اللزوميات (24) . وآفتتن بأبي العلاء والمتنبي على وجه الخصوص ، وأصبح وسيرة الخلفاء الراشدين آلف لديه من عشرائه . يكاد يقدس آبن الخطاب وأبن أبي طالب . والشيخ من وراء ذلك كله أعز عليه من أهل الدنيا جميعا . 
أتاه ذات يوم باكيا ، فسأله ما به ؛ 
_ سعد يامولانا . 
_ رحمة الله على الزعيم الجليل (!) ، ماذا ذكّرك به ؟ .. 
_ ليس سعدا هذا .. بل الآخر .. 
_ ومن ذاك يرحمك الله ؟ 
_ هو كبش كنا نربيه في البيت .. غافلوني وذبحوه للعيد ! . ولما بكيت سخروا مني .. ولم يكفهم أن يأكلوا منه . فأرادوني – وألحوا – أن آكل منه مثلهم .. فأبيت ! .. ولم يضحك الشيخ ، بل رق للفتى رقة واضحة . 
_ ولماذا يسخرون منك ؟ ، لقد بكيت من أحببت ؟ .. 
_ أليس كذلك ؟ .. وقالوا ؛ حرام ألاّ تأكل مما أحل الله . 
_ ليس حراما أن تحب شيئا خلقه الله . 
_ وقالوا ؛ أتحب خروفا كأنه أخوك ؟ 
_ الحب يابني شيء جميل جليل .. ولو كان لشيء تافه ضئيل . ألا يحب الواحد منهم أصصا (25) من الزهر ؟ .. أو حلية من الجوهر ؟ . لاتثريب عليك فيما أحببت ! .. فليس قيمة الحب فيما نحبه ، بل في حبنا له .. وإن لك لقلبا سخيا وفؤادا ذكيا . 
وأصبح الشيخ أقرب الى الفتى من آله وذويه ، بهذا الفهم ، وهذا الحس . 
وأصيب شقيق للفتى في مهده بمرض طويل ، أكل علاجه الأخضر واليابس ، ثم مات فركب الأسرة دين وسافرت أم الفتى – وهي حامل في شهرها الثامن – الى القاهرة تطلب من أمها الثرية حفيدة القسوس جزءا من حقها القانوني في وقف جدتها . وكانت أم الفتى وحيدة أمها . ولبثت الأم في سفرها ثلاثة أيام أحس الفتى فيها بالوحشة . ثم عادت الأم من سفرها خاوية الوفاض ، دامعة العين . وقد أبت عليها أمها الثرية حقها ، وهي بين الثكل والحمل والحاجة مهيضة الجناج مضعضعة النفس . 
وقررت الأسرة أن تضغط المصروفات كلها لمواجهة الأزمة . فآنتقلت الى بيت أرخص أجرا وقطعت تيار الكهرباء وآستغنت عن الخادم والغاسلة . وأقبلت الأم الحبلى تعمل بيديها كل شيء ، حتى الخبز ! .. فحزّ ذلك في نفس الفتى الذي يكاد يعبد أمه من دون الله .. 
وتقرر فيما تقرر الاستغناء عن الدرس . وكان الشيخ قد عرف طرفا من ذلك الحديث من الفتى الذي لم يكن يطوي عنه أشجانه . فإذا به يسكت عندما فاتحه أبو الفتى في آنقطاع إبنه . وينصرف الأب الى داره ، واذا بالباب يطرق بعد قليل . واذا بالشيخ الضرير يقوده صبي الحلاق . ويبادر الوالد قائلا ؛ 
_ ما أظنك تأبى أن أكون أنا ضيفك كل يوم ساعة أو نحوها . 
وعرف الفتى أن الشيخ عازم أن يستمر الدرس ، بغير مقابل ، وأن تلطفه شاء له أن يكون هو الساعي الى تلميذه صونا لعزته وزيادة في مروءته . 
ولم يسمع الفتى إلاّ أن يقارن في نفسه بين فعل جدة تنتمي للمسيح وتتشدق بإسمه . وبين فعل شيخ يصلي بالناس على محمد وآله خمس مرات في كل يوم ! .. 
ليس البر وقفا إذن ، على دين دون دين . 
وفي العاشرة رحل الفتى عن السويس ، ولم ير الشيخ بعدها ، ولكن الشيخ ظل قائما في عقله ونفسه ولسانه . فقد صاغ الشيخ في الفتى ذلك كله ، وفتح عينيه على آحتقار الجاه وآحترام العقل وتقديس العقل وشجاعة الرأي .. ] . 
التعليقات والملاحظات ؛
1-/ لحيته الصهباء ؛ تبدل لون اللحية الى البياض مع وجود سواد قليل من اللحية . والصهباء هو اللون الأصفر الضارب الى شيء من الحمرة والبيض كما في معاجم اللغة . 
2-/ قفطان  ؛ القفطان هو السترة ، أو القابوط كما باللهجة العراقية الدارجة . 
3-/ ذرابة ؛ من التذريب بمعنى الحد والتحديد . يقال ؛ لسان ذرب ، أي لسان حاد وبليغ . 
4-/ ذلاّقة ؛ من فصاحة اللسان . 
5-/ القبط ؛ جمعه أقباط حيث يطلق على المسيحيين في مصر والسودان . 
6-/ العمائم السود ؛ كناية عن عمائم رجال الدين الأقباط حيث عمائمهم سوداء اللون . 
7-/ ينابيع الضاد ؛ أي مصادر الضاد ، والمعنى المقصود هنا اللغة العربية المعروفة ب( لغة الضاد ) ، وسببه ان حرف الضاد من الحروف الصعبة للنطق ، وبخاصة للشعوب غير العربية التي تفتقد هذا الحرف . 
8-/ الجزل من التراكيب ؛ الجزل من الجزيل ، أي الكثير . بالأصل الجزل هو الحطب الكثير اليابس ، ومجازا الجزل معناه الكثير كما ورد . المراد هنا هو الكثرة والجودة في تراكيب الجمل . 
9-/ سوق عكاظ ؛ هو أحد الأسواق الكبرى المعروفة في الجزيرة العربية ، في مكة بالجاهلية ، أي قبل الاسلام . وكان الأشراف والأثرياء والشعراء يجتمعون فيه ؛ إما لأنشطة قبلية ، أو تبادل الحلول للمشكلات ، أو للتجارة ، أو للتباهي بالشعر والأشعار . 
10-/ كليلة ودمنة ؛ هي كتاب هندي الأصل وقديم تاريخه إذ يعود الى نحو ثلاثة آلاف عام كما يقول بعض المحققين . عليه فإن كتاب كليلة ودمنة هو كتاب يحتوي عل حكايات قصيرة على ألسنة الحيوانات والطيور ، وهو ذات مفهوم نصائحي وإرشادي . يبدو ان هذا الكتاب قد ألف لأحد ملوك الهند وقتها ، ويذهب البعض ان هذا الكتاب له شبه بكتاب ( الأمير ) الذي ألفه الكاتب الايطالي ( نيقولا مكيافللي / 1469 – 1527 ) في الفقه السياسي . في البداية ترجم هذا الكتاب الى اللغة الفارسية من اللغة الهندية ، ولايعرف شيئا عن مترجمه هذا ، ثم ترجمه عبدالله بن المقفع / 734 – 757 من اللغة الفارسية الى اللغة العربية . ويعتقد بعض الباحثين في هذا الشأن أن آبن المقفع قد زاد من عنده شيئا من الحكايات والقصص على كتاب كليلة ودمنة ! . 
11-/ الفيلسوف العَجَر ؛ العجر باللغة معناه القوة والإمتلاء . والمؤلف يقصد بالفيلسوف القوي والمتليء بالعلم والفلسفة والمعلومات . لكلمة العجر معان أخرى في اللغة العربية ، لكن ماقصده المؤلف هنا هو ما تم ذكره آنفا .
12-/ المعلّقات ؛ هي من أشهر مارواه وما كتبه العرب من الشعر في الجاهلية . وسمّيت بالمعلقات تشبيها بالعقود النفيسة التي تعلق في الأذهان ، أو لأنها كانت تعلق على أستار الكعبة قبل الاسلام . 
13-/ الكبريت الأحمر ؛ هو معدن ثمين ونادر من المعادن ، لهذا يضرب به المثل لجودته وندرته . 
14-/ سقراط / 399 – 469 ق ، م ؛ هو فيلسوف يوناني شهير في مجالات التربية والأخلاق والمُثُل . كان سقراط فيلسوفا إنساني الطابع وشعبي المعاشرة . وقد كانت نهايته مأساوية ، حيث تم إتهامه بالتمرد فتم سجنه وإختياره نوع الموت الذي يريده ، فآختار سم الشكران فتجرّعه صابرا محتسبا ، فمضى الى ربه شهيدا مظلوما !! . 
15-/ أبو الطيب المتنبي ؛ 915 – 965 ، هو من أشهر وأشعر الشعراء العرب ، بل يصنفه الكثير أنه أشهر وأشعر شعراء العرب قاطبة وأكثرهم تمكنا باللغة العربية وقواعدها ومفرداتها وفنونها ، له أشعار جميلة وحكيمة وذات مفاهيم عالية ، منها ؛ 
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله * 
                   وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم 
أو ؛ 
اذا أكرمت الكريم ملكته * واذا أكرمت اللئيم تمرّدا 
16-/ فطرية الثأر ؛ إن الانسان اذا غلب عليه بعض الطباع السلبية والسيئة فإنه ينزع الى الثأر والانتقام . إن الاسلام جاء ليحذف الثأر والانتقام القبليين من وسط العرب ، حيث كانت كل قبيلة وعشيرة تدافع عن أفرادها سواء كانوا على حق أم لا . لهذا رفض الاسلام هذا المنطق منذ البداية وجعل مكانه قانون الشريعة وأحكامها وتعاليمها  ، أي تحكيم النظام والقانون بدل الإجراءات الفردية والقبلية – العشائرية التي لاتنتج منها سوى المزيد من سفك الدماء والسلبيات والأضرار للجميع  ، مع آنحدار المجتمع الى الفوضى وقانون الغاب ! . 
17-/ الخادم ؛ من المفروض أن لايكون هناك أناسا بإسم الخدم وبضا آخر بإسم المخدومين ، حيث ذلك تصغير ومهانة لإِنسانية الانسان كما ذهب اليه المؤلف القدير بكل براعة ، لكن إن جارت الظروف على بعض – مثلما قال مؤلفنا رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته – فآضطرتهم الى كسب لقمة العيش بإسم ( الخدم ) ، فعلى مخدوميهم أن يتعاملوا معهم بكل نزاهة ونُبل وإنسانية ، كما جاء في الحديث النبوي الشريف ؛ { إخوانكم خَوَلَكُم ، جعلهم الله تحت أيديكم . فمن كان أخوه تحت يده ؛ فَلْيُطعمه مما يأكل ، وَلْيَلْبِسْه مما يلبس ، ولاتُكلّفوهم ما يغلِبون ، فإن تُكلّفوهم فإعينوهم } ، وقال عليه وآله الصلاة واسلام أيضا عمّن يظلم الخدم ؛ { ألا مَنْ ظلمهم فإنا خصمهم يوم القيامة والله حاكمهم } . وجاء رجل الى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال  يارسول الله ؛ إني لِيَ خادما يسيء ويظلم أفأضربه ؟ ، قال ؛ { تعفو عنه كل يوم سبعين مرة } !!! . 
18-/ التفاوت ؛ كان الأنبياء كلهم دعاة حق ومساواة وعدل بين البشر كلهم ، لكن التفاوت حدث من قبل بعض المفسرين والمتشرِّعة والكهنة والسدنة للأديان . 
19-/ غاندي ؛ المهاتما غاندي / 1869 – 1948 ، هو سياسي وقائد وزعيم روحي وحكيم هندي شهير . كان غاندي معروفا بالحلم والحكمة والعدل والاعتدال ، وبالتسامح وسعة الصدر مع جميع المعتقدات والأديان ، وللأسف الشديد فإنه أغتيل بسبب ذلك من قبل هندوكي متزمت ومتعصب ! . 
20-/ محي الدين بن عربي ؛ 1164 – 1240 / هو أحد أشهر المتصوفة في الاسلام ، وله العديد من المصنفات ، منها كتاب ( الفتوحات المكية ) في ثمانية أجزاء . لقد كثر الجدل حول آبن عربي وآراءه وكتبه ، فمن الناس من كفّره ، ومنهم من توقّف فيه ، ومنهم من رآه قد أخطأ لكنه كان مؤمنا في إيمانه . برأيي إن آبن عربي له أخطاء وشطحات وآراء شاذة فيما ذهب اليه في كتبه ! . 
21-/ الأديان ؛ لاشك إن الأديان السماوية كلها في حقيقتها الأولية تنهى عن السوء والظلم والتفاوت بين الناس كما قال المؤلف رحمه الله . 
22-/ البروتستانت ؛ هم أتباع أحد المذاهب الدينية المسيحية  . وقد أسس البروتستانتية ( مارتن لوثر / 1483 – 1546 ) في ألمانيا بعد إنشقاقه عن الكنيسة الكاثوليكية في حدود القرن السادس عشر . وكان لوثر يدو الى التجديد والاصلاح في المسيحية والكنيسة الكاثوليكية بشكل عام . 
23-/ ديوان الحماسة ؛ هو كتاب في الشعر لأبي تمام الطائي ( 803 – 845 ) . كان أبو تمام الطائي أحد أمراء البيان والشعر الكبار في العصر العباسي . 
24-/ اللزوميات ؛ هي كتاب شرحه أبو علاء المعري ( 973 – 1057 ) الشاعر المعروف . 
25-/ أصثص من الزهر ؛ الأصص معناه وعاء كالجرّة ، وقد قصد المؤلف القحفة التي توضع فيها الزهور . 
 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=20223
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 08 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18