• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : السلطويون ومنطق الانحياز بين الخاص والعام .
                          • الكاتب : لطيف القصاب .

السلطويون ومنطق الانحياز بين الخاص والعام

ينظر كثيرون إلى البحث في التراث العربي الإسلامي عن حلول لمشاكلنا الاجتماعية ومنها مشاكل الحكم والسياسة باعتباره نكوصا إلى الماضي وعجزا عن الاستفادة من مكتسبات الحاضر!

ولكن هل يُعَدُ الحكم المتقدم حكما عاما ينطبق على مصادر التراث جميعها بما تتضمنه من غث وسمين. بمعنى آخر هل يُعَدُ الحكم السابق جديرا بالاعتبار حينما يجري البحث في وثيقة من وثائق الحكم العربي الإسلامي كتلك التي صاغها الإمام علي عليه السلام قبل أكثر من 1400 عام وأخذ على عاتقه تطبيقها عمليا على ارض الواقع طيلة مدة حكمه في عاصمة الدولة الإسلامية (الكوفة) قبل أن يضعها نظرية بين يدي حكام الأقاليم؟
ليس من قبيل الادعاء القول إن هذه الوثيقة التاريخية التي خاطب فيه الإمام علي عليه السلام حاكم مصر مالك الاشتر حوالي (38 هـ) وأراد فيها توجيه رسالة مشتركة لسائر حكام الأقاليم في الدولة الإسلامية آنذاك تجود بجملة من القواعد الذهبية في فن الإدارة والسياسة.
 وقد يكون من أبرز تلك القواعد تقسيم أفراد الشعب (الرعية) أفقيا إلى طبقة واحدة، وعموديا إلى طبقتين اثنتين هما طبقتا الأغلبية التي تندرج تحتها شرائح واسعة النطاق. والأقلية التي تندرج تحتها شرائح أضيق نطاقا، مع انحياز مضامين الوثيقة دائما إلى طبقة الأغلبية العددية كلما دعت المواقف إلى الترجيح بين تلك الطبقتين.
يقول الإمام علي عليه السلام: " وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق".
فالأساس الذي يحكم تعامل الحاكم مع مواطنيه يجب أن يكون مبتنيا على قاعدة المساواة، إن لم تكن المساواة على المستوى الديني فهي المساواة على المستوى الإنساني العام. والملاحظة القيمة في هذا الإطار تتجلى في أن هذا التقسيم العلوي للمواطنين على أساس طبقتين اثنتين سرعان ما ينصهر في طبقة واحدة لا غير، ذلك أن هاتين الطبقتين اللتين تستوعبان البشرية جمعاء سيقف أفرادهما جميعا على مسافة واحدة من قلب الحاكم المأمور باستشعار محبتهم حقيقة وصدقا لا ادعاء وكذبا. فلا يخلو المواطن حينئذ من أن يكون أخا للحاكم في الدين أو نظيرا له في الخلق. وهذا المواطن في كلتا الحالتين سيكون مرحوما بالرحمة نفسها ومحبوبا بالمحبة نفسها ومعاملا باللطف نفسه، فأي مراد يبتغيه مواطن فوق إحساسه بالمسؤول الأعلى للدولة وهو يرتبط به عاطفيا بعلاقة مفعمة بالحنو والرحمة من دونما تكلف واصطناع، ‏علاقة تناظر علاقة الأخ بأخيه بل علاقة الأب الرحيم وهو يشيع الود متساويا بين جميع أبنائه.
وتغدو هذه العلاقة الإنسانية النبيلة في أجمل حالاتها عندما يكون ديدن الحاكم تقديم مصلحة عامة الناس على المصالح الخاصة التي تطال شريحة ضيقة من المواطنين دون عمومهم فيقول عليه السلام في هذا السياق: "وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يُجحِف (يُذهِبُ) برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يُغتَفَرُ مع رضا العامة.... وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم".
ويتجلى التمييز العلوي لصالح أغلبية الناس مليا في تحذير الإمام علي عليه السلام الحكام من مغبة الوقوع في فخ محاباة أقلية من الناس وإيثارهم بالامتيازات، خاصة تلك الامتيازات التي تكون داخلة في موارد النفع العام ويترتب على التفرد بها من قبل أقلية من الناس ضياع لحقوق الأغلبية منهم فيقول عليه السلام: " ولاَ تُقْطِعَنَّ لأحد من حاشيتك وحَامَّتِكَ قطيعة ولا يَطْمَعَنَّ منك في اعتقاد عُقْدَةٍ تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك... فيكون مَهْنَأُ ذلك لهم دونك وعيبه عليك".
ولا تجد الإمام علي عليه السلام وهو في صدد بيان التقسيم الطبقي للمواطنين إلا منتصرا للشريحة الواقعة في أسفل السلم الاجتماعي أي أولئك الأكثر من سواهم عوزا وفاقة. إذ يقول عليه السلام "واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض... ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين ". فأبناء هذه الشريحة التي يدعوها الإمام علي عليه السلام بـ (الطبقة السفلى) جديرون بان يكونوا على رأس قائمة أولويات الحاكم المطالب بتخصيص مجلس علني يجمعه وإياهم وجها لوجه بحيث لا يكون فيه هذا الحاكم محاطا بحراس أو حمايات تحول بينه وبين الإصغاء إلى أحدهم وهو يجهر بالمطالبة بحقوقه المشروعة من غير ما خوف ولا وجل، فيقول عليه السلام في هذا الصدد: "واجعل لذوي الحاجات منك قسما تُفَرِّغُ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلسا عاما....وتُقْعِدُ عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشُرَطِكَ حتى يكلمك متكلمهم غير مُتَعْتِع".
إن السطور السابقة لا تدعي لنفسها إيفاء النصوص المقتبسة من عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الاشتر ما تستحقه من دراسة وشرح بأي حال من الأحوال. لكنها قد تفلح في إيصال رسالة مفادها: إن من يدعي الوقوف إلى جانب علي عليه السلام في حين أنه لا يمنح منطق الأغلب الأعم والصالح العام موقفه لا يمكن أن يكون صادقا في دعواه أبدا. ‏
 
 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=19582
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 07 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28