• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : مراجعة كتاب للأديب الراحل حبيب بولس قرويات - بين الحنين والجذور .
                          • الكاتب : نبيل عوده .

مراجعة كتاب للأديب الراحل حبيب بولس قرويات - بين الحنين والجذور

 ألكتاب قرويّات ( نوستالجيا / حنين )

ألمؤلف الدكتور حبيب بولس  

 

 

الناقد الراحل د. حبيب بولس ترك تراثا واسعا وهاما يشكل أحد أعمدة ثقافتنا العربية  داخل اسرائيل. ويمكن القول انه كان عمود الخيمة المركزي في حركتنا ألنقدية اذ  خص معظم اعماله النقدية وكتاباته التنظيرية لطرح قضايا ثقافية من  صميم ما يؤثر على مسيرتنا الثقافية ، سلبا او ايجابا.

بعض مقالاته اثارت ضجيجا كبيرا، اذ طرح فيها ظواهر سلبية انتقدها بحدة وسخرية، ولم يشملها حبيب في كتبه.

وكنت قد نشرت تلك المقالات في جريدة ألأهالي (2000 – 2005) التي كنت نائبا لرئيس تحريرها الكاتب والمفكر والشاعر سالم جبران، الذي قال عنه حبيب انه كان وراء تحوله الى النقد، اذ رصد قدرات حبيب النقدية وحثه على للانخراط في النقد. قال لي حبيب مرات عديدة انه ناقد بفضل "المعلم سالم جبران" كما كان يصفه حبيب.

انخراط حبيب بولس بالحركة النقدية المحلية اخرجها من كونها حركة لا تتعامل إلا مع اسماء محددة،وحركة نقدية معزولة عن ابداعات الشباب. الى حركة نشطة ترصد الابداعات كلها، وأقول ذلك بغض النظر عن حالتنا النقدية المترهلة اليوم.

بالطبع لا انفي اسماء نقدية بارزة ودورها، ولكني اتحدث عن خصوصية مدرسة حبيب بولس النقدية.

حبيب اعتنق الفكر الماركسي الذي أثر على اتجاهه النقدي، ولكنه الى جانب الفكر الماركسي كان يتمتع بحس لغوي وذوقي مرتفع جدا أشبه بالبارومتر .

وليس من الصعب الملاحظة ان حبيب دمج بين الفكر الماركسي والاتجاه الذوقي في تقييمه النقدي. كان أديبا في روحه ، وأكبر اثبات على ما ادعيه كتابه "قرويات" الذي أعتبره من أجمل ابداعات صدرت في ادبنا المحلي، ومن أجمل كتابات حبيب بولس، وقد صارحته مرات عديدة بموقفي، وسألته لماذا لم يتجه للكتابة الابداعية وهو يثبت بقروياته انه يملك الحلم القصصي واللغة السردية الجميلة؟

 لا اتذكر اجابته ألمحددة

سألته: هل يكون سالم جبران بدفعه للنقد قد حرمنا من كاتب قصصي مبدع؟

كل أجوبته كانت ابتسامته العريضة وتعليقات عن اهمية النقد في ثقافتنا، التي تشعرك انك امام انسان معطاء بنكران للذات، وان نشاطه الثقافي هو مهمة وطنية من الدرجة الأولى. كان على وعي بحالتنا الثقافية المأزومة بعد فترة شعراء المقاومة، وانبهار العالم العربي بشعرنا المقاوم. فنجده ينتقد بلا مواربة، بلا حساسيات وحساب للعلاقات الشخصية، فغضب من يظنون انفسهم فوق النقد. حبيب استمر في قناعاته ، وقال لي ما معناه أن كلمة الحق يجب ان تقال ، والا تحولنا الى مهرجين.

كان مستشاري الخاص أحيانا قبل نشر بعض المقالات، او الكتابات الفكرية او  الأدبية الابداعية،التي اشعر  بتردد من نشرها، بل وقال لي مرة عن احدى قصصي الطويلة انها تراجعا  عما انتجته،ونصحني بعدم نشرها، فأسقطها من حسابي !!

  حبيب بولس كما قلت كان يملك زمام الكتابة الابداعية القريبة من أجواء النص الروائي.  وهذا يبرز بقوة في قروياته، التي كتبت مراجعة عنها بعد صدورها. انشرها اليوم ضمن تعريف القراء على هذا الأديب الانسان المناضل والمعلم، الناقد د. حبيب بولس.

 

*******

 

"قرويات" حبيب بولس- حتى لا نفقد ذاكرتنا الجماعية

 

"المفارقات بين واقعنا وماضينا".. هذا ما يتجلّى للوهلة الأولى أمام قارئ كتاب "قرويّات" للدكتور حبيب بولس. لكن الإبحار مع نص "قرويات" يكشف لنا نوستالجيا غير عادية عايشها حبيب بولس في قروياته، مسجلاً تفاصيل بدأت تختفي من أجواء قرانا ومدننا العربية، من علاقاتنا وممارساتنا اليومية، من شوارعنا وبيوتنا، من ألعابنا وتسالينا، ومن وسائل تنقِّلنا، من مدارسنا، من معلمينا، من أفراحنا وأتراحنا، من مفاهيمنا السياسية ووطنيتنا، من مواسمنا وسهراتنا، من أعيادنا وعقائدنا الدينية، من ثقافتنا وفنوننا ونضالاتنا.

التغيير الذي يرصده حبيب كان أعمق من الشكل، لدرجة انه شكل لنا مضامين جديدة، أفكاراً جديدة، رؤية سياسية جديدة، ثقافة جديدة، أطعمة جديدة، بل ولغة جديدة أيضاً في مفهوم معين. كأني به يرصد التاريخ والعوامل "التاريخية" والثقافية التي غيّرت مسقط رأسه، قريته الجليلية "كفرياسيف" بشكل خاص وغيّرت واقع بلداتنا كلها بشكل عام وغيرتنا نحن (الناس) في الحساب الأخير. الى حدّ ما تذكِّرني "قرويَّات" حبيب بولس بكتاب للروائي السعودي عبد الرحمن منيف عن مدينة "عمّان".. حيث يعود بذاكرته الى عمّان في سنوات العشرين من القرن الماضي ليعيد تشكيلها.

حبيب في قروياته يرسم "لوحة نثرية" ان صحَّ هذا التعبير، لقرية عَلَمٍ من قرانا، كانت عَلَماً سياسياً وعلماً ثقافياً، وهو بذلك يضيف لها بعداً جديداً، علماً تراثياً أصيلاً، وربما يريد ان يقول لنا ان هذه الأصالة التي عرفتها كفر ياسيف، هي أصالة دائمة لا تنتهي، انما تتحول وتنطلق نحو أصالات جديدة دوماً.

حبيب في قروياته يريد ان يقول لكل واحد منا ان في داخله أصالة حقيقية، يجب ان يخرجها من داخله ويورثها لأبنائه. وهذا بالضبط ما يفعله حبيب بولس، وهو بالطبع يختار ابنه، ليورثه أصالة أجداده وأصالة قريته، وأصالة شعبه.. يختار ابنه ليورثه أهم ما يملكه الانسان في حياته، ذاكرته الخصبة.. وليملأه بالكرامة وعزة النفس، مقدِّماً نموذجاً شخصياً، استفزازيا لكل واحد منا، ولكنه استفزاز طيب وانساني، يحثنا بسياقه على الكشف عن جذورنا الأصيلة، عن نقاوتنا، عن قيمنا المغروزة بأعماقنا الانسانية، عنى جوهرنا الطيب الذي كان العنصر الحاسم في صيانة شخصيتنا الوطنية والانسانية أمام ما يجري في مجتمعنا من ردّة حضارية، وتعصّبات قبلية وسياسية ودينية حمقاء، هذه هي المفارقة الاخرى التي يصدمنا بها حبيب في كشفه عن جوهر اللؤلؤة المكنونة كفر ياسيف، بصفتها نموذجاً وطريقاً وتاريخاً. هذا النص الأدبي يتجاوز الكتابة التسجيلية التاريخية، ويقترب من النص الثقافي الحكائي، البطل فيه هي قرية كفر ياسيف وأهلها، والهدف حفظ الذاكرة الجماعية لكفر ياسيف، ولعلها الخطوة الاولى لبدء حفظ ذاكرة شعبنا الجماعية في كل أماكن تواجده. "البطل" الآخر في هذا النص هو الراوي نفسه، وكأني به يعود الى الأيام الخوالي، ليتقمّص شخصية الراوي التي عرفتها قرانا وسهراتنا ايام زمان، وليجعل من هذه الشخصية ذاكرة للزمن ايضاً، يستعين بها الراوي- الكاتب لينقل للأجيال الجديدة، ابنه في المفهوم الضيق، وأبناء كفر ياسيف، وكل ابناء شعبنا من الأجيال الناشئة في المفهوم الواسع، أصالة الماضي وأصالة الانسان، وأصالة الشعب وليس فقط الحنين الذاتي (النوستالجيا ).

ربما هي نوستالجيا فعلا، ولكنها نوستالجيا لأبناء جيلنا الذي حان الوقت ليسجلوا ذاكرتهم حفظاً من الضياع. حبيب اختار اسلوباً جيداً ليروي لنا روعة الماضي، عبر المقارنة الدائمة مع الواقع اليوم، وذلك ليعمق، ليس روعة الماضي فحسب، بل روعة الانسان الذي اجتاز المأساة الوطنية وصمد، وواجه القمع القومي بأبشع أشكاله، ولم يفقد بوصلته الانسانية.. وبدأ يبني نفسه من جديد وينطلق الى آفاق رحبة من العلوم والثقافة والتطور والصمود. في قروياته نكتشف حبيب بولس الآخر، حبيب الحالم، نصاً ولغة، فنراه يقترب من لغة القص في سرده، ليتغلب على السرد التوثيقي والتاريخي، ونراه يستطرد في إعطاء النماذج والحكايات ليجعل قروياته أكثر قرباً للرواية والدهشة الروائية وعناصر التشويق الحكائية، وليس مجرد تسجيل توثيقي للذاكرة.

و

أقول بلا وجل: هي حقاً رواية من نوع جديد بطلتها قرية بناسها وأحداثها. قد لا يوافقني بعض الزملاء على تصنيفي لقرويات حبيب بولس ضمن النصوص الروائية، قد يكونوا صادقين شكلياً، وأقول شكلياً، اذا التزمنا المفاهيم المتعارف عليها في التعريفات الأدبية. ولكن من يملك الحق في جعل التعريفات قانوناً، وهل يعترف الإبداع بقوننة جنونه؟

الأمر الأساسي، هل من قيمة للتصنيف الأدبي؟ وهل يضيف التصنيف لقيمة العمل؟ ألا يكفي الكاتب، انه أعطى القارىء نصاً لا يفارقه بعد طيّ الصفحة الأخيرة؟ حبيب في قروياته، أعطانا عملاً توفرت فيه العديد من المركبات الناجحة، اللغة اولاً، الفكرة ثانياً، والأسلوب.

كتاب "قرويات" يسد فراغاً كبيراً بمضمونه المميز، وهو ليس مجرد نوستالجيا (حنين) بل كشف عن ثراء شعبنا وأصالته وعمق جذوره في هذه الأرض الطيبة. ولعل قرويات يكون فاتحة لتسجيل التاريخ الشفهي، والتراث الشعبي المتوارث شفهياً، وسجل نضالنا الأسطوري الذي يملأ صفحات، اذا ما سجلت ستشكل ثروة اجتماعية سياسية ثقافية، عن بقايا شعب، لم يفقد ثقته بنفسه، واجه المستحيل وانتصر.. واجه الضياع وبنى ذاته من جديد، ليقف اليوم في مرتبة متقدمة بين الشعوب، فخوراً معتزّاً متفائلا..

وأخيرا : ادعو مؤسسات شعبنا الى اعادة طباعة أعمال الراحل خاصة كتابه الهام قرويات لما فيه من نقل للتجربة الحياتية الغنية والمثمرة نضالا وابداعا ادبيا .

حبيب خاطب ابنه في نص قرويات، وهو يعني ابناء كل أب وكل ام يعز عليهم  ابنائهم ومستقبلهم ووطنهم وكرامتهم.

 

 

nabiloudeh@gmail.com




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=19123
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 07 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18