• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ما أجمل الصمت فى حضرة الموت؟ .
                          • الكاتب : سليم عثمان احمد .

ما أجمل الصمت فى حضرة الموت؟

يقول زهير بن أبى سلمى:
ثلاث يعز الصبر عند حلولها....ويذهل عنها عقل كل لبيب خروج اضطرار من بلاد يحبها ....وفرقة أخوان وفقد حبيب ويقول أبن الرومي:
أصبري أيتها النفس فإن الصبر أحجي
ربما خاب رجاء وأتى ما ليس يرجى
كثيرا ما تحل بالمرء فى هذه الحياة الدنيا الفانية، البلايا والمصائب، فمنا من يصبر، ومنا من يجزع، وما أكثر من يجزعون عند فقد حبيب ،ليلة الخميس الموافق التاسع من ديسمبر عام  2010 كانت  ليلة حزينة خانقة النسمات على أسرة الأخ أبو أحمد(هيثم) وأم أحمد (صفاء) فى العاصمة القطرية الدوحة، ففى تلك الليلة  السوداء ،كان القدر يرسم أولى فصول اختطاف فلذة كبدهم، أبنهم البكر، الوسيم وضيئ الوجه ،يوسفي الجمال (نسبة إلى سيدنا يوسف)( أحمد )فى تلك الليلة وبعد صلاة العشاء، وتناول الأسرة للعشاء، استأذن الشاب أحمد والده فى الخروج مع بعض أصدقاءه، إلى منطقة شاطئ سيلين، الجميلة، ذات التلال   الرملية الذهبية الساحرة، كانوا فى تلك الرحلة أربعة من الشباب النضر(مصري هو أحمد، الطالب بالصف الثالث العلمي بمدرسة أحمد بن حنبل، الثانوية بالدوحة، وآخر قطري، وثالث فلسطيني ،ورابع سوداني، جمعهم القدر في تلك الرحلة، وما دري أحمد ولا زملاءه الآخرين، أن المنية تتربص بهم، في ساعة يجهلونها تماما ، في تلك الليلة كما كانت تجهلها أسرهم، بينما مدبر الكون الله  سبحانه وتعالى وحدة، الذي كان  يعلم بدنو أجل اثنين منهم، أحمد وزميله القطري، والآخرين انطلقوا جميعا  بسيارتهم في فرح غامر، وسعادة كبيرة ،إلى ذلك الشاطئ، الذي حصدت الطرق المؤدية إليه، أرواح شباب كثيرين من القطريين وغيرهم، أمضوا هناك شطرا من الليل في سمر برئ ويمموا وجوههم شطر الدوحة عائدين وفى الدوار الأخير بمنطقة مسييعيد ، كان القدر فى انتظارهم، حيث انخلع احد الإطارات و ارتطمت مقدمة سيارتهم، برصيف الدوار الأسمنتي العالي، ففاضت روح السائق القطري، وروح أحمد هيثم  الذي كان يجلس بجانبه، وصعدت الى بارئها فى الحال، فيما يرقد زميله  الفلسطيني  فى غرفة العناية المكثفة، بينما حال زميلهم السوداني مستقرة.
في مقام كهذا، لا يستطيع المرء إلا أن يحمد ويسترجع، امتثالا لقول الحبيب رسولنا  عليه الصلاة والسلام ،والذي ما معناه أن الله سبحانه وتعالى يسأل ملائكته بعد قبض روح عبده ماذا قال؟ وهو يعلم ما قال  فيقولون له: حمد واسترجع فيقول لهم: أبنوا لعبدي بيتا وفى حديث آخر قصرا فى الجنة،ظل الوالدان فى انتظار عودة ولدهم حتى أشرقت الأرض  بنور ربها،لكنه لم يعد وما دريا أن ابنهم قد نام نومته الأبدية في مشرحة مستشفى حمد، ورغم أن المشرحة  لا تبعد عن منزلهم سوى بضع كيلومترات، لم يخطر ببالهم أن ثلاجاتها العتيقة قد  استوعبته وزميله القطري، كانت هواتفهم النقالة هى الوحيدة التى كشفت لأهلهم ما جرى لهم فى تلك الليلة ، فى صباح الجمعة اتصلت الشرطة من جوال أحمد الذي وجدوه فى مكان الحادث ، بأحد جيرانهم فى وقت باكر من الصباح غير أنه لم يتحمل هول الصدمة، فقال لهم لا استطيع إبلاغ أسرته بالخبر، بل أعطاهم أرقام هواتف الأسرة ليتصلوا بها ، وفى حوالي الثامنة صباحا ، كان الخبر الصدمة يصك آذان الوالد المكلوم، الذي ما كان يتمنى هذه النهاية المؤسفة  لإبنه، فلذة كبده ، لكنها إرادة الله الغالبة،حيث الأجل المحتوم،هو الموت نهاية كل حي، وفى سرادق العزاء حدثني الوالد بنبرة حزينة، انه شاهد وجه ابنه قبل يومين، يدرا يتلألأ لامعا وضيئا صبوحا، وسأله ماذا تضع على وجهك يا بني ؟ فرد  الإبن ضاحكا ، لا شئ يا والدي.
وقع الخبر كالصاعقة على أذن وقلب الوالد، لكنه تمالك نفسه قليلا، وأخبر الزوجة التي فجعها الخبر الصدمة، وبخطى ثقيلة وأقدام راجفة وقلوب مرتجفة ودموع مدرارة طفرت من مآقيهم  ترجلا من درج  شقتهم صوب المستشفى، غير مصدقين ما سمعا متمنيين ألا  يكون الخبر حقيقة،وبعد لحظات انتظار أكثر ثقلا كانت الأم المسكينة تقف أمام جثمان ابنها فى مشرحة المستشفى ، كيف للأم الموجوعة والمفجوعة  أن تتحمل المشهد الصادم لقلب كل أم ؟ إنه أبنها الذي  ولد في ليلة مباركة بالمملكة العربية السعودية، فى بدايات التسعينات ،شاهدت إلام وجه ابنها انه هو ،ذات الوجه الذي شاهدته الأم نفسها جميلا نضرا، قد اختطفته يد المنون، يا للهول الوجه يوحى لها كأنه يريد أن ينام بعد طول سهر ،العينان نصف مفتوحتان ، ولا أثر لجرح أو حتى رضوض ، لم يمت أبنى ؟!هكذا أوحى لها الشيطان، للوهلة الأولى سرعان ما حمدت واسترجعت، قبل أن يخرجوها من فوقه،هذه الأم المكلومة فقدت فى السعودية، قبل سنوات عديدة ابنا آخر يدعى  محمد كان يصغر احمدا بعام، بطريقة لا تزال تدمى قلوب أفراد الأسرة حتى الآن ، ،لكن اذا أحب الله عبدا ابتلاه، فالموت حق علينا جميعا
وكل ابن أنثى وان طالت سلامته   يوما على اله حدباء محمول
دقات قلب المرء قائله له إن الحياة دقائق وثواني من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد دفن الوالد ولده بيديه الكريمتين فى مقبرة أبى هامور، بجانب صديقه الاخر وصلى عليه خلق كثير، وتوافد إلى سرادق العزاء كثير من الناس، خاصة من زملاءه الطلاب من القطريين والعرب المقيمين،ورأيت الأسى والحزن باديان على محيا كل واحد منهم كيف لا؟ فهو الذي أسموه بالشهم بل أبو الشهامة  والطيب،كانت له شعبية جارفة وسط زملائه .وقد تأكدت من ذلك بنفسي من العدد الكبير الذى قدم لتقديم العزاء بل أنشأ هولاء الزملاء بابا فى الفيس بوك لذكر محاسنة، وقد أمرنا رسولنا الكريم بذكر محاسن موتانا .
 كنت اجلس بجانب الوالد المكلوم،فوجدته  صابرا محتسبا، رغم مرارة الفقد وهول البلاء، وفداحة المصيبة،كان حامدا مسترجعا ، لا يقول الا ما يرضى ربنا ،والمعزون يتوافدون زرافات ووحدانا وجهاز تسجيل بالقرب من المعزين، يتلو آيات بينات من كتاب الله العزيز تذكر بالموت، وتدعو إلى الصبر، وتبشر الصابرين ،نعم تتأجج المشاعر عند  المرء لسببين عند الفرحة الغامرة، والمصيبة الداهمة، وهل هناك مصيبة داهمة أكثر من فقد الولد؟ بالطبع لا. ولذلك قال رسولنا الكريم إنما الصبر عند الصدمة الأولى ،ولا ينبغى للمرء المسلم أن يتسخط من قضاء الله وقدره، بل عليه أن يتجرع الصبر تجرعا ، رغم أن  طعمه مر فى حالات فقد الأحبة، وهل هناك حبيب الى نفس الوالد والوالدة من الابن او الابنة ؟ففى المصيبة كفارة لذنوب المرء المسلم، والأجر والمثوبة ،فإذا علم المؤمن أن هذه ثمار المصيبة، انس وارتاح، ولم ينزعج ويقنط (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )(وما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله) ومن يؤمن بالله يهد قلبه)(وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وانأ إليه راجعون ) ولابد ان نعلم جميعا أننا مفارقون لهذه الفانية،(كل شئ هالك إلا وجهه)(كل من عليها فان)(انك ميت وإنهم ميتون).
وسر الموت لا يعرفه إلا لله، فهو الذي حدد آجالنا وأرزاقنا،سعداء أم أشقياء، في الدنيا والموت مصير ونهاية  كل حي، ولا يستطيع كائن من كان أن يفر منه  (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) والإنسان لا يعرف متى وكيف وأين يموت. فالمكان والزمان والسبب، في علم الله وحده(وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي ارض تموت )(فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
وحقا كفى بالموت واعظا،فهو لا يترك رجلا أو امرأة، شابا أو صبية، طفلا أو كهلا ابيضا أو اسودا ، قويا أو ضعيفا، سقيما أو سليما، بعيدا أو قريبا،مؤمنا أو كافرا،أنسانا أو حيوانا أو نباتا ،الكل سيفارق هذه الحياة التي شبهت بالقنطرة،التي نعبرها وبالشجرة التي يستظل بظلها المرء سرعان ما يبارحها، وصدق من قال :كل شئ بقضاء وقدر والمنايا عبر أي عبر.
وعلى المرء أن يتذكر دائما انه يحمل الموت، وانه يسعى إليه ،وانه ينتظر الموت صباحا ومساء، فى حال الصحة، أكثر من وقت العافية ،وما أحسن قول سيدنا على بن أبى طالب كرم الله وجهه، فى الموت (ان الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وان الدنيا قد ارتحلت مدبرة، فكونوا من أبناء الآخرة،ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فان اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب بلا عمل. ).
فالموت لا يستأذن أحدا من الناس ولا يحابي أحدا ولا يجامل وليس له إنذار مبكر يخبر به الناس فقد يأتي بغتة .
قيل للشافعي رحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت تطلبني ثمانية: الله تعالى بالفرض، ورسوله عليه الصلاة والسلام  بالسنة، والدهر بصروفه، والعيال بقوتهم، والحفظة بما ينطق لساني، والشيطان بالمعاصي، والنفس بالشهوات، وملك الموت بقبض روحي!!.
وقال بعض الناس: دخلنا على عطاء السلمي، نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: كيف حالك؟  فقال: الموت في عنقي، والقبر في يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يفعل بي، ثم بكى بكاء شديدا، حتى أغشى عليه، فلما أفاق قال: اللهم ارحمني وارحم وحشتي في القبر، ومصرعي عند الموت، وارحم مقامي بين يديك يا أرحم الراحمين.و عن شقيق البلخي رحمه الله أنه قال: كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يمشي في أسواق البصرة، فاجتمع الناس إليه فقالوا:يا أبا إسحاق إنَّ الله تعالى قال في كتابه (ادعوني استجب لكم) ونحن منذ دهر ندعوه فلا يستجيب لنا؟ قال: يا أهل البصرة ماتت قلوبكم، من عشرة أشياء، فكيف يستجاب دعاؤكم؟!
الأول : عرفتم الله تعالى، ولم تؤدوا حقه.
والثاني : قرأتم القرآن، ولم تعملوا به.
والثالث: ادعيتم حب رسول الله، وتركتم سنته.
والرابع: ادعيتم عداوة الشيطان، وأطعتموه.
والخامس: ادعيتم دخول الجنة، ولم تعملوا لها.
والسادس: ادعيتم النجاة من النار، ورميتم فيها أنفسكم.
والسابع: قلتم إنَّ الموت حق، ولم تستعدوا له.
والثامن: اشتغلتم بعيوب إخوانكم، فلا ترون عيوب أنفسكم.
والتاسع : أكلتم نعمة ربكم، ولم تشكروا له.
والعاشر: دفنتم موتاكم، ولم تعتبروا بهم
أوصى بعض الحكماء ولده، فقال: يا بُني، كن كريم القُدرة إذا قدرت، شريف الهمّة إذا ظفرت، صبوراً إذا امتُحنت، لا تردنَّ حوض لئيم لظمأك، ولا تأتينَّ دنية لضيق حالك، واستجلب النِّعم بالشُكر، واستدفع البلاء بالصبر.
  قال بعض الصالحين: إني لأُصاب بالمصيبة فأشكر الله تعالى عليها أربع مرات: شكراً إذ لم تكن أعظم مما هي، وشكراً إذ رزقني الصبر عليها، وشكراً لما أرجوه من زوالها، وشكراً إذ لم تكن في ديني.
وهاهو الإمام الشافعي يتحدث عن صروف الدهر قائلا:
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفسا إذا حكم القضاء ولا تجزع لنازلة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء ومن أقوال الصالحين في الصبر :
 الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم وابن القيم فى مدارج السالكين يقول عن الصبر انه حبس النفس عن الجزع والتسخط ،وحبس اللسان عن الشكوى، والجوارح عن المعصية.
وختاما فلنعتبر جميعا بالموت، ونعمل لما بعده، ونسأل الله رب العرش الكريم أن يتغمد أحمدا ورفيقه بواسع رحمته، ويسكنهما  الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأن يلهم والديهم  والأهل جميعا  الصبر وحسن العزاء وان لا يريهم مكروها فى عزيز لديهم، وان يكتب الشفاء العاجل لرفيقي المتوفيين وان يحفظ ابناء المسلمين جميعا، من كل سوء ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وانأ لله وانأ إليه راجعون .
بقلم : سليم عثمان
كاتب وصحافي سوداني مقيم فى الدوحة
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=1837
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 12 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28