• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الإبصار و البصائر في القرآن الكريم (ح 6) .
                          • الكاتب : د . فاضل حسن شريف .

الإبصار و البصائر في القرآن الكريم (ح 6)

تكملة للحلقات السابقة قال الله سبحانه عن الابصار في آيات قرآنية "أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ" ﴿محمد 23﴾ وَأَعمَى أَبْصَارَهُم: فلا يرون الهدى، ولئك الذين أبعدهم الله من رحمته، فجعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ولا يبصرونه، فلم يتبينوا حجج الله مع كثرتها، و "خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ" ﴿القمر 7﴾ خشّعا أبصارُهمْ: ذليلة خاضِعة من شدة الهوْل، ذليلة أبصارهم يخرجون من القبور كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم للحساب جرادٌ منتشر في الآفاق، مسرعين إلى ما دُعُوا إليه، يقول الكافرون: هذا يوم عسر شديد الهول، و "بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ" ﴿الحشر 2﴾ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ: اتعظوا يا أصحاب العقول، هو سبحانه الذي أخرج الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من أهل الكتاب، وهم يهود بني النضير، من مساكنهم التي جاوروا بها المسلمين حول المدينة، وذلك أول إخراج لهم من جزيرة العرب إلى الشام، ما ظننتم أيها المسلمون أن يخرجوا من ديارهم بهذا الذل والهوان؛ لشدة بأسهم وقوة منعتهم، وظن اليهود أن حصونهم تدفع عنهم بأس الله ولا يقدر عليها أحد، فأتاهم الله من حيث لم يخطر لهم ببال، وألقى في قلوبهم الخوف والفزع الشديد، يُخْربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاتعظوا يا أصحاب البصائر السليمة والعقول الراجحة بما جرى لهم، و "قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ" ﴿الملك 23﴾ والأبصار: الواو حرف عطف، ال أداة تعريف، أبصار اسم، قل لهم أيها الرسول: الله هو الذي أوجدكم من العدم، وجعل لكم السمع لتسمعوا به، والأبصار لتبصروا بها، والقلوب لتعقلوا بها، قليلا أيها الكافرون ما تؤدون شكر هذه النعم لربكم الذي أنعم بها عليكم، قل لهم: الله هو الذي خلقكم ونشركم في الأرض، وإليه وحده تُجمعون بعد هذا التفرق للحساب والجزاء، و "خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ" ﴿القلم 43﴾ خاشعة أبْصارهم: ذليلة مُنكسِرَة، منكسرة أبصارهم لا يرفعونها، تغشاهم ذلة شديدة مِن عذاب الله، وقد كانوا في الدنيا يُدْعَون إلى الصلاة لله وعبادته، وهم أصحَّاء قادرون عليها فلا يسجدون، تعظُّمًا واستكبارًا، و "وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ" ﴿القلم 51﴾، و "خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۚ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ" ﴿المعارج 44﴾ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُم: ذليلة منكسرة، فاتركهم يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم حتى يلاقوا يوم القيامة الذي يوعدون فيه بالعذاب، يوم يخرجون من القبور مسرعين، كما كانوا في الدنيا يذهبون إلى آلهتهم التي اختلقوها للعبادة مِن دون الله، يهرولون ويسرعون، ذليلة أبصارهم منكسرة إلى الأرض، تغشاهم الحقارة والمهانة، ذلك هو اليوم الذي وعدوا به في الدنيا، وكانوا به يهزؤون ويُكَذِّبون، و "أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ" ﴿النازعات 9﴾ أبصارها خاشعة: ذليلة مُنكسِرة من الفزَع، أبصارها خاشعة: ذليلة لهول ما ترى، قلوب الكفار يومئذ مضطربة من شدة الخوف، أبصار أصحابها ذليلة من هول ما ترى.
جاء في الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي عن بصائر موسى عليه السلام: قوله تعالى "وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً" (الاسراء 101) الذي أوتي موسى عليه‌السلام من الآيات على ما يقصه القرآن أكثر من تسع غير أن الآيات التي أتى بها لدعوة فرعون فيما يذكره القرآن تسع وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفدع والدم والسنون ونقص من الثمرات فالظاهر أنها هي المرادة بالآيات التسع المذكورة في الآية وخاصة مع ما فيها من محكي قول موسى لفرعون "لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ" (الاسراء 102) وأما غير هذه الآيات كالبحر والحجر وإحياء المقتول بالبقرة وإحياء من أخذته الصاعقة من قومه ونتق الجبل فوقهم وغير ذلك فهي خارجة عن هذه التسع المذكورة في الآية. قوله تعالى "قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً" (الاسراء 102) المثبور الهالك وهو من الثبور بمعنى الهلاك، والمعنى قال موسى مخاطبا لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السموات والأرض أنزلها بصائر يتبصر بها لتمييز الحق من الباطل وإني لأظنك يا فرعون هالكا بالآخرة لعنادك وجحودك. وإنما أخذ الظن دون اليقين لأن الحكم لله وليوافق ما في كلام فرعون "إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى" (الاسراء 101) إلخ ومن الظن ما يستعمل في مورد اليقين. وقيل: المراد بالبصيرة الحجة كما في قوله تعالى "ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ" (الاسراء 102) والإنسان نفسه حجة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه وبصره وفؤاده ويشهد عليه سمعه وبصره وجلده ويتكلم يداه ورجلاه، قال تعالى"إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً" (الاسراء 36) ، وقال "شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ " (السجدة 20). وقال "وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ" (يس 65). قوله تعالى "وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ" (القصص 43) اللام للقسم أي أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة بوحيه إليه. وقوله :"مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى" (القصص 43) أي الأجيال السابقة على نزول التوراة كقوم نوح ومن بعدهم من الأمم الهالكة ولعل منهم قوم فرعون، وفي هذا التقييد إشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لاندراس معالم الدين الإلهي بمضي الماضين وليشار في الكتاب الإلهي إلى قصصهم وحلول العذاب الإلهي بهم بسبب تكذيبهم لآيات الله ليعتبر به المعتبرون ويتذكر به المتذكرون. وقوله: "بَصائِرَ لِلنَّاسِ" (القصص 43) جمع بصيرة بمعنى ما يبصره به وكان المراد بها الحجج البينة التي يبصر بها الحق ويميز بها بينه وبين الباطل، وهي حال من الكتاب وقيل: مفعول له.
جاء في الامثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‌" (الجاثية 20). البصائر جمع بصيرة، و هي النظر، و مع أنّ هذه اللفظة أكثر ما تستعمل في و جهات النظر الفكرية و النظريات العقلية، إلّا أنّها تطلق على كلّ الأمور التي هي أساس فهم المعاني و إدراكها. و الطريف أنّها تقول: إنّ هذا القرآن و الشريعة بصائر، أي عين البصيرة، ثمّ أنّها ليست، بصيرة، بل بصائر، و لا تقتصر على بعد واحد، بل تعطي الإنسان الأفكار و النظريات الصحيحة في كافة مجالات حياته. و قد ورد نظير هذا التعبير في آيات أخرى من القرآن الكريم، كالآية (104) من سورة الأنعام، حيث تقول: "قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ‌". و قد طرحت هنا في هذه الآية ثلاثة مواضيع: البصائر و الهدى و الرحمة، و هي حسب التسلسل علة و معلول لبعضها البعض، فإنّ الآيات الواضحة و الشريعة المبصّرة تدفع الإنسان نحو الهداية بدورها أساس رحمة اللّه. و الجميل في الأمر أنّ الآية تذكر أنّ البصائر لعامة الناس، أمّا الهدى و الرحمة فخصت الموقنين بهما، و يجب أن يكون الأمر كذلك، لأنّ آيات القرآن ليست مقصورة على قوم بالخصوص، بل يشترك فيها كلّ البشر الذين دخلوا في كلمة الناس في كلّ زمان و مكان، غير أنّ من الطبيعي أن يكون الهدى فرع اليقين، و أن تكون الرحمة وليدته، فلا تشمل الجميع حينئذ. و على أية حال، فإنّ ما تقوله الآية من أنّ القرآن عين البصيرة، و عين الهداية و الرحمة، تعبير جميل يعبر عن عظمة هذا الكتاب السماوي و تأثيره و عمقه بالنسبة لأولئك السالكين طريقه، و الباحثين عن الحقيقة. إنّ الآية الأخيرة من هذه الآيات توضيح و تعليل آخر لعدم المساواة بين الكافرين و المؤمنين، إذ تقول: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‌ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‌ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‌ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ‌" (الجاثية 23) و هنا سؤال يطرح نفسه، و هو: كيف يمكن أن يتخذ الإنسان إلهه هواه؟ غير أنّ من الواضح الجلي أنّ الإنسان عند ما يضرب صفحا عن أوامر اللّه سبحانه، و يتبع ما تمليه عليه شهواته، و يقدم طاعتها على طاعة اللّه سبحانه و يعتبر ذلك حقّا، فقد عبد هواه، و هذا عين معنى العبادة، إذ أنّ أحد المعاني المعروفة للعبادة هو الطاعة. و قد ورد في القرآن الكريم الكثير ممّا يبيّن هذا المعنى كعبادة الشيطان أو عبادة أحبار اليهود، فيقول القرآن مثلا في الآية (60) من سورة يس: "أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ"‌. و يقول في الآية (31) من سورة التوبة: "اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّه"ِ‌ و جاء في حديث عن الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام أنهما قالا: (أما و اللّه ما صاموا لهم، و لا صلوا، و لكنّهم أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا، فاتبعوهم، و عبدوهم من حيث لا يشعرون).
جاء في الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي عن بصائر الناس وعلاقتها باليقين: قوله تعالى "هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (الجاثية 20) الإشارة بهذا إلى الأمر المذكور الذي هو الشريعة أو إلى القرآن بما يشتمل على الشريعة، والبصائر جمع بصيرة وهي الإدراك المصيب للواقع، والمراد بها ما يبصر به، وإنما كانت الشريعة بصائر لأنها تتضمن أحكاما وقوانين كل منها يهدي إلى واجب العمل في سبيل السعادة. والمعنى: هذه الشريعة المشرعة أو القرآن المشتمل عليها وظائف عملية يتبصر بكل منها الناس ويهتدون إلى السبيل الحق وهو سبيل الله وسبيل السعادة ، فقوله بعد ذكر تشريع الشريعة : "هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ" (الجاثية 20) كقوله بعد ذكر آيات الوحدانية في أول السورة "هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا" (الجاثية 11) إلخ. وقوله "وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (الجاثية 20) أي دلالة واضحة وإفاضة خير لهم ، والمراد بقوم يوقنون: الذين يوقنون بآيات الله الدالة على أصول المعارف فإن المعهود في القرآن تعلق الإيقان بالأصول الاعتقادية. وتخصيص الهدى والرحمة بقوم يوقنون مع التصريح بكونه بصائر للناس لا يخلو من تأييد لكون المراد بالهدى الوصول إلى المطلوب دون مجرد التبصر، وبالرحمة الرحمة الخاصة بمن اتقى وآمن برسوله بعد الإيمان بالله ، قال تعالى "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ" (الحديد 28)، وقال "ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" (البقرة 2) إلى أن قال "وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" (البقرة 4)، وللرحمة درجات كثيرة تختلف سعة وضيقا ثم للرحمة الخاصة بأهل الإيمان أيضا مراتب مختلفة باختلاف مراتب الإيمان فلكل مرتبة من مراتبه ما يناسبها منها.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=176241
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 12 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29