• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الإبصار و البصائر في القرآن الكريم (ح 2) .
                          • الكاتب : د . فاضل حسن شريف .

الإبصار و البصائر في القرآن الكريم (ح 2)

تكملة للحلقة السابقة قال الله جل جلاله عن الابصار في آيات قرآنية "قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ" ﴿يونس 31﴾ والابصار: الواو حرف عطف، ال أداة تعريف، أبصار اسم، قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: مَن يرزقكم من السماء، بما يُنزله من المطر، ومن الأرض بما ينبته فيها من أنواع النبات والشجر تأكلون منه أنتم وأنعامكم؟ ومَن يملك ما تتمتعون به أنتم وغيركم من حواسِّ السمع والأبصار؟ و "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ" ﴿ابراهيم 42﴾ تَشْخَصُ فيهِ الأبْصارُ: تنفتح فلا تغمض دهشة من الهول، ولا تحسبن أيها الرسول أن الله غافل عما يعمله الظالمون: من التكذيب بك وبغيرك من الرسل، وإيذاء المؤمنين وغير ذلك من المعاصي، إنما يؤخِّرُ عقابهم ليوم شديد ترتفع فيه عيونهم ولا تَغْمَض مِن هول ما تراه، وفي هذا تسلية لرسول الله محمد صلى الله عليه و آله وسلم، و "لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ" ﴿الحجر 15﴾ ولو فتحنا على كفار مكة بابًا من السماء فاستمروا صاعدين فيه حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب ملكوت الله، لما صدَّقوا، ولقالوا: سُحِرَتْ أبصارنا، حتى رأينا ما لم نرَ، وما نحن إلا مسحورون في عقولنا من محمد، و "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" ﴿النحل 78﴾ والله سبحانه وتعالى أخرجكم مِن بطون أمهاتكم بعد مدة الحمل، لا تدركون شيئًا مما حولكم، وجعل لكم وسائل الإدراك من السمع والبصر والقلوب لعلكم تشكرون لله تعالى على تلك النعم، وتفردونه عز وجل بالعبادة، و "أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" ﴿النحل 108﴾ أولئك هم الذين ختم الله على قلوبهم بالكفر وإيثار الدنيا على الآخرة، فلا يصل إليها نور الهداية، وأصم سمعهم عن آيات الله فلا يسمعونها سماع تدبُّر، وأعمى أبصارهم، فلا يرون البراهين الدالة على ألوهية الله، وأولئك هم الغافلون عمَّا أعدَّ الله لهم من العذاب.
جاء في الامثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: يقول تعالى: "فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي‌ الْأَبْصارِ" (الحشر 2) "اعْتَبِرُوا" من مادّة اعتبار و في الأصل مأخوذة من العبور، أي العبور من شي‌ء إلى شي‌ء آخر، و يقال لدمع العين عبرة بسبب عبور قطرات الدموع من العين، و كذلك يقال عبارة لهذا السبب، حيث أنّها تنقل المطالب و المفاهيم من شخص إلى آخر، و إطلاق تعبير المنام على تفسير محتواه، بسبب أنّه ينقل الإنسان من ظاهره إلى باطنه. و بهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس و عظات عبر لأنّها توضّح للإنسان سلسلة من التعاليم الكلية و تنقله من موضوع إلى آخر. و التعبير ب "أُولِي‌ الْأَبْصارِ" (الحشر 2) إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الحوادث بعين واقعية و يتوغلون إلى أعماقها. كلمة بصر تقال دائما للعين الباصرة، و البصيرة تقال للإدراك و الوعي الداخلي‌. و في الحقيقة أنّ "أُولِي‌ الْأَبْصارِ" (الحشر 2) هم أشخاص لهم القابلية على الاستفادة من العبر، لذلك فإنّ القرآن الكريم يلفت نظرتهم للاستفادة من هذه الحادثة و الاتّعاظ بها. و ممّا لا شكّ فيه أنّ المقصود من الإعتبار هو مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل، كمقارنة حال الكفّار مع حال ناقضي العهد من يهود بني النضير، إلّا أنّ هذه الجملة لا ترتبط أبدا ب القياسات الظنّية التي يستفيد منها البعض في استنباط الأحكام الدينيّة. ورد عن الإمام الصادق حيث يقول: (كان أكثر عبادة أبي ذرّ رحمه اللّه التفكّر و الإعتبار). و مع الأسف فإنّ كثير من الناس يفضّلون تجربة الشدائد و المحن و المصائب بأنفسهم و يذوقوا مرارة الخسائر شخصيّا، و لا يعتبرون و لا يتّعظون بوضع الآخرين و ما يواجهونه في أمثال هذه الموارد، و يقول الإمام علي عليه السّلام‌ (السعيد من وعظ بغيره).
ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال لأبي بصير (يا أبا محمّد، لقد ذكركم اللّه إذ حكى عن عدوّكم في النار بقوله: "وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى‌ رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ * أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ" (ص 63-64). و اللّه ما عنى و لا أراد بهذا غيركم، صرتم عند أهل هذا العالم شرار الناس، و أنتم و اللّه في الجنّة تحبرون و في النار تطلبون). عن الامام الصادق عليه السلام (وانك مضيت على بصيرة من امرك مقتديا بالصالحين، متبعا للنبيين). البصيرة باللغة لها معاني كثيرة، ومن معانيها الفطنة واليقين والحجة وغيرها. ولكن اصطلاحا تعني البصيرة رؤية حقيقة الشئ بعين القلب. فالقلب له عين كما الجسم له عين "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (الحج 46). اذا عميت عين الجسم لا يستطيع الانسان معرفة طريق السير. اما اذا عميت عين القلب فلا يستطيع معرفة الطريق الى الله او الى الجنة "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى" (النجم 11). ولو اجتمعت الانس والجن ان يغيروا تغيير حقيقة شئ لن يستطيعوا "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا" (ال عمران 173). واصحاب الحسين عليه السلام قلوبهم مفتحة "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ" (الانعام 103). الوعي المعرفي هو الأساس في التعامل مع المتغيرات التي تؤسس لقضية ما، من هنا فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قوله في ولده العباس (ان العباس بن علي زق العلم زقاً). وهذه الشهادة التي شهد أمير المؤمنين لولده العباس تعطي انطباعاً مهماً عن شخصيته العلمية، فضلاً عن تفقهه وبصيرته.
جاء في الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي: وقوله "يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصار" (النور 37) هذا هو يوم القيامة، والمراد بالقلوب والأبصار ما يعم قلوب المؤمنين والكافرين وأبصارهم لكون القلوب والأبصار جمعا محلى باللام وهو يفيد العموم. وأما تقلب القلوب والأبصار فالآيات الواصفة لشأن يوم القيامة تدل على أنه بظهور حقيقة الأمر وانكشاف الغطاء كما قال تعالى "فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" (ق 22)، وقال "وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" (الزمر 47)، إلى غير ذلك من الآيات. فتنصرف القلوب والأبصار يومئذ عن المشاهدة والرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله الساترة للحق والحقيقة إلى سنخ آخر من المشاهدة والرؤية وهو الرؤية بنور الإيمان والمعرفة فيتبصر المؤمن بنور ربه وهو نور الإيمان والمعرفة فينظر إلى كرامة الله، ويعمى الكافر ولا يجد إلا ما يسوؤه قال تعالى "وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها" (الزمر 69) وقال "يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ" (الحديد 12)، وقال "وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى" (الاسراء 72)، وقال "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ" (القيامة 23) وقال "كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ " (المصففين 15). وقد تبين بما مر: أولا: وجه اختصاص هذه الصفة أعني تقلب القلوب والأبصار من بين أوصاف يوم القيامة بالذكر وذلك أن الكلام مسوق لبيان ما يتوسل به إلى هدايته تعالى إلى نوره وهو نور الإيمان والمعرفة الذي يستضاء به يوم القيامة ويبصر به. وثانيا: أن المراد بالقلوب والأبصار النفوس وبصائرها. وثالثا: أن توصيف اليوم بقوله "تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ" (النور 37) لبيان سبب الخوف فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلب القلوب والأبصار، وإنما يخافون هذا التقلب لما في أحد شقيه من الحرمان من نور الله والنظر إلى كرامته وهو الشقاء الدائم والعذاب الخالد وفي الحقيقة يخافون أنفسهم.
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في مناجاته (الهي هب لي كمال الانقطاع أليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة). ويقول عليه السلام: ليست الرؤية مع الأبصار فقد تكذب العيون أهلها، ولا يغش العقل من استنصحه، فقد البصر أهون من فقدان البصيرة. البصيرة وجمعها بصائر قد تغير مسرى الشخص من النار الى الجنة كما حصل للحر الرياحي عندما حولته بصيرته من جيش الفاسد الطاغية يزيد الى جيش امام المسلمين المصلح الامام الحسين عليه السلام. ورد ان ابا جهل كان فاقد البصيرة حيث قال الله تعالى "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور" (الحج 46) لانه كان يدعي على الله تعالى دعوات باطلة "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (الانفال 32).




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=176100
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 12 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29