• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : إلى ذكرى صموئيل بيكيت .
                          • الكاتب : د . أفنان القاسم .

إلى ذكرى صموئيل بيكيت

وصول غودو
L’ARRIVEE DE GODOT
 
 
رواية
 
إلى ذكرى صموئيل بيكيت
 
القسم الأول
 
في محطة الشمال، لم يكن هناك مكان لقدم واحدة كالعادة، القطارات تصل أو تقلع، والركاب ينزلون أو يصعدون، وهم دائمًا بمنتهى العجل، وهم دائمًا يسحبون حقائبهم أو يحملونها، وهم دائمًا لا ينظرون إلى بعضهم، ويبحثون عمن ينتظرهم. كنت الوحيد من بينهم الذي ينظر إلى الجميع، دون حقيبة أحملها أو أسحبها، ودون أن يكون أحد بانتظاري. ابتسمت على مرأى امرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، ولا تعرف كيف تتدبر أمرها في نقلها. بدا عليها كمن تنتظر عونًا يسقط عليها من السماء، لكني لم أقدم لها أقل عون، لا أنا، ولا عازف الغيتار الجالس هناك، ولا أحد من الواصلين، وواصلت التبسم، وأنا أنظر إليها. ابتسمت المرأة على وضعها، لا مجال للتراجع، قالت لنفسها دون أن تدري كيف. تركتها من ورائي، وهي حائرة في أمرها، ووجدتني أسير إلى جانب أم تحمل بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين شبه غائبة عن الوعي، بسبب عدم تحملها السفر في القطار. فجأة، أخذت الأم تهرول صوب مقهى من مقاهي المحطة لأجل قطعة سكر تعيد إلى الصغيرة حيويتها. على الرغم من قلق المرأة على ابنتها داومت على الابتسام، فلنقل، والحال هذه، داومت على الابتسام بصفاقة، خاصة وأن في جيبي قطعة سكر مغلفة بورقها لم أذبها في قهوتي التي احتسيتها في مطعم القطار، أخرجتها دون أن تنقطع ابتسامتي، لكن رجلاً وامرأةً شديدي التجهم شدا انتباهي، وجعلاني أسير من ورائهما. كان كل منهما يسحب حقيبتين، ومن وقت إلى آخر يلقي على رفيقه نظرة قرأت فيها آياتٍ مدنسةً من الأسى والعذاب، نظرة عاجزة تزيد منها رقة القسمات الغالبة على محياهما عجزًا. تجاوزتهما، وأدرت رأسي إليهما، وأنا أبتسم. وإذا بالمرأة تفلت حقيبتيها من يديها، وتأخذ بعناق الرجل عناقًا ملتهبًا، وهي تنفجر باكية، بينما الرجل يحاول تدارك البكاء، دون أن يفوه بكلمة. كان الناس ينظرون إليهما، دون أن تبدو عليهم أمارات الاستغراب أو مشاعر التأثر، كانوا ينظرون إلى الرجل والمرأة، وإلى بعضهم البعض، كانوا فقط ينظرون، كان بعضهم ينظر، وهو يتابع طريقه، وبعضهم كما لو كان ينظر إلى مشهد لا يستحق النظر إليه، أو كانوا لا ينظرون بتاتًا كشابين، أسود وأبيض، كانا يجلسان بين يدي ملوك الشطرنج هناك غير بعيد. بعد ذلك، سحبت المرأة حقيبتيها بيأس لا يصدق، وعادت من حيث جاءت، باتجاه القطار، بينما مجموعة صاخبة من الشبان والشابات الحاملة على ظهرها أو الساحبة بيدها حقائبها تعترض الرجل، وتمنعه من اللحاق بالمرأة، والرجل كل تعاسات الدنيا تزحف من وجهه لتغطي كل كيانه. جرفته مجموعة الشبان والشابات في الاتجاه المضاد، وهو، بعد أن التفت بحثًا عن المرأة عدة مرات، ومد يده في الاتجاه الذي ذهبت منه عدة مرات، استسلم للموج، وترك نفسه طوع إرادة أخرى. لم يكن هذا حال الكل من القادمين، كانت الراهبة التي تتقدم، وهي حبلى، شيئًا آخر، شيئًا من إرادة نفسها، الإرادة عندما تغدو القدرة على كل شيء، حتى على أقصى الأشياء، وفي وضع الراهبة أغربها، أجنّها، أكثرها لامعقولية، تحقيق ما لا يتحقق، ما لا يخطر ببال، ليس للتحدي أو الوِساطة في شئون البغاء، ولكن لأني أريد هذا، يكفي أن أريد هذا، وأن أتجاوز الذات، ليس بدافع أية بطولة، ولا لأني أرمي إلى تحدي نظام الأشياء، بل لأني أريد هذا، وبكل بساطة، لا حاجة بي إلى إفهام الآخرين، لأني أريد هذا، وليس عليّ أن أقدم أي تبرير. 
وعلى العكس، كانت إحدى نجيمات السينما تبحث عن تبرير لكل شيء، تسريحتها، ماكياجها، مشيتها، فستانها، زنارها، حذاؤها، حقيبتها، كل شيء، كل شيء، للناس، للكاميرا، للمجد، للوهم، كان الوهم جميلاً، كان الوهم أجمل منها، ومن موهبتها، لهذا كانت تبحث عن تبرير لكل شيء، ولم تكن تنجح في كل شيء، الأضواء عالمها، ولم تكن الأضواء لتهتم بها، ربما اليوم، الأضواء لا تهتم بها، أما غدًا، الأضواء ستهتم بها. احتارت، وهي ترى من بعيد مجموعة من الصحفيين والمصورين تنقض عليها، فظنت أن اليومَ غدٌ، ونسيت فشلها الذريع في دورها الأخير، في الفيلم الذي أصرت على عدم تذكر اسمه، والمنتج الذي أصرت على عدم النوم معه، والأستوديو الذي أصرت على عدم وضع القدم فيه، الكاميرات أخذت فلاشاتها تعميها، كاميرات، وفلاشات، وصحفيون، وصحفيات، وقنوات، وأيضًا كاميرات، وأيضًا فلاشات، وأيضًا صحفيون وصحفيات وقنوات، ولم تكتشف إلا بعد أن وجدت نفسها وحيدة على الرصيف أن كل هذا لم يكن لها، كل هذا كان لثلاثة كلاب تشي تسو، تحيط برقابها قلادات الماس، بينما يسحبها ثلاثة حراس سود بكامل أناقتهم.
تعال هناك، يا حبيبي. لم أعرف إذا ما كان هذا الصبي السمين، السمين جدًا، السمين جدًا جدًا، المرافق لأمه، من القادمين أم المغادرين. تعال هناك. هناك. أجلسته أمه على مقعد، ولفت صدره بمنديل. فتحت الحقيبة، كانت ملأى بالساندويتشات. خذ، كُلْ، يا حبيبي، قالت الأم. أنا جائع، يا ماما، قال الصبي. كُلْ، كُلُّ هذا لك، يا حبيبي، قالت الأم. لماذا نجوع، يا ماما؟ سأل الصبي. لنأكل، يا حبيبي، أجابت الأم. لنأكل، يا ماما؟ لنأكل. لنأكل حتى نشبع، يا ماما؟ حتى نشبع. لنأكل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل كل كل هذا، كل هذا، لنأكل كل هذا، كُلْ، يا حبيبي، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ...
حقًا لم يكن أحد بانتظاري، بينما كان المنتظرون لغيري كثيرين. صديق أو قريب أو وكيل لأحد الفنادق أو... كانوا يتعانقون بحرارة، الرجل والمرأة أو المرأة والمرأة أو الرجل والرجل، ولم يكن يبدو عليهم أنهم افترقوا. كانوا يتعاونون على نقل حقائبهم بشكل أقرب إلى المرح، ويشيرون بفرح إلى درج المترو أو إلى باب الخروج. وللمرة الثانية، على رصيف آخر، كانت الراهبة الحبلى تتقدم من بعيد، واثقة، حارقة، ساحقة، كانت تتقدم، وهي لا تنظر إلى أحد، على عكسي، عندما اكتشفتُ راهبة أخرى بين المنتظرين، حبلى هي أيضًا، تلوح بيدها، وهي تنط، وتتقرقر من الضحك، وهي تنط، وتقول "هيه!" كي تراها القادمة، ورأتها القادمة، لكنها ظلت تتقدم واثقة، حارقة، ساحقة، كانت تسير برزانة دير أرمنيّ، وجمال كنيسة غوطية. رفع وكيل أحد الفنادق لوحته المكتوب عليها اسم النزيل المجهول في وجهي، وهو يبتسم كالأبله سائلاً إذا ما كنت هذا النزيل، وأمام ابتسامة الساخر المرسومة على ثغري تركني إلى قادمٍ ثانٍ ثم إلى قادمٍ ثالثٍ، وهكذا دواليك، دون أن يتوقف عن الابتسام كالأبله، بلاهة؟ بل لنقل علة ذاتية، بينما كان وكلاء آخرون يكتفون برفع اللوحة في وجوه القادمين ليأتي بعضهم معرفًا بنفسه دون أقل تعقيد. وقفت أراقب وكيل الفندق ذاك، وقد غلبت على صوته نعومة الخاضع لمهنته ولمبولته وللعالم، ينادي، وينادي، وينادي، وهو لا يتوقف عن الابتسام كالأبله إلى أن وجد نفسه وحيدًا بعد مغادرة كل القادمين. أخذ يلوح بلوحته كطفل، ورأيته، وهو يخلل بأصابعه شعره، فيكبر قليلاً، ويبدو ودودًا على الرغم من بلاهته. عندما لاحظ أنني أنظر إليه جاءني، وعاد بابتسامته البلهاء يسألني إذا ما كنت السيد المنتظر، فكانت ابتسامتي الساخرة المرسومة على ثغري جوابي دومًا. حياني، وهو يدمدم خالص شكره، وابتسامته البلهاء تسيل من فمه إلى ذقنه، فصدره، فبطنه، فالكون، وخف ذاهبًا، وهو يلقي نظرة مترددة أخيرة على الرصيف الفارغ. هكذا كان الرصيف: فارغًا. منذ قليل كان يفعم بالحياة، والآن غدا فارغًا. الرصيف الخالي. في لحظة من اللحظات، كل شيء يخلو مما هو فيه، ويبدو للعين فارغًا كحبة برتقال لا شيء فيها. الفراغ من جهة ، ومن الجهة الأخرى الامتلاء، الإطلال على الآخر بالأذى، مما جعلني أفطن إلى شخص كان هناك ببذلته السوداء المخططة الأنيقة وقبعته السوداء اللماعة الحريرية. كان هناك بانتظار شخص آخر لم يصل، ربما ألغى رحلته، أو أنه فوت قطاره، أو أنه تعمد عدم أخذه. رأيت الرجل يقف دون حراك، وهو ينظر باتجاه الرصيف الفارغ نظرة ثابتة، راسخة، غائرة، سحيقة، أبدية، سرمدية، لا نهائية، ما ورائية، كان ينظر إلى أشياء لا نراها، وكان لا يتحرك، ينظر، وينظر، ولا يتحرك. كان ينظر إلى ما وراء الرصيف، والرصيف يمتد إلى ما لا نهاية، يذهب إلى كل المدن، كل الأوطان، يقطع كل الصحاري، كل البحار، يدور حول العالم، والرجل يداوم على النظر دون حراك.
في محطة الشمال، لم يكن هناك مجال للكلام كالعادة، لعدم توقف مكبر الصوت عن إعلان وصول هذا القطار أو ذاك، مغادرة هذا القطار أو ذاك، تأخر أو إلغاء هذا القطار أو ذاك، بالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، على الرغم من اللوحة العملاقة بأزرارها المضيئة التي لا تتوقف عن التحرك صعودًا وهبوطاً حسب حركة السير. في الواقع لم تكن للمسافر حاجة إلى كل هذا الصخب، إضافة إلى ذلك نبرة المضيفة التي تعتذر بحدة إذا ما تأخر قطار عن الوصول أو تهلل بحدة إذا ما وصل قطار في الوقت المحدد، كان صوتها محتدًا دومًا إلى درجة تُثقب فيها الأذن، لهذا لا أحد يحادث أحدًا، وإلا عليك أن تصيح، وأولئك الذين يتصايحون فيما بينهم تظنهم يتهامسون بالمقارنة مع الصخب غير المنقطع لمكبر الصوت. والحال تلك، لم أميز إذا ما كان الفتى والفتاة الجالسان حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة إلى جانب طبيب أسنان وكاتب مع أكداس كتبه وحوض لسمك القرش يتوادعان أم ينتظران أخذ القطار القادم، كانا يقتربان برأسيهما من فوق فنجان قهوة وزجاجة كوكاكولا، ويشدان يديهما بيديهما، وأحدهما ينظر في عيني الآخر. نظرت إلى شفتي كل منهما، كانا لا يتوقفان عن الكلام، دون أن أسمع شيئًا مما يقولان، كانا لا يتوقفان عن الكلام، ومعًا في آن واحد سال الدمع من عينيهما، وراحا يمسحان جبهتيهما بجبهتيهما، ويهزان رأسيهما هز اللامصدق لما سيقع، فقلت لا بد أن أحدهما سيسافر تاركًا الآخر، وهما لهذا السبب يبكيان غير قادرين على احتمال الفراق. فجأة، نهضا، وابتعد أحدهما عن الآخر سائرًا في الطريق المضاد إلى باب من أبواب المحطة. لم أبتسم هذه المرة، لأن الأمر محير بالفعل: عاشقان ينفصل أحدهما عن الآخر في محطة للقطارات دون أن يأخذا أيًا منها! كان موعد كهذا أشبه بالموعد مع المجهول، فأي قطار سنأخذ إلى الحياة، لنواصل حياتنا، ومع من؟ جاءت فتاتان كل واحدة من الناحية التي ذهب منها العاشقان، وتعانقتا بحرارة، وهما تقبلان بعضهما من الثغر، ومضى أحد لاعبي الرُّغبي من أمامي، وهو يجري بكرته كالسهم. لم يكن يصطدم بأحد على الرغم من اكتظاظ المحطة بالناس، كانت محطة الشمال تمتلئ بالمسافرين القادمين بقدر المغادرين، وكأن لا أحد فيها يذهب أو يجيء، محطة معلقة بين عقارب الوقت وخطوط السكة الحديدية، محلقة ككوكب. وكان لاعب الرُّغبي يجري بكرته من طرف إلى طرف كما لو كان يجري في ملعب دون أن يصطدم بأحد، وأنا أتابعه بعينيّ إلى أن يحتجب عن ناظري، ثم لا يلبث أن ينبثق من بين الحقائب والأجساد، إلى أن يحتجب عن ناظري من جديد. لم يكن يلهث، لم يكن يبدو عليه التعب، كان يلعب. كان كل واحد من الركاب يلعب على طريقته، ويتسلى، كانوا يتلهون بالنظر إلى ساعات المحطة، ساعات كثيرة، ساعات لا تعد ولا تحصى، ساعات، ساعات، ساعات بلا حساب، ساعات لقضم الوقت، لابتلاعه، لتعبيد الفضاء، كانوا يتلهون بالنظر إلى الساعات دون أن يلتفتوا من حولهم. كان انتظار إقلاع القطار بمثابة لعبة مع الوقت، فتبقى أعينهم ثابتة على أمر الإقلاع أو أمر الوصول في الحالة المضادة. جاء رجال المطافئ يركضون، دون أن يدرك أحد السبب، كانوا يحملون نقالة ذهبوا بها من طرف المحطة إلى طرفها الآخر. لم يسقط أحد تحت عجلات ناقلة الحقائب، كان المسافرون يفكرون، وما لبث المسافرون أن هبوا إلى امتطاء أحد القطارات في اللحظة التي سُمح لهم فيها بذلك، ولم يعودوا يبالون بما يفعله رجال المطافئ. وصلني الصفير المؤذن بالرحيل، ورأيت شيخًا عجوزًا مع حقيبته هناك على مقربة من العربة الأخيرة دون أن يصعد فيها، ترك القطار يغادر دونه، وبقي على الرصيف ساكنًا سكون الخائف من السفر مع الموت، ناظرًا إلى القطار، وهو يبتعد.
سمعت أحدهم ينادي من ورائي، فظننت أنه يناديني. عندما التفت، لم يكن المُقعد ينظر إليّ، لم يكن يراني، لم أكن أنا المقصود. كان ينادي "جان"، وينظر بعينيه المذعورتين إلى الناحية التي يبدو أن جان ذهب منها. كان ينادي "جان"، ويقول "جان أين ذهبت؟"، على ركبتيه حقيبة كرتون مستطيلة، وينادي "جان". لم يكن أحد يأبه بالمُقعد، "جان" كان ينادي، وهو يمد رأسه بين المسافرين بحثًا عن جان في الناحية التي ذهب منها. "جان"... وهناك من أمام شباك بيع التذاكر كان اثنان يتبادلان الكلام بأدب جم لأن أحدهما قطاره على وشك الرحيل، وهو يريد أن يسبقه لشراء تذكرته. كان عليه أن يطلب الإذن من المنتظرين الباقين ليمضي أمامهم، وفي اللحظة التي شاء هذا لذاك أن يسبقه إلى شباك التذاكر، فتح شباك آخر، فشكر ذاك هذا. تفهم الكل ذريعة الرجل، وتركوه ليكون أول المشترين لتذكرته. لم يكن ذنبهم لأنه تأخر عن الحضور من أجل قطاره، لكن روحهم المتحضرة فرضت عليهم هذا التصرف اللائق. وعلى مقربة ليست بعيدة، كان شاب أحمر الشعر، يحادث ماكينة تبديل النقود قائلاً إنها لم تعطه مقابل ما ابتلعته. نعت الماكينة بالسارقة، وتوجه إلى شرطيين كانا يمضيان من هناك، فظن الشرطيان أن في الأمر نكتة راحا يضحكان عليها، والشاب يقف حائرًا لا يدري ما يفعل خاصة وأن قطاره على وشك الرحيل. اقترب أحد المتسولين الشرفاء من الشاب، وسأله عما هو فيه، عندما عرف مشكلة الشاب مع الماكينة، ابتسم، ورافقه إليها، كان يعرف سرها، ضربها بطريقة جعلتها تصرف النقود لصاحبها، ومقابل ذلك أعطاه الشاب ورقة نقدية تعادل تسول نهار كامل في محطة الشمال.
"جان أين ذهبت؟"
دفع المُقْعَدَ أَحَدُهُم بهدوء، وهو يسأل أي القطارات قطاره. ولكنك لست جان، قال المُقعد بشيء من الحيرة. لست جان، أجاب الرجل، أما إذا تريد أن تفوت قطارك، فهذا أمرك. شكرًا لك، تمتم المُقعد، وهو لا ينفك عن البحث بعينيه عن جان. رفعت رأسي مع عدد من الرؤوس إلى إعلان عملاق عليه فتاة يطير شعرها وفستانها، كان الإعلان لبنك يشجع على الاستثمار، فلم أفهم علاقة الفتاة بذلك، ربما لإثارة الانتباه. كانت الفتاة مثيرة بالفعل، ليست جميلة فقط بل ومثيرة، جميلة بالفعل، مثيرة بالفعل، تثير الانتباه والغلمة. ومع ذلك، كانت بعض الرؤوس لا ترتفع صوبها، بل صوب لوحة القطارات، وأحيانًا صوبها وصوب لوحة القطارات، كان الإعلان على مستوى واحد مع لوحة القطارات. رأيت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت لوحة القطارات دون أن تبالي لا بالفتاة ولا بالقطارات. إنجليزيات. وجوههن ملأى بالنمش، لكنهن جميلات. ليس بجمال فتاة الإعلان هذا صحيح، لكنهن يبقين جميلات. شيء عذري خائن يفلت من وجوههن. كن ينتظرن. ينتظرن القطار القادم. ينتظرنه وهن واثقات من أخذه. كن يبتسمن لبعضهن من وقت إلى آخر. لم يكنّ ينظرن إلى المارة. كنّ ينتظرن. كان يبدو عليهن الاطمئنان من أخذ القطار والوصول إلى لندن في الوقت المحدد. مررت من أمامهن، ولم يلتفتن إليّ. لم أذكّرهن بأحد. كنت بالنسبة لهن امرأ لا شأن له.
كيف لم يلفت انتباهي ذلك الهرم المقلوب على رأسه والذي لم يتم بناؤه بعد؟ ذهبت لأنظر، فرأيت رجلاً في الأربعين من عمره يعمل على بناء الهرم، ووسطه الأعلى عارٍ، كان يعمل بجد، ولم ألاحظ العقرب السوداء التي تحيط أقدامها المشعرة بصدره. كان يعمل بجد، يرفع بعضلاته المفتولة الحجارة الضخمة، ويعمل بجد، يصفر أحيانًا، ويعمل بجد، يتأمل من وقت إلى آخر جدران هرمه، ثم يعود، ويعمل بجد. كان يبدو عليه الجد، وكان يعمل بجد، وكأنه بجده يريد أن يقاوم سرطان رئته. رأيته، وهو يحك صدره، وكأن سرطانه يخرج رأسه من صدره ليحكه له، يحك صدره بتلذذ، ويتأمل جدران هرمه، ويبدو في عينيه بريق الأمل. ربما أنجزته الليلة، قال الرجل دون أن يلتفت إليّ. إنه قبري. قبرك؟ قلت باستغراب. إنه قبري، أعاد الرجل بصوت حيادي، كان جادًا. تلك الأشياء، هل تراها؟ تابع الرجل، ودومًا دون أن ينظر إليّ، طعام وشراب وقليل من الذكريات، صور ابنتي وزوجتي ورسائلي ومخدتي التي نمت عليها طوال أربعين عامًا، سآخذها معي تمامًا كما كان يفعل الفراعنة. لكني لا أعرف متى، قبري على وشك الإنجاز، وأنا لا أشعر بأي ألم. حمل حجرًا ضخمًا، وذهب به إلى الناحية الأخرى.
هل يعقل أن يموت المرء في اللحظة التي ينجز فيها بناء قبره؟ سمعت شابًا أسود البشرة يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى أحد الأرصفة، وقبل أن يذهب الشاب، قال له إنه ليس متأكدًا. وقف الشاب بانتظار الإعلان عن قطاره، وهو يرفع رأسه من فترة إلى أخرى صوب الساعة. كان قطاره سيقوم بعد عشر دقائق، بعد خمس دقائق، بعد دقيقة، بعد ثلاثين ثانية، وها هي الساعة تتجاوز موعد قيام القطار، بثلاثين ثانية، بدقيقة، بخمس دقائق، بعشر دقائق، ولم يتم الإعلان عن إقلاع القطار. وقف الشاب الأسود كالضائع، كمن فوت أعظم فرصة في حياته، ولم يفكر في الذهاب إلى مكتب الاستعلامات. كان على ثقة، وبشكل غامض، بقدوم قطاره الذي سيستقله بين لحظة وأخرى. لم أشأ التدخل، فقطاره يكون قد غادر على أية حال. لم يكن ينتظر مني التدخل، إذن لم أتدخل، حتى ولو طلب مني التدخل، فلن أفعل، لأني لست هنا لأتدخل، وإذا كان الخطأ خطأه، فليتحمل وحده تبعة خطئه.
تفاجأت بإحدى الفتيات السوداوات، وهي تسحب الشاب الأسود من ذراعه بعد أن طرحت عليه عدة أسئلة بخصوص قطاره، وتعدو به إلى الرصيف الصحيح. من حظك أن القطار قد تأخر عن الرحيل، قالت الفتاة السوداء. شكرها الشاب الأسود، والدمع يكاد ينبجس من عينيه. عادت الفتاة السوداء، وهي تبتسم لي، فابتسمت لها. قبلتني من خدي، فقلت إنها تخطئ الشخص، لأني غريب عن كل شيء هنا، عن كل من هم في البلد، وما أنا هنا سوى صدفة. ازداد تعلق الفتاة السوداء بي، وقالت إنها غريبة عن كل شيء هنا، أو بالأحرى كانت غريبة، ثم ما لبثت أن اعتادت على كل شيء بعد أن عرفت كل شيء. سألتني إذا كنت على استعداد لأعرف كل شيء عن محطة الشمال كما عرفت، فترددت، لأني كنت هناك لا لأعرف بل لأتعرف، ولكن يبدو أن كل الآتين والذاهبين لا يهمهم أن أتعرف عليهم. ودون أن تنتظر مني جوابًا، سحبتني الفتاة السوداء من يدي كما تسحب حقيبتها، وذهبت بي على آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي من وراء كل القطارات بدا منعزلاً. كان هناك مركز للشرطة، وبعض المكاتب المغلقة، ولم تكن قدم واحدة. كانت الفتاة السوداء لا تنظر إليّ، تسحبني، وأنا أتبع من ورائها إلى أن دخلنا منطقة كلها خطوط سكة حديدية، وهنا وهناك قطارات قديمة محطمة أو مهجورة، قالت الفتاة السوداء عنها مقبرة القطارات. ونحن في وسطها، حررتني الفتاة السوداء من قبضتها، وابتسمت لي، فلم أبتسم لها، بل بقيت عابسًا، فماذا أنا فاعل في مقبرة للقطارات؟ ستعرف كل شيء بعد قليل، قالت الفتاة السوداء. لم تبتسم هذه المرة، وبدا على وجهها القلق. لم يكن الخوف، كان القلق. لم أقرأ الخوف بين سطور وجهها، بل القلق.
أخذت تصلنا ضربات سوط، وصرخات، مزيج من لعنات وقهقهات، وما لبث شخص مربوط بحبل من عنقه أن قفز من إحدى العربات المحطمة، وهو يحمل أربع حقائب، تبعه آخر في ثياب القرصان، على عينه عُصابة، وهو يواصل ضرب الأول بالسوط، يجذبه بالحبل، ويلعنه، وهذا يقهقه، وهو في منتهى السعادة، ويواصل حمل الحقائب الأربع. سأل القرصان إذا كانا قد وصلا الميناء، فأخبرته الفتاة السوداء بشيء من عدم الرضى بالوضع الراهن أن هذه محطة الشمال، وأن لا ميناء هنا. عاد يجذب حامل الحقائب بالحبل، ويضربه بالسوط، متهمًا إياه بخداعه، وحامل الحقائب لا يحاول الرد، بل يكتفي بالقهقهة، وهو في منتهى السعادة. قال القرصان إن خادمه بطبيعته كاذب ومخادع، فالإنسانية كاذبة ومخادعة، وهو لا يفعل سوى أن يضلله لئلا يركب البحر، البحر عدوه اللدود، لأنه يصاب بالدوار، بسبب الدوار جاء به إلى محطة الشمال ليسافر في البر، لكن جزيرته لا طريقٌ بريٌّ يوصل إليها. عاد القرصان يضرب خادمه، وخادمه يكتفي بالقهقهة، ويبدو أنه لا يطلب من سيده سوى المزيد من الضرب، المزيد من الإهانة. سألني إن كنت أعرف أقرب طريق إلى البحر، فقلت لا أعرف. أقرب طريق إلى البحر الركوب بالقطار حتى المانش أو الذهاب إلى مارسيليا، قالت الفتاة السوداء منشغلة البال، لكن الذهاب إلى مارسيليا من محطة ليون وليس من محطة الشمال، أقرب طريق إلى البحر تبعد حوالي ألف كيلومتر من محطة ليون. ثارت ثائرة القرصان، ومن جديد أخذ يضرب خادمه بالسوط، يجذبه بالحبل، ويلعنه، لأنه لم يخدعه بالطريق إلى البحر فقط ولكن أيضًا بالمحطة التي سيركب فيها القطار إلى البحر، فالبحر لديه ليس المانش بل مارسيليا. قال إن لديه شعورًا بأننا نخدعه نحن أيضًا كخادمه، وإنه يسمع صوت البحر. أرهف السمع، ورفع عن عينه السليمة العُصابة فاحصًا مقبرة القطارات من كل ناحية، فلم يقع إلا على جثث القطارات المحطمة أو المهجورة وبعض الطيور الغريبة الشكل، والتي أخذت تنعق، فتسبب الانزعاج للفتاة السوداء. هذه الطيور ليست النوارس، قال القرصان للفتاة السوداء، وهذه بالفعل محطة الشمال، والبحر ليس قريبًا. وعاد يجذب بالحبل خادمه، ويضربه بالسوط، وخادمه يقهقه، ولا يلقي بالحقائب الأربع، بل يتشبث بها، يتشبث بها، يتشبث بها إلى ما لا نهاية. 
تركناهما، أنا والفتاة السوداء، وذهبنا إلى قطار آخر محطم قرب شجرة عارية، ما لبث أن خرج من تحت قاطرته توأمان سياميان برأسين وذراعين وساقين وبطن واحد، اضطربت على مرآهما الفتاة السوداء. كانا يعرفانها، فسألاها إذا ما أحضرت لهما الحبل ليشنقا نفسيهما. أجابت بالنفي، فقالا إنهما كانا يعرفان أنها لن تحضر لهما الحبل ليشنقا نفسيهما، لكنهما سيشنقان نفسيهما ذات يوم. كيف؟ هما لا يعلمان كيف. دون الحبل لن يتمكنا من شنق نفسيهما. لكنهما يتدربان على ذلك كل يوم بالتعلق على أغصان الشجرة، واختيار أقواها. أشارا إلى بعض الأغصان المكسرة، هذه الأغصان لم تكن لتحتمل جثتنا المزدوجة، ونحن لهذا سعيدين، قال التوأمان السياميان. ليس لأنهما ما كانا ليموتا لو تعلقا على هذه الأغصان الطرية بل لأنهما عرفا ذلك، وسيعرفان بالتالي أي الأغصان التي ستقوى على حملهما، فيكون موتهما أكيدًا. كانا كمن يحلمان، وكانا يبتسمان لي بوجهيهما المزدوجين دون أن يرياني. كانا لا يحسان بوجودي، ولولا الحبل الذي كانا يريدانه من الفتاة السوداء لما أحسا بوجودها هي الأخرى. كانت الفتاة السوداء تستمع إليهما على كره منها. وقبل أن يتركانا للعودة إلى القاطرة والاختفاء تحتها من جديد، أوصيا الفتاة السوداء على عدم نسيان الحبل في المرة القادمة، على أن يكون حبلاً طويلاً ومتينًا.
قطعنا، أنا والفتاة السوداء، خطوط السكة الحديدية إلى عربة معلقة، عربة زهرية اللون، وكأنها معلقة في لوحة. لم يكن للعربة سلم للصعود، ولم يكن بالإمكان الدخول فيها من الأعلى. من الأعلى كيف؟ لم أطرح السؤال على الفتاة السوداء، كانت تنظر إلى العربة المعلقة، ويبدو عليها التردد. وبينما أنا حائر أفكر في كيفية الدخول إلى العربة، فتح أحدهم نافذة، وأطل برأس رماديّ الشعر ووجه تملأه الغضون، وراح يحدثنا، دون أن يحدثنا، وكأنه على خشبة مسرح. قال إنه لا يعرف عن المسرح شيئًا، لكنه معلق في مسرح، مسرح بدوره معلق في الفراغ. وضع يده فوق عينيه، وهو ينظر في كل اتجاه من مقبرة القطارات، وسأل الفتاة السوداء إذا ما صادفت بعض الممثلين، وهي في طريقها إليه، فنفت الفتاة السوداء، لم أصادف في طريقي سوى قرصان يربط خادمه بحبل، قالت الفتاة السوداء، ويضربه بسوط ظنًا منه أنه خدعه، فهذه ليست الطريق إلى البحر. قهقه الرجل الرماديّ الشعر ذو الوجه المليء بالغضون، وقال بل هي الطريق إلى البحر أيها المجداف! الطريق إلى البحر لا بد أن تمضي بمحطة الشمال. إن البحر للقرصان هو بحر مارسيليا وليس بحر المانش، أوضحت الفتاة السوداء بصوت مضطرب، فقهقه الرجل الرماديّ الشعر ذو الوجه المليء بالغضون ثانية، وقال هذا المجداف لا يعرف أن الطريق إلى المانش الطريق إلى الموت، الطريق إلى العبث، الطريق إلى اللامعقول وسخرية الوجود والفاجعة الإنسانية، الطريق إلى الحرية. وهل صادفتِ غير هذين من الممثلين الهاذيين؟ سأل الرجل الرماديّ الشعر ذو الوجه المليء بالغضون الفتاة السوداء. إنهما الشخصان السياميان اللذان تعرفهما، اللذان يسعيان إلى الانتحار شنقًا دون أن يصلا إلى ذلك أبدًا، أجابت الفتاة السوداء بصوت مضطرب دومًا. غضب الرجل الرماديّ الشعر ذو الوجه المليء بالغضون، هذان ليسا ممثلين، قال، هذان شخصان في جسد واحد من رواد مقهى التجارة. انتبه فجأة إلى وجودي، فأشار إليّ، وهذا الذي معك من هو؟ لا يبدو عليه أنه ممثل. ترددت الفتاة السوداء قبل أن تقول لا أعرف. لم يبن على الرجل الرماديّ الشعر ذو الوجه المليء بالغضون الانزعاج، وبشيء من الرضى قال إنه من غير المهم أن نعرف من هو الذي معنا، وأراد الذهاب، فعجلتُ القول: أنا شخص غير موجود! فحصني بعينيه الجاحظتين مليًا، وابتسم، ثم غادر نافذة العربة المعلقة في الهواء.
ابتسمت بدوري، كان كل منا، أنا والرجل الرماديّ الشعر ذو الوجه المليء بالغضون، يفهم الآخر دونما حاجة لنا إلى معرفة كيف كان كل منا يفهم الآخر. لم يكن مهمًا، حتى فهم الواحد منا للآخر لم يكن مهمًا، حتى هذا المكان المعلق بجثث قطاراته وخطوط سكته الحديدية في الفراغ لم يكن مهمًا، هذا المكان المقبرة الذي يتنفس بأمواته، كان هذا المكان محيرًا، ولم يكن مهمًا. أفقت على الفتاة السوداء، وهي تمد إصبعًا خَضِلَة إلى اللامكان، وتقول هناك أسكن. لم أقف على ما تقول، نظرت إلى حيث أشارت ثم نظرت إليها، فأوضحت أنها تسكن بعد نهاية خطوط السكة الحديدية، بعد ذلك الضوء الأحمر المعلق بين الأرض والسماء. لم تكن لخطوط السكة الحديدية نهاية، لكني قلت لنفسي، هذا المكان سيظل مقبرة قطارات بعد كل شيء، وللمقبرة نهاية. لم يكن لمقبرة القطارات سور يحيط بها، فهي مقبرة قطارات. انتظرت أن يظهر بيتها بعد الضوء الأحمر المعلق بين الأرض والسماء، فلم يظهر شيء. وعلى العكس بدأت أسمع نحيب رضيع، فقفزت الفتاة السوداء إليه، وحملت ما لم أره بين ذراعيها، وألقمته ثديها، ثم ذهبت به مدللة، وقد ذهب عنها قلقها. قدمت الفتاة السوداء الرضيع لي دون أن أراه، وهي تقول إنه ابنها، وهي تتركه كل يوم هنا في اللامكان، وتذهب طلبًا للرزق. هذه الفتاة لا بد أنها مختلة العقل، قلت لنفسي. لم أفهم أنها عاهرة محطة الشمال إلا عندما تفاجأتُ بها، بعد أن وضعت الرضيع في سرير وهمي، وهي تعانقني، وتقول إنها على استعداد لفعل أي شيء في سبيل إطعام ولدها. أبعدتها عني بلطف، وأردت العودة من حيث جئت، إلى محطة الشمال حيث العالم عالم والناس كمثرى. وقفت الفتاة السوداء في طريقي، وهي تقول إننا لم ننه بعد الاطلاع على كل خبابا محطة الشمال. ستنيم ابنها، وبعد ذلك سترافقني إلى عالم المحطة السفلي، فللمحطة عالم سفلي مليء بالغرائب.
عدنا أدراجنا، أنا والفتاة السوداء، دون أن نقع على العربة المعلقة ولا الشجرة ولا القرصان، لم تكن هناك سوى تلك الطيور الغريبة التي تنعق من ورائنا، وتتبعنا، وتحفر القلق ببراثنها في جبين الفتاة السوداء. قطعنا آخر رصيف، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة إلى قلب محطة الشمال. استقبلنا الصخب والناس والقطارات الذاهبة والآيبة، وكأنه يوم الحشر. دفعتني الفتاة السوداء إلى درج يهبط تحت الأرض، فرأيت عند نهايته على اليمين المستودع، وهناك صف من المسافرين الحاملين لأقفاص فيها شتى أنواع الطيور الإفريقية الملونة، يودعونها، ويعطيهم المسئول وصلاً بها بعد أن يدفعوا. لم ألاحظ إلا شخصًا واحدًا يريد أن يودع صندوقًا حديديًا ضخمًا، وهناك فتاة يبدو عليها الحياء تريد أن تودع مكنسة كهرباء. قلت للفتاة السوداء ليس في كل هذا ما هو غريب بالفعل، لكن المحير وجود كل هذه الأقفاص ذات الطيور الإفريقية بينما ليس واحد هناك من أصحابها إفريقيًا. على اليسار، كانت هناك عدة شبابيك للصرف، لم يكن عليها الإقبال على المستودع نفسه، لكن فضة الأضواء الوهاجة شدت انتباهي، وشد انتباهي أيضًا الصرافون، كانوا يرتدون ثيابًا براقة كثياب الملاحين الكونيين، ولم تكن بينهم امرأة واحدة. واصلنا السير، أنا والفتاة السوداء، فإذا بنا عند نهاية الممر تحت ساعة ضخمة فيها جياد أخذت أشكال الأرقام. هل هذا هو كل العالم السفلي لمحطة الشمال؟ أبديت للفتاة السوداء عدم دهشتي، مستودع للأمانات ومكاتب للصرافة؟ ابتسمت الفتاة السوداء، كانت تبتسم لعدم صبري، كانت راضية تمام الرضى عن رد فعلي، هذا يعني أنني أريد معرفة العالم السفلي لمحطة الشمال، وأنني وقعت أسير فكرتي عنه. تقدمت الفتاة السوداء من خزانة حديدية مهملة، وفتحتها بمفتاح بدا لي أنها كانت تمسكه طول الوقت بيدها، وإذا بباب في داخلها اجتزناه إلى عالم هو بالفعل سحري، عالم من الأضواء والأشياء المذهلة اللامحدودة: الجياد الرقمية والسيارات الرقمية والأراجيح الرقمية والمهرجون الرقميون والموسيقيون الرقميون والراقصون الرقميون وكافة الألعاب الرقمية، لم يكن هناك من الناس العاديين مثلنا سوى بعضهم. أخذنا ننتقل من مكان إلى مكان انتقال الأطفال، ونحن أسعد أناس في الدنيا، وما أن اعتدنا على الأجواء حتى أخذنا نكتشف مستوى آخر من هذا العالم السفلي لمحطة الشمال. ثلاثة أماكن شدت انتباهي، المكان الأول للمافيا، حيث كان يدخل رجال أنيقون جدًا، يبتسمون كثيرًا، ظلالهم تبتسم لكثرة ما كانوا يبتسمون، لم يكونوا مسلحين، وكانوا يتحادثون بأدب واحترام كبيرين، يبادلون أكداس النقود في المحفظات بأكعاب المخدرات أو أنواع المجوهرات بعد أن يقوم خبير بفحصها. المكان الثاني للتجميل، حيث كانت تدخل نساء بوجوه تختلف عنها عندما تخرج، وكأن الوجوه أقنعة تخلعها النساء بكل بساطة. رأيت السوداء تدخل بوجه أسود وتخرج بوجه أبيض، الوجه أبيض والجسد أسود، والبيضاء تدخل بوجه أبيض وتخرج بوجه أصفر، الوجه أصفر والجسد أبيض، والحمراء تدخل بوجه أحمر وتخرج بوجه أسمر، الوجه أسمر والجسد أحمر... وهكذا. ترددت من كانت برفقتي بين الدخول وعدم الدخول. أنا أحلم بوجه منمش وشعر أحمر، قالت الفتاة السوداء، لكنها أجلت ذلك إلى يوم آخر، فلم أر بعد كل شيء من العالم السفلي لمحطة الشمال. المكان الثالث كان للعبادة، للعبادة؟ كيف هذا للعبادة، وهذا المكان الغوليّ الذي لا يعرف أحد فيه الله؟ سألت متهكمًا. للعبادة، أكدت الفتاة السوداء. حاولت دفعي إلى الدخول، فرفضت، قلت أمكنة العبادة ليست أمكنتي، لكنني تفاجأت بالراهبة الحبلى، وهي ترفع ثوبها لزبون، وتكشف عن ساقيها المزينتين بمطاط الجوارب. راح الزبون يجسها من بطنها الضخم، ثم ذهب معها. عندئذ وافقت على الدخول لأرى، وفي قاعة شبه معتمة، رأيت عشرات الراهبات في أوضاع مختلفة، كن يضاجعن، ويرتلن. لم يثرني المشهد جنسيًا بينما الفتاة السوداء نعم لما التصقت بي، ورفعت أصابعي إلى ثديها، ففمها، فلسانها. اعتذرت، وأنا أقول لم أر بعد كل شيء. دفعتها، أنا هذه المرة، من أمامي، وخرجنا. 
أشارت الفتاة السوداء إلى صف من كبار رجال الأعمال والوزراء، لا أحد يتصرف بورع مثلك، قالت الفتاة السوداء غاضبة، وأرادت تركي، فرجوتها البقاء. قالت إنني الوحيد بين بني البشر دون أن أنتظر شيئًا، دون أن أنتظر أحدًا، فابتسمتُ مرتبكًا. لم أجبها، كنا قد دخلنا في ميدان سباق للجياد الرقمية، امتطيت واحدًا، وامتطت الفتاة السوداء واحدًا، وذهبنا مع عشرات غيرنا نعدو، ومكبر الصوت يشجع هذا أو ذاك، وبالطبع لم نكن لا أنا ولا الفتاة السوداء من الفائزين. جربنا بعد ذلك حظنا مع السيارات الرقمية، فجاءت الفتاة السوداء الثانية وأنا العاشر. لا حظ لي، قلت لها، فنظرت الفتاة السوداء في عينيّ، وسألتني فجأة من أكون، أنا لا وجود لي، قلت لها، وأنا أرسم ابتسامتي الساخرة على ثغري. أغضبها مرة أخرى جوابي، وبعد لمسة بيدي على خدها، ابتسمت لي. لم يعد الأمر يهمني كثيرًا، قالت، وأبدت ارتياحها لصحبة واحد غريب الأطوار مثلي. سألتُ إذا ما كان هذا كل شيء بخصوص عالم محطة الشمال السفلي، ليس هذا كل شيء، قالت الفتاة السوداء، وسحبتني من يدي كما تسحب حقيبتها أو كلبها.
كان هناك مصعد، فنزلتُ مع الفتاة السوداء طابقين آخرين تحت الأرض. عندما خرجنا إذا بنا وجهًا لوجه مع عشرات بل مئات وربما آلاف الوجوه الغريبة، كانوا كلهم ممن لا إقامة لهم، لا أوراق رسمية، لا علاقة لهم بالشمس، بالعالم، حتى ولا بالموت، بمقابر القطارات أو بمقابر البشر، لا علاقة لهم إلا بعمل عابر يساعدهم على العيش تحت أقدام المسافرين وعجلات الحياة وخطوط السكة الحديدية. ابتسمت لهم، فظلت وجوههم عابسة. حاولت التحدث مع بعضهم، فلم يجيبوا. تجنبوني، واختفوا في جحورهم، جحور قذرة للجرذان. ومع ذلك، كانت القناعة تزيد وجوههم عبوسًا، قناعة نهلستية ليست مفسرة، ليست منطقية، لا تدرك بالعقل، وتدرك بثغور الأخطبوط. رأيت بعضهم يأكل، وبعضهم يمارس العناق، وبعضهم يرى التلفزيون، وبعضهم يستمع إلى الموسيقى، وبعضهم يدخن أو يحشش، وبعضهم يرقد، وبعضهم يقامر، وبعضهم يراهن، وبعضهم يداعب قطًا أو كلبًا أو قردًا أو ثعبانًا أو... لم تكن هذه الحيوانات رقمية. كان عالمهم الأرضي هذا البعيد عن براثن الشرطة عالم حرية لهم بشكل من الأشكال. هؤلاء على عكسك موجودون، همست الفتاة السوداء في أذني، وسحبتني من يدي كما تسحب حقيبتها إلى المصعد، لننزل في الطابق الوسط، طابق لم يكن الجحيم، ولم يكن الجنة، طابق بين بين. رأيت أغرب ما حلق من طير، وأعزز ما اتقد من جمر، وكأنني، وأنا أطل من نافذة في الجنة، أطل على بركان في الجحيم. لم يسعدني التناقض، من طبيعتي أن يسرني التناقض بين الأشياء والألوان والحالات، لكنني هنا، في هذا المكان الغريب، لم أكن مبتهجًا، والحق أنني لم أكن مغتمًا، فمن طبيعتي أيضًا الحيادية. زَلّت بمرافقتي السوداء القدم، وكادت تسقط في جمر جهنم، انتظرت عوني، وأنا أحدق في وضعها الصعب الطارئ وضعها غير المتوقع، ولم أتقدم لعونها، كان عليها أن تعين نفسها بنفسها، وتثبت جدارتها على العيش. تركتها، وذهبت، وهي من ورائي تطلب نجدتي، ترجو، وترجو.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
القسم الثاني
في محطة الشمال، كانت الدنيا تقوم ولا تقعد كالعادة، القطارات في حركة ذهاب وإياب لا تهدأ، والركاب يقومون بطقوس من جهنم، كما لو كانوا شياطين على عجل دائم من أمرهم، كانوا يسحبون حقائبهم أو يحملونها وكأنهم يسحبون أقدارهم ويحملون عبء ذنوبهم، وهم دائمًا لا ينظرون إلى ما يفعله غيرهم، ويبحثون عمن ينتظرهم على باب الجحيم، فينقذهم من عذابات الوجود. كنت الوحيد ما بينهم دون أن أكون ما بينهم دون حقيبة أحملها أو أسحبها ودون أن يكون أحد بانتظاري، فينقذني من عذابات لم تكن لي. لهذا كان يمكنني الابتسام في عالم كل ما فيه يبعث على التجهم، فابتسمت على مرأى امرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، وكأنها تنقل معها كل ما تمتلك. كانت في وضع من لا ينتظر عونًا من أحد، وكانت تبدو جهنمية قادرة على حمل أشيائها وحقائبها، ودون أن تأتي بعربة، فلم أقدم لها أقل عون، لكن عازف الغيتار الجالس هناك توقف عن العزف، وجاءها يعرض عليها خدماته، فانتهرته، وطردته، وأنا أواصل الابتسام، وأنظر إلى الشاب الموسيقيّ بطرب. حملت المرأة أشياءها وحقائبها، وتحركت، أشبه بالتنين في عالم الجحيم، وأخذت تقهقه كمن تقول لنفسها ها أنا أنهض بأعبائي، وأتحمل كل مسئولياتي. تركتها من ورائي، وهي واثقة بقدراتها، ووجدتني أسير إلى جانب أم تحمل بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين شبه غائبة عن الوعي، ظننت في البداية أن ذلك بسبب عدم تحملها السفر في القطار، لكنني كنت على خطأ، فالأم صفعت ابنتها ما أن رفعت الصغيرة رأسها تريد السير على قدميها، فعرفت حينذاك أن البنت كثيرة الحركة تسبب الإزعاج للأم، وبدافع الخوف على ابنتها من الضياع في محطة الشمال كانت الأم تضربها، وتُفقدها حيويتها. على الرغم من وحشية المرأة داومت على الابتسام، فلنقل، والحال هذه، داومت على الابتسام دون أن يكون ابتسامي في محله، خاصة وأن الصغيرة كانت تتألم لتصرف بلا عِوَض، وتُرْغَم على وضعٍ غير وضعها، وضع تنطلق فيه بحرية ككل الأطفال. لم تنقطع ابتسامتي، لكن رجلاً وامرأةً يصطليان في نار الكره شدا انتباهي، وجعلاني أتبعهما. كان كل منهما يسحب حقيبتين ضخمتين كحوتين، ويشقان طريقًا تنفصل إلى اثنتين في وادي الجحيم. لم يكن الواحد يلقي على الآخر أية نظرة، بينما قرأت في عينيهما كل صفحات الضغن والسُّم، سُمٌّ وضغنٌ جعلا من محياهما عشًا للأفاعي. تجاوزتهما، وأدرت رأسي إليهما، وأنا أبتسم. وإذا بالمرأة تفلت حقيبتيها من يديها، وتأخذ بتمزيق وجه الرجل بأظافرها، وهي تهمر، وتبدي عن نواجذها، بينما الرجل يحاول تدارك ذلك دون أن ينجح. كان الناس ينظرون إليهما بشيء من التلذذ، كانوا ينظرون إلى الرجل والمرأة، وإلى بعضهم البعض، ويرتعشون حبورًا، كانوا يرتعشون حبورًا، وبعضهم ينتظر أكثر، أن يدافع الرجل عن نفسه كمجرم كسفاح كتمساح أمريكيّ، فيغرق الكل في مستنقع من الدم. لم يكن المشهد عاديًا يتكرر كل يوم، لهذا كانوا يرتعشون حبورًا، وهم يصبون إلى المزيد، حتى أن شابين، أسود وأبيض، كانا هناك غير بعيد قد توقفا عن خلع ملوك الشطرنج، وأتيا بأظافرهما ليشاركا المرأة في تمزيق وجه الرجل. بعد ذلك، سحبت المرأة حقيبتيها بارتياح لا يصدق، وعادت من حيث جاءت، باتجاه القطار، بينما لم تمنع مجموعة صاخبة من الشبان والشابات الحاملة على ظهرها أو الساحبة بيدها حقائبها الرجل من اللحاق بالمرأة، والرجل كل أمارات الرغبة في الانتقام تَشُلُّ وجهه لتغطي كل كيانه. لم يجعل الرجل مجموعة الشبان والشابات التمكن من جرفه في الاتجاه المضاد، وهو يضرب بقبضته هذا أو ذاك، هذه أو تلك، أينما كان، في الوجه، في الصدر، في البطن، وهو يضرب بقبضته، وهو يضرب بقدمه، دون أن يترك نفسه طوع إرادة أخرى، وبدوره مزق وجه المرأة، وعند ذلك بدا عالم الجحيم عالم استرداد الشرف للجميع. للجميع؟ ليس تمامًا، فتلك الراهبة الحبلى كانت تمشي مثقلة ليس مما في بطنها، كانت مثقلة بشيء آخر غير الشرف، شيء اسمه العار، العار من الذات، العار من الوجود، العار من الظل، كانت مثقلة بظلها، بالعار من ظلها، وكانت تتحاشى النظر في عيون الناس، ليس مثلي، كانت تسعى إلى الاختباء منها، ولكن كيف؟ ثوبها الفضفاض ممتلئ ببطنها، وبطنها هو العار، عار اسمه الانتكاح، لامرأة دين الانتكاح هذا اسمه العار، وشيء آخر ربما كان الزنابق، فالزنابق هي الوجه الآخر للعار، للزنابق والعار نفس المعنى، لكنهما شيئان مختلفان. 
كانت إحدى نجيمات السينما تشكل صدرها بزنبقة كبيرة، وتصبغ وجهها بماكياج هائل، ترفع إلى الأعلى شعرها كناطحة سحاب، وتمضغ علكًا، وهي تفتح فتحًا كبيرًا شفتيها الملوثتين بأحمر الشفاه تلويثًا عابثًا، وتبتسم لجمهور خفي من الشياطين ورواد البورصة، كانت تحرك بإصبعها حقيبتها البلاستيك، بغنج، بإثارة، بإغراء، وهي تنظر إلى كل من يتجاوزها بتحد بيغاليّ. تعال، كي أرميك تحتي، كأنما كانت تقول لكل من يضرب كتفها بكتفه، فجاء من جاء. حمل لها ثلاثة شبان حقائبها، كانت تعتقد أنهم عرفوها، في فيلمها الأخير كان لها دور لا يذكر، ربما شاهدوا الفيلم أكثر من مرة، قالت لنفسها. ضاعفت من غنجها، ودلعها، وقرفها، والشبان الثلاثة أحاطوا بها، والتصقوا بها، وجذبوها، وأحدهم قد مد براثنه، ومزق رافعة نهديها، مما أفزعها، فصرخت، ودفعتهم بقوة، وعنف، وشراسة، وأخذت تركض، وهي تضرب بالمسافرين في محطة الشمال.
تعال هناك، يا حبيبي. كان الصبي في التاسعة أو العاشرة، وهو يزن تسعة وتسعين كيلوغرامًا. هناك، تعال هناك، سترتاح قليلاً، ثم سنواصل المشي، قالت الأم. أنا تعب، يا ماما، قال الصبي. أعرف، لهذا، اجلس، يا حبيبي، قالت الأم. لماذا لا تحملينني، يا ماما؟ قال الصبي. سأحملك، اجلس أولاً، أرح قدميك، يا حبيبي، قالت الأم. جلس الصبي قليلاً ثم نهض. أرحت قدميّ، يا ماما، قال الصبي. أنت متأكد؟ سألت الأم. أنا متأكد، أجاب الصبي. أرحت قدميك؟ أرحت قدميّ. أرحت قدميك تمامًا؟ أرحت قدميّ تمامًا. أرحت قدميك تمامًا تمامًا؟ أرحت قدميّ تمامًا تمامًا. أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا؟ أرحت قدميّ تمامًا تمامًا تمامًا. أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا؟ أرحت قدميّ تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا. أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا؟ أرحت قدميّ تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا. إذا أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا، دعني أحملك، يا حبيبي. كان ثقيلاً كالمرساة، فوقعت به، وراح الصبي يقهقه.
لم يكن أحد بانتظاري، ويا للحظ! فالمنتظرون لغيري لم يكونوا لإنقاذ الناس مما هم فيه. كان الصديق أو القريب أو وكيل أحد الفنادق أو... كانوا يتقابلون كالغرباء، الرجل غير سعيد بلقاء المرأة أو المرأة بلقاء المرأة أو الرجل بلقاء الرجل. رجل في الستين لم يكن سعيدًا بلقاء زوجه الصبية، زوجة صبية في العشرين، ليس لأنها دميمة، وهي حسب شهادتي ليست دميمة، ولكن لأنه لم يكن سعيد بلقائها. كانت زوجته، كان يعرفها، والآن لم يعد يعرفها، هل كان حقًا يعرفها؟ لهذا لم يكن سعيدًا بلقائها. وكان ابن غير سعيد بلقاء أبيه، كان يتمنى لو يكون أي واحد من الموجودين في محطة الشمال أباه ما عدا أبيه، ليس لأنه يكرهه، ولكن لأنه لا يحبه. وكانت راهبة أم عجوز تقف هناك مكعبلة قصيرة متذمرة تميل برأسها يمنة ويسرة بحثًا عن الراهبة الحبلى بين القادمين للمرة الثانية على هذا الرصيف الثاني، وتهمهم شاتمة، وعندما رأتها في الأخير ببطنها المنتفخ الدافعة له كبطن الأسقف من أمامها، قبضت على الصليب، وأخذت تضرع إلى الله، وتدعو عليها بالدمار، وعلى الكون، تدعو، وتدعو، وتهمهم، والقادمون لم يكونوا ليهتموا بما تدعو. كان القادمون يتباطأون، ولم يكن يبدو عليهم أن رحيلهم قد انتهى مع وصولهم إلى محطة الشمال. كانوا في رحيل أزلي، وكانوا يجرجرون حقائبهم، وهم يخبطونها بحقائب غيرهم، وكأنهم مكرهون على ذلك، يخبطونها بكل من يعترضهم، فلا تسمع في الآفاق سوى صيحات الألم وصرخات الاحتجاج: يلعن دين... أخت الشرموطة... أخو الشرموطة... بدي أنيك... كانوا لا يترددون عن رمي حقائبهم من أعلى الدرج المؤدي إلى المترو. رفع وكيل أحد الفنادق لوحته المكتوب عليها اسم النزيل المجهول في وجهي، وكأنه يرمي إلى ضربي بها، وهو يعبس سائلاً إذا ما كنت هذا النزيل، وأمام ابتسامتي الساخرة المرسومة على ثغري تركني إلى قادمٍ ثانٍ ثم إلى قادمٍ ثالثٍ، وهكذا دواليك، دون أن يتوقف عن العبوس كالوغد، عبوس وبشاعة لا مثيل لهما، بينما كان وكلاء آخرون أكثر إجرامًا يجذبون القادمين من خناقهم مهددين، فيذهب هذا أو ذاك معهم. وقفت أراقب وكيل الفندق ذاك، وقد غلبت على صوته خشونة الكاره لجهنم، لموزارت، لميتشيغان، ينادي، وينادي، وينادي، وهو لا يتوقف عن العبوس كالوغد إلى أن وجد نفسه وحيدًا بعد مغادرة كل الركاب. أخذ بلوحته يضرب الحاجز حتى حطمها، ورأيته، وهو يشد بأصابعه شعره، يريد تقطيعه، ويبدو أكثر بشاعة من ابنة هيغو. عندما لاحظ أنني أراقبه كالملاك الخارج على القانون جاءني، وعاد يسألني، ويهددني، يريدني أن أكون السيد المنتظر، فكانت ابتسامتي الساخرة المرسومة على ثغري جوابي دومًا. رماني بعدة شتائم مغلظة، وهو يعبس، وارتدى وجهه قناع كل الفجائع الدموية في المسرحيات الإغريقية، ثم ذهب بطيئًا متثاقلاً، دون أن يلقي نظرة أخيرة على رصيف المحنة، كغيره، ليس كل غيره. كان رجل في بدلته السوداء المخططة وقبعته السوداء الحريرية يُحْدِقُ النظر في اتجاه الرصيف، والدمع يسيل من عينيه. رأيته يبكي كالثاكل، ولا يمسح دمعه السائل على خده. كان يبكي، ولم أكن أدري إذا ما كان يبكي على حبيب لم يصل. كان يذرف الدمع، ويداوم على النظر في اتجاه واحد حتى غاب كل شيء في عينيه، لم يعد يرى شيئًا، غدا العالم جحيمًا أسود منطفئًا، أطفأ جحيم العالم بدمعه، وأبقى على جحيمه مشتعلاً.
في محطة الشمال، كان الكلام شيئًا أقرب إلى السُّخرة، شيئًا مرهقًا ومفقدًا للأعصاب، فمكبر الصوت لا يتوقف لحظة واحدة عن إرهاب المسافرين، وذلك بإعلان وصول هذا القطار أو ذاك، مغادرة هذا القطار أو ذاك، تأخر أو إلغاء هذا القطار أو ذاك، باللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، لغات بناءة لكنها في هذا السياق هدامة، أضف إلى ذلك الرقص الجهنميّ الذي تمارسه اللوحة العملاقة بأزرارها المضيئة صعودًا وهبوطاً على إيقاع هو أيضًا هدام مدمر. في الواقع كان المسافر يخضع لكل هذا الصخب، وكنت أتساءل إذا ما كان ذلك من طبيعته، أضف إلى ذلك التواطؤ إلى حد الاشتراك في الجرم من طرف المضيفة عندما تصر على الاعتذار إذا ما تأخر قطار عن الوصول بنبرة فوقية تدغدغ عدم الصبر الأزلي لدى الفرد أو عندما تصر على التهلل عند وصوله في الوقت المحدد بنفس النبرة الفوقية دومًا، نبرة تعيد إلى الفرد الضائع في الجحيم بعض التوازن. كانت نبرتها المخضعة نبرتها الجسيمة بمثابة ترويض للذات قبل الأذن، لهذا كان الواحد يصرخ عندما يحادث الآخر دون حرج، لا شيء غير الصراخ في الجحيم، وفي الجحيم يعتاد المعذبون صراخهم. والحال هذه، كان فتى وفتاة جالسين حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة يصرخان عند الحديث ولا أحد ينتبه إليهما، وأولئك الذين لم يكونوا يصرخون لحديث كانوا يصرخون لوجع كأولئك المنتظرين دورهم من أجل خلع أضراسهم لدى طبيب أسنان المحطة، أو أولئك الذين يتصفحون كتب الكاتب الموجعة صوره وكلماته، أو... أو أولئك الذين يرتعدون فزعًا على رؤية سمك القرش في حوض غير بعيد من أصابعهم. كان الفتى والفتاة يصرخان، وكأنهما يتشاجران، فقلت لا بد أن أحدهما على وشك السفر بعد أن قررا الافتراق إلى الأبد. كان الشرر ينبثق من عينيهما، وهما يبتعدان برأسيهما من فوق فنجان قهوة وزجاجة كوكاكولا، وهما يبتعدان بجسديهما، وهما يبتعدان بكيانيهما، وهما يداومان على الصراخ بطريقة حاقدة ولئيمة. لم يكن بإمكاني متابعة حركة شفتي كل منهما، كانا لا يتوقفان عن الكلام بسرعة صارخين، والكل يسمع ما يقولان دون أن يميز بالفعل ما يقولان، فالكل بدوره يصرخ. خيل إليّ أنني أسمع قرعات طبول، وأصوات أبواق، وخيل إليّ أن وفودًا من شياطين جهنم بدأت تتقاطر. كانا لا يتوقفان عن الكلام بسرعة صارخين، ومعًا في آن واحد انفجرا ضاحكين، ضربا كفيهما كفًا بكف، وهما يهزان رأسيهما لجزل مفاجئ، فقلت لا بد أنهما وجدا حلاً لمسألتهما، وهما لهذا السبب يقهقهان كأبناء العفاريت. توقعت أن يأخذا القطار معًا لكنهما نهضا فجأة، تأبط كل منهما ذراع الآخر، وسارا في الطريق المؤدية إلى باب المحطة. ابتسمت هذه المرة لانخداعي: عاشقان يعود أحدهما إلى الآخر في محطة للقطارات دون أن يأخذا أيًا منها إلى جهة من الجهات! كان موعد كهذا أشبه بالموعد مع الأنا، الأنا السفلى، فأي قطار سنأخذ إلى الذات المنحطة، لنفهم ذاتنا الوضيعة، ومع من؟ لم أفكر في الجواب طويلاً. جاءت فتاتان، وكل منهما تسحب حقيبة من الناحية التي ذهب منها العاشقان، وبعد أن قبلت إحداهما الأخرى من فمها قبلة طويلة لاعبة انفصلتا، وذهبت كل منهما إلى رصيف. مضى أحد لاعبي الرُّغبي من أمامي، وهو يركض بكرته كالسهم المتلولب بين الموجودين في محطة الشمال دون أن يقدر على تفادي الكل، فيصطدم بهذا، ويصطدم بذاك. كانت محطة الشمال تمتلئ بالمسافرين القادمين بقدر المغادرين، تضغط على نفسها ضغط الماء في حوض سمك القرش، تصنع من نفسها جِرمًا واحدًا، جسدًا واحدًا لا يتجزأ، نوعًا من أكواريوم البشر، وكأن الكل إليها يجيء، محطة ممتلئة بالبشر وبالوقت، فلا نهاية للبشر، ولا نهاية للوقت. وكان لاعب الرُّغبي يركض بكرته من طرف إلى طرف ظنًا منه أنه يركض في ملعب، وهو يصطدم بهذا، ويصطدم بذاك، وأنا أتابعه بعينيّ دون أن يحتجب عن ناظري، فيلقي بالكرة وبجسده بين أكمة من الحقائب، ثم لا يلبث أن ينقل الكرة وجسده، ويقوم بما قام به، ولكن في الاتجاه المعارض. كان يلهث، ويعرق، ويبدو عليه التعب، كان يدفع ثمن اللعب. كان كل واحد من الركاب يدفع ثمن اللعب بشكل من الأشكال، فأَخْذُ القطار كان لعبة، لعبة تسليهم، كانوا يتلهون بالسفر والرحيل، الرحيل إلى أماكن عديدة بعيدة دون أن يهمهم أمر الوصول، المهم أن يقلع القطار، وتبقى أعينهم ثابتة على أمر الإقلاع إذا كانوا من المسافرين في محطة الشمال أو أمر الإقلاع في المحطات الأخرى إذا كانوا من المنتظرين. جاء رجال المطافئ يركضون، دون أن أدرك السبب إلا عندما رأيتهم يحملون على نقالتهم لاعب الرُّغبي، ذهبوا به في الوقت الذي سقط فيه أحدهم تحت عجلات ناقلة الحقائب، والمسافرون يهبون إلى امتطاء أحد القطارات. وصلني الصفير المؤذن بالرحيل، ورأيت شيخًا عجوزًا يهرول مع حقيبته ليلحق بالعربة الأخيرة. وهو يضع قدمه على عتبتها، أغلقت الأبواب، فوقع على ظهره. نهض بقوة شاب في التاسعة عشرة، وتعلق بالقطار الذي أخذت عجلاته تدور. لم يكن خائفًا من السفر مع الموت، بل كان يسعى إلى ذلك، وكان يبتسم.
وهذا الصوت الذي سمعته ينادي من ورائي، جدي... جدي... عندما التفت، كان شاب يبحث عن جده المُقعد، سألني أينه؟ وكأنني المسئول عن اختفائه. قال اسمه "جان"، وهو ترك جده المُقعد هنا. أوضح أنه تركه لأن امرأة نادته، كان لها صوت أمه، فذهب إليها. قال إن أمه ميتة، لكنه ذهب باتجاه الصوت. صوت كان يأتي من قطار، لكن القطار غادر. عندما عاد لم يجد جده، ومن جديد سألني أينه؟ قلت لا أعرف، لم يكن من الواجب تركه. ظننتها أمي، همهم الشاب، أمي ميتة، لكنني ظننتها أمي، ظننت الصوت صوتها، ثم غادر القطار. راح ينادي جدي.. جدي... وتركني، وهو لم يزل ينادي جدي... جدي... جدي... وهناك من أمام شباك بيع التذاكر كان اثنان يتبادلان الكلام بعنف لأن أحدهما قطاره على وشك الإقلاع، وهو يريد أن يشتري تذكرته، وما لبثا أن تبادلا اللكمات. لم يتدخل المسافرون ليحولوا بينهما، استمروا في شراء التذاكر، وفي اللحظة التي فتح فيها شباك آخر، شكلوا صفًا ثانيًا سريعًا من أمامه، وترك الكل الرجلين يتشاجران إلى ما شاء الله، إلى الأبد لو يشاء. لم يكن ذنبهم لأنه تأخر عن الحضور من أجل قطاره، روح متحضرة أم غيره، لم يكن ذنبهم، لا أهمية للأمر. وعلى مقربة ليست بعيدة، كان شاب أحمر الشعر، يضرب ماكينة تبديل النقود بقدمه، لماذا سَرَقْتِنِي نقودي؟ كان يردد، لماذا سَرَقْتِنِي نقودي؟ كان شرطيان يمضيان من هناك، فألقيا القبض عليه بتهمة السطو والتخريب، والشاب يتابع ما يدور مذهولاً خاصة وأن قطاره سيقوم بعد عدة دقائق. اقترب أحد المتسولين الغشاشين من الماكينة في اللحظة التي ذهب فيها الشرطيان بالشاب إلى مركز الشرطة، وحكى معها بطريقة جعلتها تصرف النقود في الحال، وكأنه كان على تفاهم معها. من العبث أن يكون المتسول على تفاهم مع ماكينة الصرف، من العبث أن تفهم الماكينة كلامنا، من العبث أن تسرق، الملوك يسرقون، والرؤساء يسرقون، ومناقير الطيور على الساعة الثانية عشرة في الإليزيه، لكن كل ذلك جرى أمام عيني، ووقع دون أدنى شك مِنْهَجِيّ.
"جدي..."
دفع أحدهم الجد المُقعد بهوس الممسوس، وهو يقهقه، والجد يصرخ بكثير من الذعر، ولكنك لست جان، جان، أين أنت يا جان؟ صاح المُقعد. وفي اللحظة التي قذف فيها الممسوسُ الشيخَ المُقْعَدَ من رأس الدرج المؤدي إلى المترو، رفعت رأسي مع عدد من الرؤوس إلى إعلان عملاق لفتاة يطير شعرها وفستانها. كانت الفتاة على وشك الطيران، والسقوط بين أذرعنا، وكان الإعلان لبنك يشجع على الاستثمار، على استثمار كل شيء، وأول شيء الألباب. خلبت الفتاة ألبابنا، وكنا على استعداد لنفعل كل ما تأمرنا به صورتها مقابل تملكنا لها. أحس كل واحد منا أن الفتاة ملك له، وبدأ كل منا يدفع الآخر بعيدًا عنها، جعلنا كل هذا الجمال الإلهي وحوشًا فيما بيننا، لم نعد نهتم إلا في إقصاء الآخر. كانت مواعيد القطارات تتلاحق على اللوحة ولا أحد منا يهتم بها، غدت الفتاة كل الكون، وساقاها كل الوجود. رأيت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت اللوحة، وهن عازمات على الحد من نزاعنا، وذلك بلفت النظر إليهن. إنجليزيات. إنجليزيات وجوههن ملأى بالنمش، لكنهن جميلات كالآلهات. شيء عذري فاسق يطغو على نظراتهن. شيء أقرب إلى الخراب. لم يعدن ينتظرن القطار القادم. كن ينتظرن اهتمامنا بهن، فيأخذننا إلى الفردوس، جحيمهن كان الفردوس. رحن يبتسمن لبعضهن ثم رحن يقهقهن، وجعلن منا ضحايا أبديين. لم نعد أنفسنا. كنا شيئًا يشبهنا، شيئًا ليس ملموسًا، شيئًا أقرب إلى ظلالنا. عند ذلك، لم يعد أخذ القطار لهن والوصول إلى لندن أمرًا مهمًا. القطار القادم سيكون فيما بعد، سيقوم فيما بعد، سيقوم في اللحظة التي سيقوم فيها.
من العادة أن يقوم الهرم على قاعدته ليلامس برأسه الشمس، قال لي أحدهم، فانتبهت إلى ذلك البناء الشاذ في محطة الشمال. الشمس في محطة الشمال غير الشمس، علقت، وأنا أفكر في الإله رع. يظل آلهة مصر بطبيعتهم أرضيين، النيل شيء أرضي، والدلتا، والصعايدة بشواربهم المجرمة، كل ما في مصر أرضي، كل ما قيل عن حضارتهم غلط، كل ما في مصر رمل. كان باني هرم محطة الشمال ينقل الحجارة الثقيلة، وينظر من حوله بغضب. لاحظت على صدره العاري أفعى جبارة همجية تلفه، وكلما وضع حجرًا، التقط الأفعى، وعضها. هكذا أقاوم سرطان الرئة، قال لي الرجل، وهو يعطيني ظهره، الألم يواجَهُ بالعنف، لهذا ألمي لم يحن. على ألمي أن يحين بعد أن أنجز بناء قبري. أشار إلى الهرم، وهمهم بكلمات لم أفهمها، كان يتكلم اللغة المصرية القديمة. تناول حجرًا ضخمًا، وفلقه كهمجيّ. المدنية همجية، قال الرجل، المدنية سرطانية، وأنا لهذا أحطم المدنية. كتب على الحجر باللغة الهيروغليفية: ألم الإنسان هو رع الذي فينا!
كشف الرجل عن ذلك كسر، هل كان مضطرًا؟ كل شيء مكشوف في محطة الشمال دون أن نكتبه أو نقوله، كل شيء مرئيّ، كل شيء مسموع، لا أحد يخفي شيئًا. سمعت شابًا أبيض البشرة يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى أحد الأرصفة، وهو يؤكد ذلك. لم تكن ساعة الإقلاع، لكنه كان واثقًا من الإقلاع حينما يحين ذلك، فالمراقب كان متأكدًا من الرصيف، والرصيف هو هذا. لم يكن في حياته أكثر منه ثقة كتلك اللحظة. كان واثقًا من قيام قطاره بعد قليل، ومن كل حياته. كان إحساسه بضبط حياته كمن يضبط ساعته، لا خطأ هناك، ولن يكون خطأ هناك. كنت فخورًا به، لو كنت مكانه لراودني نفس الشعور بالثقة، بعدم الخطأ، بامتلاك حياتي. 
وأنا أتأمل الشاب الأبيض بإعجاب، تفاجأت بإحدى الفتيات البيضاوات، وهي تسحبه من ذراعه بعد أن طرحت عليه عدة أسئلة بخصوص قطاره، وراحت تعدو به إلى رصيف آخر. لم يكن الرصيف الصحيح، خَلَّته، وتركته هناك حائرًا، بعد أن عطلت عليه حياته. عادت الفتاة البيضاء، وهي تبتسم لي، فلم أبتسم لها، كانت قد عطلت على الشاب حياته، كل حياته. أرادت أن تقبلني من خدي، فأشحت بخدي عنها، وقلت لها إنها عطلت على الشاب حياته، لماذا فعلتِ هذا؟ سألتها. ليعرف كل شيء عن حياته عن طريق الخطأ وبشكل آخر ولئلا تكون ثقته بالأشياء ثقة عمياء، أجابت الفتاة البيضاء. تعلقت الفتاة البيضاء بذراعي، وهي تقول بدافع الخطأ، وما ألذ الخطأ عندما نتمكن من معالجته. قالت إنها في محطة الشمال بالخطأ، لم يكن قطارها، لكنها عرفت أشياء في محطة الشمال لم تكن تأمل بمعرفتها، وعرفت بالتالي حياتها، ما الحياة. سألتني إذا كنت على استعداد لأعرف كل شيء عن الحياة كما عرفت، فترددت، لأني كنت هناك لا لأعرف كل شيء عن الحياة بل كل شيء عن محطة الشمال. ودون أن تنتظر مني جوابًا، سحبتني الفتاة البيضاء من يدي كما تسحب حقيبتها، وذهبت بي على آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي لمكان من وراء كل القطارات بدا منقطعًا عن عالم المحطة، فلم يكن المكان الذي يشدني بالفعل. كان هناك مركز للشرطة فيه ضابط يبدو عليه الجوع، فرأيت فردين من أفراد الشرطة قادمين بظرف من الوجبة السريعة، كما ورأيت امرأة على باب أحد المكاتب المغلقة، وقبل أن تفتحها، وتدخل، ألقت نحوي نظرة كوبيدية، وهي تبتسم لي. كانت الفتاة البيضاء لا تنظر إلى حيث أنظر، تسحبني، وكأنني حقيبتها، وكنت أتبع من ورائها طائعًا ككلب إلى أن دخلنا منطقة تتسلقها خطوط السكة الحديدية كالشريانات من كل ناحية، جثث القطارات فيها كثيرة، قالت الفتاة البيضاء عنها مقبرة القطارات. ونحن في قلبها، تحررتُ من قبضة الفتاة البيضاء، وابتسمتُ لها، فلم تبتسم لي، وعلى العكس عبست، وتجهمت، فمقبرة القطارات تبقى مقبرة تبعث على الحزن، وتثير الأفكار السوداء. ستعرف كل شيء عن الحياة بعد قليل، قالت لي الفتاة البيضاء. وبدا على وجهها الخوف. لم يكن القلق، كان الخوف. لم أقرأ القلق بين سطور وجهها، بل الخوف.
أخذت تصلنا ضربات سوط من إحدى العربات المحطمة، وصرخات سببها العذاب والألم، اندفع إثرها شخص مربوط بحبل من عنقه قافزًا يريد الهرب، والنفاذ بجلده. ظهر رجل في ثياب القرصان على عينه عُصابة، ثم قفز، هو الآخر، من وراء الأول، وهو يجذبه بالحبل، ويواصل ضربه بالسوط، ويلعنه، ويأمره بالعودة، وحَمْلِ حقائب أربع كانت موضوعة على باب العربة المحطمة، وهذا يصرخ من شدة العذاب والألم. قال القرصان، وهو يشير إلى الرجل المربوط بحبل، إنه كذب عليه، الإنسانية تكذب دومًا، فهنا ليس شاطئ السين، هنا مقبرة للقطارات، بسبب الحقائب كذب عليه، فهو لم يعد باستطاعته حملها بعد أن حملها دون انقطاع طوال رحلة دامت تسعة عشر عامًا وتسعة شهور وتسعة أيام وتسع ساعات وتسع دقائق وتسع ثوان. أنا آت من جزيرة ضائعة في وسط المحيط عومًا، قال القرصان، منذ تسعة عشر عامًا وتسعة شهور وتسعة أيام وتسع ساعات وتسع دقائق وتسع ثوان، وأنا أعوم كسمك القرش. وهذا الجحش يحمل الحقائب الأربع على ظهره، ويعوم ككلب البحر، ثم مشينا بعد ذلك طويلاً، طويلاً جدًا، مشينا بعد ذلك طويلاً جدًا، طويلاً جدًا جدًا قبل أن تكذب عليّ الإنسانية قائلة إننا وصلنا إلى شاطئ السين، لأجد نفسي في مقبرة للقطارات، مقبرة للقطارات فقط لا غير، هكذا هي الإنسانية، الإنسانية كاذبة منذ مولدها. أخبرته الفتاة البيضاء بشيء من الوجل أن خادمه لم يكذب، حقًا هم هنا في مقبرة قطارات محطة الشمال، لكن شاطئ السين على بعد عدة محطات في المترو. تنفس الخادم الصعداء، وهو يمسح جراحه، ويرميني بنظرات مستعطفة. شاطئ السين انتهى، أضافت الفتاة البيضاء دون أن يذهب عنها الوجل، جمعت البلدية رمله في أكياس بانتظار فصل الصيف. عاد القرصان يجذب خادمه بالحبل، ويضربه بالسوط، متهمًا إياه بخداعه، ففصل الصيف لم يزل بعيدًا، يجذبه، ويضربه، ويلعنه، ويأمره بحمل الحقائب الأربع، للعودة من حيث جاءا، سيقضيان تسعة عشر عامًا آخر وتسعة شهور أخرى وتسعة أيام أخرى وتسع ساعات أخرى وتسع دقائق أخرى وتسع ثوان أخرى... مهلاً، قلت للقرصان، ابقيا في المقبرة ضيوفًا على الأموات الحديديين هؤلاء حتى الصيف القادم، الصيف القادم على الأبواب، وستأتيكما الفتاة البيضاء بكل ما تحتاجون إليه، هذا وعد، أليس كذلك؟ أضفت، وأنا أتوجه بالكلام إلى الفتاة البيضاء التي رمتني بنظرة فيها بعض الهلع، وبعد تردد لم يدم طويلاً، طلبت منهما الفتاة البيضاء ما طلبتُ. أعادت هذا وعد، وهي تبحث قربي عن الاطمئنان. قلت اترك خادمك إذن وشأنه، الإنسانية توجعت الكثير مقابل لا شيء. بدت على وجه الرجل المعذب أمارات الشكر والعرفان، لكن القرصان رفع عن عينه السليمة العُصابة، وأخذ يفحص المكان دون أن يروقه. بل سنذهب إلى فندق قريب من شاطئ السين، أي الفنادق أقرب إلى شاطئ السين؟ سأل. كلها، قالت الفتاة البيضاء مع بعض الارتياح. أعاد القرصان العُصابة على عينه، ورفع سوطه إلى أقصاه يريد ضرب خادمه قبل أن يأمره بحمل الحقائب الأربع. أخذ الفتاة البيضاء خوف عظيم، فأمسكتُ بقبضته. اضربه، ولكن لا تضربه أمام الفتاة، قلت للمتجبر، ليس قلقًا عليه أقول هذا بل خوفًا من غضبه عليك. وما أن سمع الخادم قولي حتى استقام، واستطال، غدا أطول من سيده، وراح على سيده نباحًا، وبأسنانه هجم، وعضه من ذراعه، فدخل الاثنان في معركة ضارية لم نر نهايتها. كانت الفتاة البيضاء قد سحبتني من يدي كما تسحب كلبها، وطيور غريبة تنعق ليس بعيدًا، التفتت باتجاهها الفتاة البيضاء جاحظة العينين. كانت قد سحبتني من يدي، وذهبت بي إلى قطار محطم يربض كجثة تمساح قرب شجرة جافة تكسرت كل أغصانها إلا من غصن واحد سميك في وسطها.
خرج من تحت القاطرة توأمان سياميان برأسين وذراعين وساقين وبطن واحد لم تخفف رؤيتهما مما لدى الفتاة البيضاء من وجل، فكأنهما تنين آدميّ. ما أن وقعا على الفتاة البيضاء حتى سألاها إذا ما أحضرت لهما الحبل المتين الذي طلباه منها. أجابت بالنفي، فقالا لم تبق لهما سوى فرصة واحدة للانتحار شنقًا، فأغصان الشجرة التي جرباها كلها لم يبق منها سوى غصن واحد لم ينكسر. بدا عليهما الحزن، فطلبتُ منهما ألا يحزنا، لأن طريقة الانتحار شنقًا ليست الطريقة الوحيدة، وهي ليست بالطريقة المناسبة. بدا على وجه الفتاة البيضاء الخوف أكثر من قبل، أخذت ترتعد، وترجوني ألا أدلهما على ما ليس بمقدورها احتماله. كانت من طبيعة رقيقة، تقبل بكل شيء مهول على ألا تضطر إلى مشاهدته. على الأمور المتعلقة بالموت في عالم مقبرة القطارات أن تمضي كما لو كانت في عالم محطة القطارات أينما كانت بدون غصب أو اغتصاب، قالت الفتاة البيضاء. لم يفهم التوأمان السياميان كلامها، وقبل أن يتركانا للعودة تحت القاطرة والاختفاء من جديد، طلبا من الفتاة البيضاء الانتباه إلى نفسها، وعدم الخوف، والشجاعة، بينما عاد يصلنا نعيق الطيور الغريبة من بعيد.
قطعنا، أنا والفتاة البيضاء، المقبرة من وسطها إلى عربة معلقة كالأرجوحة على أكف الريح، وبالفعل راحت تتأرجح مع هبوب بعض الرياح. خيل إليّ أنها ستسقط أرضًا، والفتاة البيضاء من تحتها صاحت من الخوف، وهي تحمي رأسها بيديها، وعلى صيحتها خرج أحدهم من النافذة برأس رماديّ الشعر ووجه تملأه الغضون، وسأل إذا كانت الصرخة صرخة أحد المشاهدين، منذ مدة طويلة لم يأت مشاهد واحد ليرى مسرحيته. عندما رآنا، غضب منا أشد الغضب، واتهم الفتاة البيضاء بتحريض المشاهدين عليه. مشاهدوك في الماضي كانوا يأتون إلى مسرحك بدافع الفضول وليس حبًا بك أو إعجابًا بما تكتب، أجابت الفتاة البيضاء. فقال الرجل الرماديّ الشعر والوجه الممتلئ بالغضون إن كل هذا ما يطمح إليه، أن يأتي المشاهدون بدافع الفضول، لأن كل شيء في الحياة يتوقف على هذا: الفضول، ولا بأس من الاحتقار بعد ذلك، ولا بأس من الاستهزاء بعد ذلك، ولا بأس من كلام المومسات بعد ذلك، لأن كل هذا جزء من سيادة العبث، العبث عندما يصبح حياة كل يوم، الطعام والشراب والهواء والفساتين القصيرة للممثلات. لا ممثلات في مسرحياتك، قالت الفتاة البيضاء. أنت كل الممثلات بالنسبة إليّ، قال الرجل الرماديّ الشعر والوجه المليء بالغضون، ساقاك من تحت فساتينك القصيرة التراجيديا في فصلين، والكوميديا في فصلين، والقمر في فصلين. أشار إليّ، وسأل إذا ما كنت من المشاهدين أم الممثلين. لا من هؤلاء ولا من أولئك، قلت. ابتسم، وهو يدمدم أني أنا أيضًا مصنوع من فصلين، ولكن من فصلين غير موجودين، وغادر النافذة.
ابتسمت بدوري، كان كل واحد منا، أنا والرجل الرماديّ الشعر والوجه المليء بالغضون، يفكر التفكير ذاته، وكأننا كنا سياميين في رأسينا. لم تكن مقبرة القطارات ذات قيمة مطلقة لولا مسرحه المتأرجح على أكف الريح. عادت الفتاة البيضاء تسحبني من يدي كحقيبتها بعيدًا عن الطيور الغريبة الناعقة، أشارت إلى بيت حقير بعد آخر قطار محطم، هناك بيتي، قالت الفتاة البيضاء، وهي تعجل السير، وهناك يعود اطمئناني لي. وبالفعل ما أن دخلنا حتى تبدلت سيماؤها، غدت طليقة المحيا، وخفت تحمل ابنًا رضيعًا كان بانتظار أن تلقمه ثديها، وهذا ما فعلته بسعادة كل أم. بعد أن أنامت طفلها، تعرت، وعرتني، وأنا لا أعترض. كانت مهنتها في محطة الشمال، لكني كنت أريد أن أعيش الحياة تمامًا كما تعيشها عن طريق الخطأ، كانت هذه فلسفتها التي تبنيتها في اللحظة التي وافقت فيها على اللحاق بها كحقيبة، ككلب، وأنا لهذا عملت كل ما بوسعي كي أكفيها لذة، وجعلتها تشعر بمعانقتها للآلهة، كنت قادرًا على اجتراح كل ما تعجز عنه مقابل ألا يعود إليها خوفها من جديد، لأن في الخوف تدميرًا ليس فقط للذات بل وللعالم. سمعتها تهمهم، وهي تغوص في خاصرتي، إنها المرة الأولى التي تشعر فيها بكونها امرأة، قبلتني من كل مكان من جسدي مكافأة منها على رجولتي، ووعدتني ألا تخيب ظني في شيء، وأكثر من هذا أن تكون لي كلها كائنًا وكيانًا حيث سترافقني إلى عالم محطة الشمال السفلي، فللمحطة عالم سفلي مليء بما لا تصدقه عين ولا يخطر ببال.
عدنا أدراجنا، أنا والفتاة البيضاء، دون أن نقع على العربة المرفوعة على أكف الريح ولا الشجرة ذات الغصن الأوحد ولا القرصان، حتى أن تلك الطيور الغريبة التي تنعق لم نقع عليها. اجتزنا مقبرة القطارات مع شعور لدينا بعدم الموت، واستبداد الحياة. قطعنا آخر رصيف، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة ليستقبلنا الصخب في محطة الشمال، متعة الصخب، وضجيج الناس، متعة الضجيج، وحركة القطارات الذاهبة والآيبة، متعة الحركة. دفعتني الفتاة البيضاء إلى درج يهبط تحت الأرض، فرأيت في الطابق الأول السفلي هذا ما هو عجيب، رأيت طيورًا إفريقية ملونة لها ما لنا من قامات، تقف في طابور أمام المستودع على اليمين، وهي تحمل في أقفاصٍ أربابها من البشر، تودعها لدى مسئول مقابل وصل بعد أن تدفع. كانت النعامة تتصرف كامرأة، وكذلك الببغاء، والطاووس كرجل. كل هذا غريب بالفعل، لكن المحير وجود كل أولئك الناس في الأقفاص، وكلهم كانوا من عندنا. على اليسار، رأيت من وراء شبابيك الصرف الزبائن، ومن أمامها الصرافون، في ثياب براقة كثياب الملاحين الكونيين. كان الوضع معهم معكوسًا كما كان مع الطيور خارج الأقفاص، فقلت عالم محطة الشمال السفلي عالم منقلب على رأسه، أريد القول عالم انقلبت فيه الأدوار، وتلاشت الفروق بين إنسانه وحيوانه، بين إنسانه وما فوق إنسانه. واصلنا السير، أنا والفتاة البيضاء، فإذا بنا عند نهاية الممر تحت ساعة ضخمة فيها جِمال أخذت أشكال الأرقام. أبديت للفتاة البيضاء دهشتي، حتى الأرقام تبادلت الأدوار مع الحيوان في العالم السفلي لمحطة الشمال! ابتسمت الفتاة البيضاء. الغريب في عالم محطة الشمال السفلي لم يزل، قالت الفتاة البيضاء، والأمر لا يقف عند حد تبديل الأدوار. كل هذه المؤشرات تعني ذلك، قلت. تأملتها عن مقربة، فلم تكن خائفة من أن تلعب دورًا آخر غير دورها. تقدمت الفتاة البيضاء من خزانة حديدية بقدم جريئة، وفتحتها بمفتاح ذهبي كان معلقًا حول عنقها على باب في داخلها اجتزناه، فإذا بنا في عالم كل شيء فيه ضديّ: الجِمال الرقمية تركب الرجال، والسيارات الرقمية تتراجع في سيرها، هذا ما ظننته في البداية، ثم تأكد لي عكس ما ظننت عندما رأيت سائقيها يقودونها من ظهرها. وكان هناك تراجيديون رقميون كالمهرجين يُضحكون، كانوا يُضحكون البالغين ممن هم هناك، ولا يؤثرون في الصغار أقل تأثير. وكانت في العالم السفلي المتعارض لمحطة الشمال كافة الألعاب الرقمية الخطرة كضرب النار مثلاً للصغار، واللاخطرة كالكُلات للكبار. أخذنا ننتقل، أنا والفتاة البيضاء، من مكان إلى مكان، ونحن ننتظر أن نرى أكثر مما رأينا، بعد أن أعلمتني الفتاة البيضاء أن هذا العالم عالم التعارض والتبادل يتبدل كل يوم كل ساعة كل دقيقة. تفاجأنا بأقزام يصرعون مقابل لا شيء وببساطة لا تصدق عمالقة من رجال المافيا، وبنساء يدخلن إلى مكان وهن بأجمل الوجوه ليخرجن منها بأبشعها. أما أكثر ما أثار دهشتنا، أنا والفتاة البيضاء، كون الراهبات يسعين إلى العودة بنا إلى التعارض الحضاري، إلى بداية البدايات في تطورنا الطبيعي، عندما رحن يطفئن النار والدين، وهن يعطين أنفسهن عند العناق من ظهورهن. كان يتم كل شيء في الظلام الدامس للمكان وللحضارة، وأنا عندما حاولت الراهبة الحبلى معي، منعتها الفتاة البيضاء، وخلصتني من نزواتها.
أشارت الفتاة البيضاء إلى غيري من كبار رجال الأعمال والوزراء، رجال الانحطاط ووزراء الظلام، قالت الفتاة البيضاء بازدراء. كنت متفقًا معها تمامًا، ولأول مرة فهمت لماذا يحكون عن النار والنور في الكتب السماوية، قبل انطفاء العالم، والسقوط في السديم. دخلنا في ميدان سباق الجِمال الرقمية، فحملتُ واحدًا، وحملتِ الفتاة البيضاء واحدًا، وذهبنا مع عشرات غيرنا نعدو، ومكبر الصوت يشجع هذا أو ذاك منا، كانت هذه حضارة أخرى، لكنها لا تنتمي إلى العدم، إلى التخلف المطلق، ليس إلى العدم، إلى نوع من لعبة اللامعقول في عالم محطة الشمال المتعارض، ليس إلى العدم. جربنا بعد ذلك حظنا مع السيارات التي تقاد من ظهورها دون أن يؤثر ذلك في التطور، وكانت تلك تجربة من أجل التوازن في التعارض وتبادل الأدوار. لم يكن ذلك كل شيء بخصوص عالم محطة الشمال السفلي، إذ سحبتني الفتاة البيضاء من يدي كما تسحب كلبها، وذهبت بي إلى مصعد نزلنا بواسطته إلى طابقين آخرين تحت الأرض. عندما خرجنا إذا بنا وجهًا لوجه مع عشرات بل مئات وربما آلاف من الهنود الحمر، قدمتهم الفتاة البيضاء لي. هؤلاء هم الفلسطينيون، قالت الفتاة البيضاء. كانوا يشربون الجعة أو يتعاطون المخدرات أو ينفخون الأعشاب، وكانوا يقيئون في المكان الذي يجيئهم القيء فيه، ويبولون على الجدران التي يكونون قربها، وأحيانًا على رؤوس المستلقين. ابتسمت لهم، لكنهم لم يكونوا يعرفون الابتسام، حاولت التكلم معهم، لكنهم لم يكونوا يعرفون الكلام، لم يكونوا يعرفون سوى شرب الجعة وتعاطي المخدرات ونفخ الأعشاب، لم يكونوا ليروا أبعد من خط سكتهم الحديدية، خطٌ وهميّ، يمتد منذ الأزل، كالأزل. أشارت الفتاة البيضاء إلى وجوههم المصبوغة بألوان القتال، إنهم في وضع من هو في حرب دائمة، قالت الفتاة البيضاء. وضع غير معقول، ضد المعقول، ضد الوجود، ضد "ضد الضد"، كانوا جزءًا لا يتجزأ من العالم السفلي المتعارض لمحطة الشمال. سحبتني الفتاة البيضاء من يدي كما تسحب حقيبتها إلى المصعد، وأنزلتني في الطابق الوسط، طابق بين بين. أذهلني وجودي غير المتوقع قرب البحر الميت من ناحية، وجزيرة العرب من ناحية. كانت تطفو على سطح البحر الميت جثث لا تعد ولا تحصى من البُواءات، وكان يخرج من جزيرة العرب الأنبياء، فينزعون عن البُواءات جلودها ليكتبوا عليها رسائلهم المقدسة. لم يكن للبواء شيء مقدس إلا في الهند، ونحن لم نكن في الهند، كنا في بحر الموت قرب كثبان الموت والموت أبدًا لم يكن شيئًا مقدسًا إلا في الهند. كانت تلك صفة للتعارض على صفة بين أشياء عالم محطة الشمال وحالاته. اختفت الفتاة البيضاء وراء أحد الكثبان، وبعد عدة لحظات عادت، وهي ترتدي الساري الهندي، ساري بلون الرمان، وبين حاجبيها بقعة بلون الرمان، وبيدها حبة رمان فتحتها، وبدأت تأكل العقيق منها، وتطعمني، فلا ألعب دور النبي، وأتمنى ألا يمضي الوقت، وأن نبقى معلقيْن بين نابيه السامّين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
القسم الثالث
 
في محطة الشمال، كانت السماء تقوم ولا تقعد على غير عادتها، القطارات في حركة ذهاب وإياب لا تهدأ على أكف الغيم، والركاب يقومون بأفعال خيالية، كما لو كانوا من عُصبة الآلهة. للنزول إلى الرصيف، كانوا يجعلون من النجوم سلالم لهم، وللصعود إلى الغيم، من أجل أخذ هذا القطار أو ذاك، كانوا يركبون على ظهور الجياد الرقمية المجنحة. لم يكونوا على عجل دائم من أمرهم، ولم يكن سحبهم لحقائبهم أو حملهم لها يشكل عبئًا كبيرًا. كان كل شيء يتم كما يريدون، وكما يرغبون، كما يدونون في أجنداتهم. لم يعد هناك من ينتظرهم عند الوصول، مثلي تمامًا، ولا من يأتي لوداعهم، كان كل منهم المنتظر لذاته المودع لذاته، هذا لا يعني أن الوداع كالاستقبال لن يكون في مكان آخر غير محطة الشمال، مكان آخر لم يعد مهمًا جدًا أين يكون، طالما أنه سيكون، وسيكون دون أدنى شك. لهذا لم أكن وحدي المبتسم في محطة الشمال، حتى الابتسام لم يعد له ما يبرره بعد أن حلت إرادة الآلهة محل إرادة البشر، وانتهت كل الصعوبات، أسبابها خاصة، المنكدة. ابتسمتُ على مرأى امرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، ليس بسبب عسر وهمي أو خيالي، كان ابتسامي بسبب نقلها لأشيائها وحقائبها على ظهر جمل رقمي، ودون أن تطلب من أحد ذلك، حتى سيارتها. كانت لكل شيء لكل شخص إرادة الآلهة في محطة الشمال، فها هو عازف الغيتار، يتسلق طرفًا من قمر أزرق، يعزف، ويغني، صوته الملائكي يشنف الآذان، والناس في محطة الشمال تسمع، لكنه لم يكن هناك لتسمع الناس، لم يكن هناك إلا ليعزف، ويغني، كانت تلك غاية غاياته، ألا يكون هناك إلا ليعزف، ويغني. لم يكن يريد مالاً من أحد، ولم يكن أحد يفكر في إعطائه بعض المال، كان في محطة الشمال فقط ليعزف، ويغني. كان يكتفي بالعزف والغناء، ولا بأس ألا يسمع أحد، كان يكتفي بابتسامة جواد مجنح، أو عندليب يشاركه في الترنيم، أو طاووس يفرش ذيله طربًا. كان كل شيء في محطة الشمال يكون بأمر بشر إلهي، بإرادة بشر ربانية، إرادة بشر جماعية، إرادة بشر دون إرادة، لأنها عفوية وكلية. وجدتني أسير إلى جانب أم تمسك بيدها طفلة لم تتجاوز العامين أشبه بالملاك الذي كانته المتحرر من كل تاج حديديّ، وفي لحظة من اللحظات، أفلتت الصغيرة من يد أمها، وأخذت تركض كفراشة، والأم تبتسم لها غير قلقة عليها، لكن أحد الجِمال الرقمية كاد يسحقها لولا حملي لها، وإعادتها إلى أمها التي شكرتني، وابتسمت لي، وتركتها تذهب إلى أين يحلو لها، فلم يعد هناك أيُّ خطر يهدد أيًا من المسافرين. لم أفارق الأم والابنة بناظري، كانت الأم جميلة، ولم يكن ذلك لأنها كانت جميلة، بين بشر الآلهة الجمال أمر طبيعي، كان ذلك لأنها كانت أمًا، الأمومة شيء غال، والنرجس في ماء الوقت، والحب الذي يمكن أن يتحول إلى كره أحيانًا، وساعتئذ يكون الصراع، ويتحول البشر الآلهة إلى بشر من عندنا، يدمرون أنفسهم، وإن لزم الأمر يدمرون أنفسهم، ويدمرون غيرهم، يدمرون العالم لو يلزم. وهذا ما شدني إلى رجل وامرأة يبدو عليهما يأس الآلهة، ومن يقل يأس الآلهة يقل جبروتهم، وما يتبع ذلك من بطش للأقدار، التي لن يصمد أمامها ضعاف النفوس. كان كل من الرجل والمرأة يسحب حقيبتين ضخمتين دون أن يكون ذلك بذي بال، كل ما كان يرمي إليه الواحد كالآخر الانتقام، كان يبدو عليهما أنهما يحبان بعضهما البعض حبًا عظيمًا إلى حد الانتقام، لذنبٍ ارتكبه الواحد أو الآخر أو الاثنان، ذنب لا يستحق المغفرة. كان كل واحد يمر بهما من ركاب محطة الشمال يعرف ما أعرف، ويعرف أيضًا أن شيئًا رهيبًا سيقع بين لحظة وأخرى. لم تكن فائدة هناك من التدخل، كان كل شيء قد تم قبل أن يتم، وكان من الأجدى تأجيل ذلك ولو القليل، ريثما يجد العاشقان نفسيهما بعيدين عن أنظار باقي الآلهة، فللآلهة، الآلهة البشر أم الآلهة الآلهة، حياتهم الخاصة وحسهم الباطنيّ. لكن شيئًا من هذا لم يحصل بعد أن حددا النهاية التي تنتظرهما التي ينتظرانها قبل هذا الوقت بكثير. فجأة، سقطت الحجارة من بين أصابع شابين، أسود وأبيض، كانا يلعبان مع ملوك الشطرنج هناك على مقربة، فرمت المرأة حقيبتيها أرضًا، وغدت لهبًا أحرق رجلها في عدة ثوان. تم كل شيء في عدة ثوان، دون أن يكون لنا الوقت الكافي لتأمل المشهد، ولو لم تفعل هي لفعل هو، ولكانت نهايتها. هذه هي إرادة الآلهة، الآلهة البشر أم الآلهة الآلهة، عزمها، وإصرارها على الوجود، استحقاقها لتبوء العرش. بعد ذلك، سحبت المرأة حقيبتيها بكل أنفة وعظمة، ومجموعة من الشبان والشابات الحاملة على ظهرها أو الساحبة بيدها حقائبها تنحني لها إجلالاً. امتطت جوادًا رقميًا مجنحًا، وصعدت إلى حيث كانت، إلى القطار الذي جاء بها قرب راهبة حبلى على أكف الغيم. راهبة وحبلى، قالت المرأة دَهِشَةً. الملائكة تحبل أيضًا والشياطين، قالت الراهبة الحبلى قبل أن تضيف، إذا ما سمح الرب بذلك. ضحكت المرأة، يسمح أو لا يسمح، في عالم مقلوب، كل شيء جائز. زوجي هناك بانتظاري، أشارت الراهبة الحبلى إلى أحد القساوسة، فاعذريني، وذهبت ليأخذها القس بين ذراعيه بحرارة، ويطبع قبلة طويلة على ثغرها.
أول ما وضعت نجيمة السينما قدمها على الرصيف مغادرة سلم النجوم، إذا بعشرات الكاميرات تقصفها بفلاشاتها وعشرات الصحفيين والصحافيات بأسئلتهم: احكي لنا قصة تعاقدك مع شركة غومون؟ لماذا أعجبك السيناريو؟ لماذا تم اختيارك بين عشرات الممثلات المعروفات؟ لماذا كل هذا الاهتمام المفاجئ بك؟ متى سيبدأ الكاستنغ؟ متى ستبدأ البروفات؟ متى سيبدأ التصوير؟ من سيلعب الدور الأول إلى جانبك؟ من سيلعب الدور الثاني؟ من النساء؟ من الرحال؟ هل كانت لديك شروط معينة بخصوص الدور الأول الرجالي؟ أسود؟ أبيض؟ أحمر؟ أسمر؟ أصفر؟ جن جنونها، فبدأت تصرخ، وهي تبعدهم، فكل هذا لم يحصل، عقد، وسيناريو، ودور أول، ودور ثان، ودور ثالث، إلى أن ظهر المنتج الذي عزمت على عدم النوم معه، وهو يحمل العقد بيده. جذبها من ذراعها، وهو يهمس في أذنها، سأشرح لك فيما بعد. قدم لها قلمًا أمام كل كاميرات الدنيا، وقال لها وقعي، انحنت لتوقع، وفستانها يكشف عن أروع نهدين، بينما المنتج يذوب بهما رغبة.
أنا أحمل ماما، يا ماما، قال صبي سمين جدًا لأمه، وهو ينطنط كالطابة. أنت تحمل ماما، يا حبيبي؟ قالت الأم. أنا أحمل ماما، يا ماما، قال الصبي، وهو لا يتوقف عن النطنطة. كان يبدو خفيفًا كطابة. لا، أنا أحملك، يا حبيبي، قالت الأم. لا، أنا أحمل ماما، يا ماما، قال الصبي. لا، أنا ثقيلة عليك، يا حبيبي. لا، أنت لست ثقيلة عليّ، يا ماما. لا، أنا خائفة عليك، يا حبيبي. لا، أنت لست خائفة عليّ، يا ماما. لا، أنا خائفة عليك، خائفة عليك كثيرًا، يا حبيبي. لا، أنت لست خائفة عليّ، لست خائفة عليّ كثيرًا، يا ماما. لا، أنا خائفة عليك، أنا ثقيلة عليك، يا حبيبي. لا، أنت لست خائفة عليّ، أنت لست ثقيلة عليّ، يا ماما. لا، أنا خائفة عليك، أنا ثقيلة عليك، وكبيرة عليك، يا حبيبي. لا، أنت لست خائفة عليّ، أنت لست ثقيلة عليّ، وكبيرة عليّ، يا ماما. لا، أنا خائفة عليك، وثقيلة عليك، وكبيرة عليك، كبيرة عليك، يا حبيبي. لا، أنت لست خائفة عليّ، وثقيلة عليّ، وكبيرة عليّ، كبيرة عليّ، يا ماما. ورفعها، فإذا بها ترتفع كالبالون بين ذراعيه، وتأخذ بالقهقهة.
كما قلت منذ قليل لم يكن أحد بانتظار أحد، الانتظار في محطة الشمال غدا ذكرى من الذكريات، القطارات معلقة في السماء، وكذلك الأرصفة، لكنني لاحظت أحد وكلاء الفنادق ينتظر، كما لو كان يعيش دومًا في الماضي، قطارًا أبدًا لن يأتي. وأنا أتقدم منه، رفع الوكيل لوحته المكتوب عليها اسم نزيل في وجهي، وسألني إذا ما كنت هذا النزيل، وأمام ابتسامتي الساخرة المرسومة على ثغري، قال إنه هنا منذ ساعات، ولا من قطار قادم. أخذ ينادي، وينادي، وينادي، وصوته يبدو كصوت إنسان يأتي من زمان آخر. تأملت وجهه، ووجهه يبدو كوجه إنسان يأتي من مكان آخر. كانت الجياد الرقمية المجنحة تملأ سماء محطة الشمال، وهو لم يكن يلاحظ أيًا منها. أردت أن أشرح له، لكن الأحمق لن يفهم، سيظل الأحمق أحمق، سيظل يحيا في زمن آخر، زمنه القديم، سيظل عبدًا لزمن آخر، زمن مضى، ولن يقدر على التحرر مما هو فيه، حتى بتدخل خارجي، تدخلي. تركته ينادي إلى أن بُح صوته، ولم أعد أسمع أي صدى من أصداء الماضي، كان كل الحاضر الآن يفرض على الواقع حضوره. رفعت رأسي إلى أعلى، فرأيت شابًا يرتدي بذلة سوداء مخططة، ويضع على رأسه قبعة سوداء حريرية، الوحيد الذي ينزل من القطار، ويركض على الرصيف، يرفع ذراعيه، ويركض على الرصيف، ويحرك ذراعيه، ويركض على الرصيف، ويقف فجأة، يلتفت، ثم يلتفت، يرفع ذراعيه، ويركض على الرصيف، ولا أحد هناك لاستقباله.
في محطة الشمال، لم يعد البشر الآلهة بحاجة إلى الكلام الكثير، كانت إشارة من الرأس ومن اليد تكفي، وبعض الكلام الوجيز. لم يعد هناك مكبر صوت يمارس الإرهاب على المسافرين، فلا أحد منهم بحاجة إلى معرفة ساعة وصول هذا القطار ومغادرة ذاك، كان كل شيء للآلهة من البشر معروفًا، وهم ليسوا بحاجة إلى وسيط أيًا كان، كانوا وسطاء أنفسهم إلى العالم وإلى ما في العالم من أشياء. والحال هذه، رأيت فتى وفتاة جالسين حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، وهما لا ينطقان بكلمة، كانا يتبسمان لبعضهما، وفقط. وهناك ليس بعيدًا منهما كان طبيب الأسنان قد وجد كل الوقت للاعتناء بأسنانه، فلم يكن لديه أي زبون، وكذلك حال الكاتب، وقد أخذ من عظيم الفراغ يقص صفحاته، فتنبثق منها الصور والشخصيات، وتتركه هاربة. وعن سمك القرش، كانت قد نبتت له أجنحة كالجياد، وعندما كان أحدهم يحتاج إليه، ينقله بين أسنانه دون أن يؤذيه، حتى سمك القرش قد حبا نفسه بخصال الآلهة. كان الفتى والفتاة يتبسمان لبعضهما، يتبسمان لبعضهما، يتبسمان لبعضهما إلى ما لا نهاية، ولم يكن يبدو عليهما أنهما سيأخذان القطار، كانا هناك لأنهما يريدان التبسم لبعضهما، وفقط. وصلتني ضربات على البيانو، كان شوبان، وكان الفتى والفتاة يتبسمان لبعضهما، وشوبان هناك لأنهما كانا يتبسمان لبعضهما، كل هذه الضربات الرقيقة على البيانو لأنهما يتبسمان لبعضهما، وليس لأنهما في محطة الشمال، أو لأنهما سيفترقان. أخذت الفتاة جرعة من قهوتها، وعادت إلى التبسم، وكذلك فعل الفتى، أخذ جرعة من الكوكاكولا، وعاد إلى التبسم. ربما لم يكونا من البشر الآلهة، لكنهما كانا يحسنان التبسم، وكان هذا شيئًا عظيمًا.
جاءت فتاتان، وكل منهما تسحب حقيبة، وأخذتا مكانًا قرب الشابين العاشقين. طلبتا قهوة، وأمسكت الواحدة بيد الأخرى، قبلت إحداهما الأخرى من فمها، دفعتا، ثم نهضتا. كان هناك جواد رقمي مجنح بانتظارهما، وما هي سوى عدة ثوان حتى غادرتا المكان إلى قطار يقف على أكف الغيم. جاء أحد لاعبي الرُّغبي مباشرة صوبي، وسألني إذا كنت أرغب في اللعب معه، لم أكن أرغب، وقلت أرغب. كانت الحركة في محطة الشمال فوق، وتحت كانت المحطة شبه فارغة. لعبنا حتى مللنا، بعد ذلك ودعني لاعب الرُّغبي، وشكرني على لطفي. جاء رجال المطافئ، ونظروا هنا وهناك، ثم ما لبثوا أن غادروا المكان. رفعت رأسي إلى أعلى، فرأيت عربات حمل الحقائب بالمقلوب بينما يقودها صاحبها دون خوف من أن يصطدم بأحد، وعند سماعي لصفارة المراقب، رأيت القطار بالمقلوب، وكل الناس الذين كانوا على رصيف الغيم، صعدوا كلهم ما عدا شيخ عجوز لعجزه على الصعود، مما جعل القطار يتأخر عن الإقلاع حتى ساعده الناس على الركوب، وهم يحملون حقيبته. وبلمح البصر، بعد ذلك، غادر القطار على خطوط الغيم.
هنا تحت، دفع شاب من أمامه عربة جده المُقعد، وهو يقول له إنهما سيسافران معًا، وإنه سعيد لأنهما سيسافران معًا. وأنا أيضًا سعيد، يا جان، قال الجد. ستكون مفاجأة لها، قال الشاب. لأمك؟ سأل الجد. ستكون مفاجأة لها، قال الشاب. نعم، ستكون مفاجأة لها، قال الجد. لم أرها منذ مدة طويلة، قال الشاب. نعم، منذ مدة طويلة، قال الجد، منذ أن ماتت. منذ أن ماتت أمي لم أرها، قال الشاب. نعم، منذ أن ماتت، قال الجد، منذ مدة طويلة. لم أرها منذ مدة طويلة، قال الشاب، منذ أن ماتت، وستكون مفاجأة لها. نعم، ستكون مفاجأة لها، قال الجد، المسكينة، ستكون مفاجأة لها... ولم أعد أسمع ما يقولان. وهناك، لا أحد من أمام شبابيك بيع التذاكر، كان الكل يشتري تذكرته على إنترنت، فلم يعد بالركاب حاجة إلى عمل صف طويل يدوم ساعات، حتى أن البعض كان يشتري تذكرته على ظهر القطار، إذا وجد على ظهر القطار مكانًا، من أحد المراقبين الذين ينقلون في جيوبهم شبابيك بيع التذاكر الإلكترونية. رحلة على ظهر الغيم، قرأت بخط عريض، السماء ملك للجميع. هذا هو عالم الآلهة الجدد، همهمت. وعلى مقربة ليست بعيدة، كانت ماكينات تبديل النقود، ولم يعد أحد بحاجة إلى تبديل نقوده بعد أن توحدت العملة في كل أوروبا. جاء عمال برافعاتهم، واقتلعوها من جذورها تحت حراسة شرطيين، وذهبوا، بينما أخذ متسولان أحدهما شريف والآخر غشاش بالبكاء.
  البكاء لا ينفع شيئًا في عالم البشر الآلهة، قلت، وأنا أرفع رأسي إلى إعلان عملاق لفتاة يطير شعرها وفستانها بالمقلوب، فمحطة الشمال الحقيقية فوق، والناس فوق يقفون بالمقلوب، ينظرون إلى تحت. لم يكن يهمني أي إعلان كان، كانت الفتاة كل ما يهمني، شعرها المتطاير وفستانها الكاشف عن ساقيها. حتى الآلهة يحبون السيقان العارية! هل سيقان المرأة هي التي خلقت الآلهة أم الآلهة هم الذين خلقوا سيقان المرأة؟ لو كنت إلهًا يختار خالقه لاخترت سيقان المرأة. كانت مواعيد القطارات تتلاحق على لوحة بالمقلوب إلى جانب صورة الفتاة المتطايرة الشعر والفستان، وكانت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت لوحة القطارات بالمقلوب، وتنظر إليّ، وتضحك عليّ. إنجليزيات. إنجليزيات قمريات سفيهات ينظرن إليّ بالمقلوب، ويضحكن عليّ، لأني أميل برأسي كي أرى البنطال القصير للفتاة التي يتطاير فستانها دون أن أتمكن من ذلك، فكل شيء فوق بالمقلوب، كل شيء فوقَ أكفِّ الغيم بالمقلوب. أخذت الإنجليزيات يشرن إليّ بالصعود، بالذهاب معهن إلى لندن لو أريد، لكني كنت في محطة الشمال كآخر محطة، فلنقل حتى الوقت الحاضر، آخر محطة حتى الوقت الحاضر، كانت الفتيات السفيهات يشرن إليّ بالصعود، وهن بالمقلوب دون أن تكشف فساتينهن عن سيقانهن، سيقان النساء هي الخالقة للآلهة، وأنا لعجزي عرفت أني لست إلهًا من صنع سيقان النساء.
أمسكني أحدهم من رأسي، ورفعه إلى ناحية في السماء فيها هرم رأسه إلينا، وعلى بابه رجل يبكي دون أن يكون الألم سببًا. كان تنين يمزق صدره دون أن يمكنه الإجهاز عليه على الرغم من إنجاز الرجل لمكان موته. كان يبكي لأنه أنجز بناء قبره، ولم يكن يمكنه الموت. كان التنين يسعى إلى عونه على الموت، وفي السماء، لا يوجد موت في السماء، يوجد الموت على الأرض.
أنا سأموت على الأرض، على رصيف في محطة، كي أداوم على سماع الأحياء. سمعت شابًا أحمر البشرة يسأل موظفًا في المحطة عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى فوق، وقال على الشاب أن يمتطي جوادًا رقميًا مجنحًا. وهو يبحث عن جواد رقميّ مجنح، اعترضته فتاة حمراء، وسحبته من ذراعه إلى رصيف أرضي فارغ من البشر. تركته ينتظر القطار هناك، قطار لن يجيء أبدًا، وجاءتني، وهي تبتسم لي. ابتسمت لها، لابنة الخديعة، وأنا أقول لنفسي خديعة المرأة سماوية، لها غاية سامية. أعرف لماذا فعلتِ هذا؟ قلت للفتاة الحمراء. أما هو، فلا يعرف، قالت الفتاة الحمراء. سيعرف عندما يدرك أن القطار لن يقلع أبدًا، قلت للفتاة الحمراء. عند ذلك ستكون كل القطارات الأخرى قد غادرت محطة الشمال، قالت الفتاة الحمراء، وستكون الصدمة. أنا هنا لأصدم، وأهدم، وأقطع كل صلة بالعالم القديم. أنا هنا لأعذب لو يلزم، ليعرف الناس أننا لسنا كلنا ملائكة، أضافت الفتاة الحمراء. لسنا كلنا آلهة، قلت للفتاة الحمراء مصححًا. تعلقت الفتاة الحمراء بكتفي، وطبعت على خدي قبلة. رافقني أرفق بك، سألتني الفتاة الحمراء. ودون أن تنتظر مني جوابًا، سحبتني الفتاة الحمراء من يدي كما تسحب حقيبتها، وذهبت بي على آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي لمكان بدا منقطعًا عن عالمي المحطة القديم والجديد، مكان منسيّ. كان هناك مركز للشرطة مفتوح لا أحد فيه، ومكاتب متفرقة، مفتوحة، لا أحد فيها، كانت تبدو مهجورة، لا فائدة من وجودها. داومت الفتاة الحمراء على سحبي، وكأنني حقيبتها أو كلبها، إلى أن دخلنا منطقة تتقاطع فيها خطوط السكة الحديدية كخطوط اليد، القطارات المحطمة والصدئة فيها كثيرة، قالت الفتاة الحمراء عنها المقبرة القديمة للقطارات. والجديدة؟ سألت. أشارت إلى فوق. وفي اللحظة ذاتها، انبثقت من بعيد سفينة تبحر على ارتفاع عدة أمتار من خطوط السكة الحديدية، توقفت عند مستوى رأسينا، وما لبث أن أطل منها قرصان يضع على عينه عُصابة. قال إنه أعمى، لا يرى شيئًا، ومع ذلك، رفع العُصابة، وأخذ يجول بعين جفنها مغلق في كل الأنحاء. هل هذه محطة الشمال؟ سأل القرصان. أكدت الفتاة الحمراء أنها محطة الشمال، هنا المقبرة، أضافت محددة، وهناك المحطة. أطلق القرصان ضحكة مجلجلة، ونادى على خادمه، وهو يقول إنها المرة الأولى التي لم يخطئ في قيادة السفينة رغم فقدانه لبصره، وإن إبحاره لم يذهب سدى. أطل الخادم، وهو يحمل حبلاً طويلاً لفه حول رقبة القرصان، وجذبه منه، فسقط هذا أرضًا، لكنه نهض كالجني بعد ضَرْبِ خادمه له عدة ضربات بالسوط، وأَمْرِهِ إياه بحمل حقائب أربع كانت هناك، ونفذ ما أُمر به في الحال ليتفادى لسعة السوط. تعثر لعماه، فقاده الخادم بالحبل، إلى أن حطا أرضًا. لم تكن الفتاة الحمراء راضية عما يجري، خاصة وأن الخادم لم يتوقف لحظة واحدة عن لسع سيده بسبب أو بغير سبب. غدا لونها الأحمر ناريًا، غدت الشر، إلهة للشر غدت، وأنا لهذا وقعت في أحابيلها، وتركتها تفعل ما تشاء بالضرير وخادمه المتجبر. دفعت الفتاة الحمراء عربة قطار توقفت السفينة على جناحها، وأسقطت السفينة على رأسيهما. تخلصنا منهما، قالت الفتاة الحمراء، وهي تنفض الغبار عن يديها، وسحبتني إلى شجرة لم يبق منها سوى جذعها.  
خرج من تحت قاطرة قطار محطم توأمان سياميان برأسين وذراعين وساقين وبطن واحد، فكأنهما مخلوق تحت أرضي مثير للقرف والاشمئزاز. ما أن وقعا على الفتاة الحمراء حتى سألاها إذا ما أحضرت لهما الحبل المتين الذي طلباه منها. أجابت بالإيجاب، وهي تقدم لهما بلطة فهمت في الحال مغزاها، فعبدت إلهة الشر التي كانت، واختلجت كل أعضائي اغتباطًا. ولكن هذه بلطة وليست حبلاً، قال التوأمان السياميان، نحن نريد حبلاً، حبلاً، لنشنق نفسينا، نريد حبلاً نربط به عنقنا هكذا هكذا وليس بلطة. أشارت الفتاة الحمراء إلى الجذع، لم تعد الشجرة شجرة، قالت الفتاة الحمراء. لم يفهم التوأمان السياميان كلامها، فتركتهما، وهي تسحبني من يدي ككلبها. لم يفهما، ولكنهما سيفهمان، قالت الفتاة الحمراء. هل تريدينني أن أفهمهما على طريقتي، سألتُ واغتباطي يصل إلى حد متعة الجماع. إذا اضطررنا إلى ذلك، تركتك تفعل، قالت الفتاة الحمراء.  
قطعنا أنا والفتاة الحمراء المقبرة إلى جهة أشعلت فيها نارًا، وما هي سوى عدة دقائق حتى برز من اللهب رجل رماديّ الشعر ذو وجه تملأه الغضون، ركضت الفتاة الحمراء إليه، وعانقته بشوق، والرجل ينظر إليّ، وبيده يداعب نهدي الفتاة الحمراء وإليتيها. خاطبته الفتاة الحمراء بيا أبي، وخاطبها الرجل الرمادي الشعر ذو الوجه المليء بالغضون بيا ابنتي. سألها إذا ما كنت عشيقها الأخير، فقالت إنني لست بعد عشيقها. إياك أن تجعلي من النار مسكنه، يا ابنتي، قال الأب. النار مسكنك أنت، يا أبي، قالت الابنة. تعالي، يا ابنتي، قال الأب. جذبها من ذراعها، وهي تنظر إليّ راجية إياي بعينيها ألا أبالي، دخل معها النار، وضاجعها. بعد قليل، خرجت الفتاة الحمراء وحدها، وهي تتوهج بالشر والشرر، وأنا أشتهيها كجهنم. أردت أخذها كما أخذها أبوها، فأوقفتني. لنذهب إلى مسكني، قالت الفتاة الحمراء، هناك لا توجد ملائكة من حولنا. وهل بقي من الملائكة شيء؟ سألتها. بقي. ماذا؟ وَدْفُ أبي. عادت تسحبني ككلبها إلى قصر مبني من القطارات القديمة، أرضعت ولدًا كان لها في التاسعة عشرة، وصرفته، ثم اشتعلت جنسًا وجهنم في حضني وهمجية وشيطانية. بقيت أضاجعها طوال تسعة وتسعين عامًا، هكذا خيل لي. في الصباح، قالت إنها سترافقني إلى عالم محطة الشمال السفلي، فالعلوي المعلق على أكف الغيم الكل يعرفه، أما السفلي فللاكتشاف حالاً.
عدنا أدراجنا والنار التي أشعلتها الفتاة الحمراء تتأجج دون انقطاع والجذع الذي فصم التوأمان السياميان عليه رأسيهما يغرق في الدم والسفينة التي سقطت على صاحبيها تغوص بنصفها بين القضبان. كانت هناك بعض الطيور الغريبة التي لا تتحرك، وكأنها صنعت من شمع، وكان الوقت منتشرًا هنا وهناك انتشار خطوط السكة الحديدية الصدئة. قطعنا آخر رصيف، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة لتستقبلنا سماء محطة الشمال مقلوبة، كان العالم كله مقلوبًا، لكنه كان العالم. دفعتني الفتاة الحمراء إلى درج يهبط تحت الأرض، فرأيت في الطابق الأول السفلي طيورًا إفريقية ملونة عملاقة تتسلى بنقر أربابها من البشر، أمام المستودع على اليمين، وكأن ذلك شرط إيداعها في أقفاص إلى حين استردادها، ممن؟ سألت. مني، أجابت الفتاة الحمراء، وهي تداعب بيدها عنق نعامة. جاءت ببغاء، واحتضنت الفتاة الحمراء، وكذلك فعل طاووس بدا عاشقًا لها، فأثار غيرتي. كل هذا لم يكن غريبًا والحال تلك. على اليسار، رأيت عددًا من رجال الفضاء أمام شبابيك الصرف، كائنات أشبه بسكان المريخ، ومن الناحية الثانية للشبابيك كان الصرافون، في ثياب الملاحين الكونيين. ذكرتني الفتاة الحمراء أن عملتنا لا تشمل سكان الفضاء، لهذا أبقوا على هذه المكاتب مفتوحة بعد أن اقتلعوا آلات الصرف، فمحطة الشمال العليا تستقبل اليوم الكثير من سكان الكواكب الأخرى. أصدقاؤك الطيور لا ينقرون إلا البشر كما أرى، قلت للفتاة الحمراء. لم يتعود أصدقائي الطيور بعد على لحم هؤلاء، علقت الفتاة الحمراء، وهي تشير إلى رجال الفضاء. كنا قد وصلنا إلى نهاية الممر تحت ساعة ضخمة فيها فيلة على أشكال الأرقام. لم أبد للفتاة الحمراء دهشتي، وكل الكائنات الرقمية المنتشرة اليوم في محطة الشمال. أما تحت، فدهشتك ستكون أكبر من كبيرة، قالت الفتاة الحمراء، وهي تتقدم من خزانة حديدية فتحتها بمفتاح كان تحت ممسحة الأرجل على بابٍ في داخلها أدخلتني منه أولاً كي تعيد غلق الخزانة من ورائها. وكانت الدهشة بالفعل أكبر من كبيرة، فالفيلة الضخمة الثقيلة الوزن ترتفع عن الأرض محلقة، وصهاريج البترول الضخمة ترتفع عن الأرض محلقة، وبواخر الرحلات البحرية ترتفع عن الأرض محلقة، والأغرب من كل هذا ما رأيته من تماسيح عملاقة ترتفع عن الأرض محلقة، وكلاب عملاقة ترتفع عن الأرض محلقة، وديوك عملاقة، وأرانب عملاقة، وفئران عملاقة، وسحالي عملاقة، وصراصير عملاقة، ونمل عملاق، و... و... و... كلها ترتفع عن الأرض محلقة كأنها بالونات منفوخة، ومتروكة هناك بين الأرض والسماء. من الناحية الأخرى وجدنا ناطحات سحاب ترتفع عن الأرض محلقة، وجبال جليد ترتفع عن الأرض محلقة، وجزرًا بأكملها ترتفع عن الأرض محلقة، و... و... و... هذا وألقينا نظرة عاجلة على قطوف العنب أو البلح العملاقة المحلقة، وحبات الأجاص، والبصل، والباذنجان، واللوبياء، إلى آخره، إلى آخره... تفاجأنا بأقزام عمالقة، كلهم مافيا، الدم يشربونه كالماء، وبنساء عملاقات يبترن كل عضو في أجسادهن يردن تبديله، أما أكثر ما أثار دهشتنا أنا والفتاة الحمراء دهشتنا الأكثر كون الراهبات يسعين إلى تطهير كل مومسات باريس كي يجعلن منهن بناتٍ للرب صالحات. كانت المومسات عندهن بالآلاف، من كل الأجناس، وكانت فضيلة الفضائل بالنسبة لهن هذا التعدد العرقي والثقافي، وهدفهن التوصل إلى إنشاء سوربون جديدة، سوربون عملاقة في رؤيتها المتعددة وفلسفتها المتغربة. 
أشارت الفتاة الحمراء إلى كبار رجال الأعمال والوزراء، رجال الجهالة والبهيمية ووزراء الكره والعنصرية، قالت الفتاة الحمراء، وهي تتلظى كالحمم. يعملون كل ما في وسعهم لإفشال مشروع الراهبات الديني الثقافي الإنساني الراقي، وإبقاء الباب بين فخذي النساء مفتوحًا. كانت الراهبة الحبلى فريستهم، ربما لا، فهي قد أخذتهم كلهم بين فخذيها كما لو كانوا شخصًا واحدًا. رحنا أنا والفتاة الحمراء نلاعب الفيلة المحلقة في الأجواء ونلعب بها ونحن نضربها كالبالونات والفيلة تطلق صيحات الجذل، وذهبنا مع عشرات غيرنا نصعد على سطوح ناطحات السحاب لنرى كل العالم حتى نيويورك حتى نيودلهي حتى بيكين حتى مكسيكو حتى هافانا حتى هونولولو. جربنا بعد ذلك حظنا مع سباق صهاريج البترول، فانفجر أحدها، لكن شفاطات عملاقة شفطت كل شيء. لم يكن ذلك كل شيء بخصوص عالم محطة الشمال السفلي، إذ سحبتني الفتاة الحمراء من يدي كما تسحب حقيبتها، وذهبت بي إلى مصعد نزلنا بواسطته إلى طابقين آخرين تحت الأرض. عند خروجنا إذا بنا وجهًا لوجه مع عشرات بل مئات وربما آلاف من الهامات، مصاصي الدماء. اجتمع بعضهم ضدي لست أدري لماذا، ربما لملوحة دمي، فأصلتهم الفتاة الحمراء بنار من جهنم، وعلمت بهم غيرهم. كانوا يتعانقون عناق الدمويين عندما لا يجدون دمًا آدميًا يلعقونه، وهم بالمناسبة أقاموا للفتاة الحمراء حفلاً طنانًا تعاطوا فيه كل أنواع المخدرات والكحول. وعند آخر الليل، أحضروا بعض الحيوانات العملاقة، ومصوا دمها، ثم هدأوا، رأيتهم ينامون، وعيونهم مفتوحة.
سحبتني الفتاة الحمراء من يدي كما تسحب كلبها إلى المصعد، وأنزلتني في الطابق الوسط، طابق بين بين. كانت شعوب لا أصل لها ولا فصل تنهض من سباتها الطويل، وتهدم كل شيء. بهمجية كانت تهدم كل شيء، ولكن بجمالية بودلير وهيغل وماركيز. بهمجية. وبظمأ الهامات إلى الدم. إلى الحرية. إلى الضوء. بهمجية النيل، ووحشية الفرات ودجلة. شاركتهم الفتاة الحمراء في الهدم، وأبدًا في التعمير. قالت عن التعمير ليس من مهماتها، وأنا مثلها قلت عن التعمير ليس من مهماتي، وكنت ثملاً على مناظر الهدم والتدمير والتغيير، كنت أشعر بأسعد لحظة في حياتي. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
القسم الرابع
 
في محطة الشمال، لم يكن هناك وقت للضياع، وكل شخص هناك لسبب، وأهم الأسباب الرحيل أو الوصول. كانت القطارات لا تتوقف عن الدوران في كلا الاتجاهين، والركاب يمارسون ما غدا طقسًا لديهم ألا وهو الصعود إلى هذا القطار أو ذاك والنزول من هذا القطار أو ذاك، وكانوا على عجل دائم، شيء طبيعي أن يكونوا على عجل دائم والمكان محطة، أخيرة لبعضهم، وما قبل أخيرة لبعضهم. كانوا كلهم يتشابهون، في شكلهم، في مشيتهم، في فعلهم، فعل مرتهن بسحب الحقيبة أو حملها، وكانوا كلهم لا يبالون ببعضهم البعض، ودافع ذلك كان المؤقت الذي يسيّرهم، كانوا في محطة الشمال لبعض الوقت، كانوا هناك مؤقتًا، وما كانت محطة الشمال سوى موقف للقطارات وللحياة بانتظار التحرك والتصرف والعبور إلى "أشغالنا". كل شيء كان يبدأ في محطة الشمال، لم يكن من الضروري أن نعرف ذلك، لكننا كنا نعيش ذلك دون أن نعرف، يكفي أن تنظر إلى الناس في حركتهم وسلوكهم، كان لكل منهم مشروع يبدأ هناك أو ينتهي، مشروع يمس الجوهر، جوهر الذات كجوهر الحياة، لهذا كان كل وجودنا يتوقف على حركة نقوم بها في محطة الشمال أو إشارة، على قرار نقطعه، على علاقة نقيمها أو ننهيها، على رأي نقره، كانت محطة الشمال فضاء كل مصائرنا، لهذا عزمت على المساهمة في الدفاع عن هذه المصائر، بتواضع، وبالقدر الذي أستطيع عليه، أن أجيب بشكل من الأشكال على ما ينتظره الناس مني، ليس كلهم، فأنا لست إلهًا، بعضهم، فقط بعضهم، من يقع عليهم اختياري، فالأمر لن يكون بدافع الصدفة، لأن الصدفة لا قدر لها، ولأني أرمي إلى عقلنة ما يدعى بالعبث في هذا العالم، إلى إثبات أن العبث من صنع يدينا، هناك مفارقات، لكن المفارقات ليست العبث.
ابتسمت لامرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، ولا تعرف كيف تتدبر أمر نقلها. اقتربت منها، لم يكن يبدو عليها أنها تفاجأت باقترابي منها. لا حقائب لديّ، قلت لها. أرى ذلك، قالت لي. كانت حقائبها من الثقل بحيث صعب عليّ تحريكها، فالتفت من حولي لأقع على عازف غيتار شاب قوي البنية. كان يعزف ويغني دون أن ينظر إلى أحد، كان يغمض عينيه، ويعزف، ويغني. ناديته، فتوقف عن العزف والغناء، ونظر باتجاهي. أشرت إليه بالمجيء، فجاء. وضعت في يده ورقة نقد كبيرة، ففتح عليها عينيه ذاهلاً. احمل هذا إلى التاكسي، قلت للمغني. إلى التاكسي، أليس كذلك؟ سألتُ المرأة. نعم، إلى التاكسي، أجابت المرأة. لن أرفع عيني عن غيتارك، قلت للمغني. نظر إلى غيتاره، ونظر إلى الورقة النقدية، ودون تردد وضع الورقة النقدية في جيبه، وحمل الحقائب. تركته يبتعد مع المرأة، ووجدتني وجهًا لوجه مع أم بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين. كانت الطفلة شبه غائبة عن الوعي، بسبب القطار، قالت الأم، ابنتي لا تحتمل السفر في القطار. أخذت أبحث في جيبي عن قطعة سكر لم أذبها في قهوتي، وأنا في مطعم القطار، وكأن الأم فهمت. تبحث عن حبة سكر، أليس كذلك؟ سألتني الأم. أخرجت قطعة السكر، وأنا أقول ها هي. قبل أن تتناولها الأم، مزقت غلافها، كانت القطعة قطعتين، أعطيتها واحدة، ولكلب كان يمر في تلك اللحظة أعطيت الأخرى. شكرتني الأم، واختفت. كنت سعيدًا لأنني قدمت ما كنت أستطيع عليه من عون. وبينما كنت أتقدم مع القادمين، تعثرت بالكلب الذي أطعمته قطعة السكر ميتًا. جن جنوني، وأنا أبحث عن الأم وابنتها، كانتا قد اختفيتا. وعلى العكس، وقعت على المرأة صاحبة الحقائب التي أوصيت بها عازف الغيتار. ذاب عازف الغيتار مع الحقائب كالملح في الماء، قالت لي، وهي تنشج. عدت بسرعة إلى حيث ترك العازف غيتاره، فلم يكن هناك غيتاره. وأنا أدور برأسي، لفت انتباهي رجل وامرأة شديدا التجهم، ففهمت أنهما في وضع على وشك التفجر. التقطت أحد الملاكمين، وطلبت منه أن يقول للمرأة كلمات تسليها، إذ لديها مشكل، وهي ستكون لطيفة معه، وغمزته، فانفجر الملاكم ضاحكًا. ذهب إليها بعضلاته المفتولة، وأخذ يرقّصها لها، فابتسمت، وبعد عدة خطوات راح عنها تجهمها. سحب الملاكم حقيبتيها عنها، وتمكن بعضلاته وحديثة أن ينسيها شجنها. اندمجت معه، وتعلقت على ذراعه، ونسيت رجلها والعالم. لم يتابع رجلها ما حصل لامرأته حتى النهاية، بسبب مجموعة صاخبة من الشبان والشابات أخفتها عنه. وهو على مقربة من شابين، أسود وأبيض، يلعبان الشطرنج في حضرة الملوك، أخرج من جيبه مسدسًا، وضعه في رأسه، وأطلق، فسقط برأسه على رقعة الشطرنج، في الوقت الذي قال فيه أحد الشابين "الشاه مات!" الشاه مات؟ ليس تمامًا. تعثرت براهبة حبلى جاءها المخاض، أو هذا ما ظننته لما رأيتها على الأرض جاثمةً وسط القادمين، وهي تصرخ، وتشد بطنها بكلتا يديها. لم أكن طبيبًا ولا ممرضًا، ولم أكن أفهم في أشياء النساء هذه، الولادة ليست من اختصاصي، الولادة عبث الحياة، وعلى الخصوص عندما تأتي في الوقت غير المناسب والمكان غير المناسب. وعلى أي حال كان عليّ أن أفعل شيئًا من أجلها، إذا ما تعقدت الأمور فقدت ابنها أو فقدها العالم هي وابنها. بشر أقل هذا شيء حسن، قلت لنفسي، لكنني وجدتني أحملها، وأركض بها، فهي حبلى، وهي راهبة، وهي على وشك الولادة. وضعتها على مقعد، وذهبت أركض في طلب الإسعاف الذي لم أجده. بعد قليل، عدت مع منظفة المراحيض، قالت إنها لا تعرف شيئًا عن التوليد، لكنني لم أجد الراهبة الحبلى، ووجدت نجيمة سينما تبكي، وَطُنٌّ من الكحل يسيل من عينيها. ظننتها تبكي لمصاب، كانت تبكي، وتحدث نفسها قائلة: بعد أن تركتني لن أغادر محطة الشمال، اليوم وصلت، ومنذ اليوم سأبقى، سأعيش هنا، سأموت هنا، سأجعل من كل العشاق الراحلين عشاقي، سأبكي مع كل المخدوعات، سأحب كل مراقبي التذاكر، سأنام مع كل سائقي القطارات، سأجعل من كؤوس القهوة الكرتون التي يرميها المسافرون فراشي ووسادتي، سأحلم بخطوط السكة الحديدية، سأغني مع الساعات، سأرقص مع الإشارات، سألوّح بيدي للقطارات، سأطرد الحمام لئلا أكنس من ورائه، سأحمل الحقائب لئلا يبدل الراحلون رأيهم ويعودون أدراجهم قرب حبيباتهم اللواتي كانوا يزمعون على تركهن، سأراسل كل العاشقات التعيسات مثلي وأحكي لهن عنك كي يبكينني، آه يا حبي الغادر، يا حبي المغادر، يا حب السكة الحديدية... أردتُ بها رأفة، فجمعتها بين ذراعيّ ودًا وتحنانًا، فإذا بي أسمع أحدهم يجلس من وراء الكاميرا، وهو يصرخ بعصبية: اقطع...
لماذا تجعل ماما تبكي، يا حبيبي؟ ضم صبي سمين جدًا أمه بعد أن رمى الحقيبة الصغيرة جدًا التي يحملها على الأرض، وراح يبكي. لا تبكي، يا ماما، قال الصبي. لا تبكي، أنت، يا حبيبي، قالت الأم. أنا أبكي لأنك تبكين، يا ماما، قال الصبي. أنا أبكي لأنك تبكي، يا حبيبي، قالت الأم. توقفي عن البكاء، يا ماما. توقف عن البكاء، يا حبيبي. أتوقف عن البكاء إذا توقفتِ عن البكاء، يا ماما. أتوقف عن البكاء إذا توقفتَ عن البكاء أنتَ، يا حبيبي. توقفي عن البكاء أنت أولاً، يا ماما. توقف عن البكاء أنت أولاً، يا حبيبي. توقفي عن البكاء أنت أولاً، فأتوقف عن البكاء، يا ماما. توقف عن  البكاء أنت أولاً، فأتوقف عن البكاء، يا حبيبي. توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما. توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي. توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما. توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي. توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما. توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي. توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما. توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي. اقتربتُ منهما كي أقدم يد العون، العون الذي أقدر عليه، فانفجر كلاهما يقهقه.
كان الكل ينتظر الكل، والكل يودع الكل، في محطة الشمال، فلا يمكنك التمييز بين الواحد والآخر، إلا إذا كان الأمر متعلقًا بكبار الكرادلة الذين استقبلوا الراهبة الحبلى بثيابهم الكهنوتية المدروزة على طريقة فيلليني، وهم يرونها تجيء مرة أخرى من رصيف ثان، باحترام وإكبار كبيرين، وهم يحيطون بها من كل جانب، وهم يمدون أياديهم لتطبع عليها القبلات المهيجة. أما إذا كنت لا تعرف من تنتظر، فالأمر يمكن أن يصل إلى حد الكارثة. رفع وكيل أحد الفنادق لوحة كتب عليها اسم النزيل المجهول في وجهي، بشيء من وقاحة لم أحتملها، فعزمت على تركه ليتدبر أمره وحده. الجهل مهنته، وفوق هذا الوقاحة طريقته إلى المعرفة. كرر الأمر مع غيري، والكل يُعرض عنه. لاحظت أحدهم يخبئ نفسه على طرف، كان يتابع وكيل الفندق بعينيه، ولا يجرؤ على المجيء إليه. حيرني أمره، وأنا لحيرتي، اقتربت من وكيل الفندق. ذاك الرجل هناك هو نزيلك، همست في أذنه. لم يفه وكيل الفندق بكلمة، عجل الذهاب إلى حيث أشرت، وبعد جملتين وثلاث إيماءات باتجاهي، عاد مع النزيل. لم أبق طبعًا في مكاني، رأيتهما يتوقفان على بعد عشرة أمتار من رجال شرطة كانوا يوقفون كل شخص يشتبهون فيه، ويفتشونه. حمّل النزيلُ وكيلَ الفندقِ ما كان يحمل، محفظة مستطيلة، وطلب منه أن ينتظره في الخارج ريثما يقضي حاجته. رأيته، وهو يخفي نفسه من وراء عمود، ويراقب ما سيفعله رجال الشرطة بوكيل الفندق، هل سيتركونه يمضي في سبيله؟ لم يتركوه. فتحوا الحقيبة، كانت مليئة بالمكعبات البيضاء. لكن ما شدني أكثر وصول أحد الشبان، وهو يركض، ويلهث، ويتدافع، في طلب الرصيف الذي غادره كل القادمين. رفع قبعته السوداء الحريرية عن رأسه، وشدها إلى صدره حزينًا، تلفّت ببذلته السوداء المخططة من حوله عله يقع على المرء الذي جاء لاستقباله. عاد يلقي نظرة ثابتة على الرصيف الخالي، وبقي هكذا دون حراك، وكأنه جمد كحجر المرو.   
في محطة الشمال، كان مكبر الصوت لا يتوقف عن الكلام، هذا القطار وذاك، وهذا الموظف وذاك، والسيد فلان والسيدة فلانة، والرحلة القادمة والرحلة ما بعد القادمة، والوصول القادم والوصول ما بعد القادم، ويرجى من المسافرين ويرجى من غير المسافرين، وممنوع التدخين وممنوع غير التدخين: ممنوع القعود في الممرات للحيلولة دون عرقلة نقل الحقائب، ممنوع التجمهر أمام اللوحات لترك المسافرين يمضون إلى قطاراتهم، ممنوع الانتظار طويًلا في مكان واحد لترويض القدمين على المشي، ممنوع... ممنوع... ممنوع... فهل سيمنعون التقبيل؟ قبل الوداع على الخصوص؟ القبل الحزينة؟ هذا ما كنت أتمنى. كان فتى وفتاة يقبل أحدهما الآخر من حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، وطبيب أسنان لم يكن بعيدًا، وأحد الكتاب الذين يبيعون كتبهم، وحوض لسمك القرش. في كل مرة كان طبيب الأسنان يريد أن يخلع سنًا يخطئ ويخلع أخرى، وفي كل مرة كان الكاتب يريد أن يبيع كتابًا يتراجع ويقدمه مجانًا، وفي كل مرة كان سمك القرش يريد أن يقوم بقفزة يتردد ويكسر عنقه في قعر الحوض. بدأ الفتى والفتاة يبكيان، فتقدمت منهما، وطلبت إليهما أن يسألاني أي شيء يجعلهما سعيدين. نهض الفتى، وسدد ضربة إلى بطني. لف خصر الفتاة بذراعه، وغادرا المحطة. هذا جزاء الإحسان، كما يقال. بعد قليل، عادت الفتاة بصحبة فتاتين أخريين، وكل منهن تسحب حقيبة. أخذن يقبلن بعضهن من ثغورهن فرحًا، ويشرن إلى الناحية التي ذهب الفتى منها غير مأسوف عليه، ويقهقهن. عدن يقبلن بعضهن من ثغورهن فرحًا، ثم ما لبثن أن ذهبن، واختفين بين ذراعي محطة الشمال.  
لم يكن كل ذلك لعبًا، كان كل ذلك كاللعب. أخذ أحد لاعبي الرُّغبي يلعب وحده، وهو يركض بكرته من هنا إلى هناك. لم يكن أحد من المسافرين يلعب معه، كان يطلب من المنتظرين أو المغادرين الذين لم يحن بعد موعد إقلاع قطارهم أن يلعبوا معه، ولم يكن أحد يلعب معه. كان يلقي بجسده وكرته فوق الحقائب التي تنتظر نقلها، وكان يركض بكرته من أقصى المحطة إلى أقصاها، وفي كل مرة يصل فيها كان يلقي بجسده وكرته فوق الحقائب التي تنتظر نقلها، وكان بعض العمال قد جاءوا، وفتحوا مصرفًا بين الحقائب. نزلوا في المصرف، وتركوه مفتوحًا. وكان لاعب الرُّغبي يلقي بجسده وكرته فوق الحقائب التي تنتظر نقلها، هكذا كان يفعل، كان يركض بكرته من أقصى المحطة إلى أقصاها، ثم يلقي بجسده وكرته على الحقائب. سقط في المصرف، فجاء رجال المطافئ، ورفعوه على نقالة، كان الدم يسيل من كل وجهه، وكان لا يتحرك. بعدما أنهى المكلف بنقل الحقائب نقلها إلى عرباته المتشابكة على شكل سلسلة، وقع على كرة الرُّغبي، قلّبها، وابتسم لها، ثم ضربها بقدمه، فطارت في محطة الشمال، ولم تسقط. تحير الشاب، انتهى به الأمر إلى هز كتفيه، وسياقه للعربات. وهو يمر بشيخ عجوز، رأى الكرة تحت إبطه. وجدتها هناك، قال الشيخ العجوز، ليست لك؟ سأقدمها إذن لحفيدي. كان أول الصاعدين إلى القطار.
 هناك أول من يصعد إلى القطار وهناك آخر من يصعد، كان هذا القول لأفلاطون. لفت انتباهي مُقعد على ركبتيه حقيبة كرتون ينتظر، اقتربت منه، وسألته إذا كان ينتظر أحدًا، فقال لا ينتظر أحدًا. سألته من أحضرك، أشار إلى شاب يرتكز على حافة مصعد آلي، "جان"، ذاك الشاب الذي يقف هناك، أجابني. سأناديه لك، قلت. لا تناديه، قال، إذا ناديته ما تركني أسافر. أدهشني منطقه، كان في محطة الشمال لأجل السفر، وجان من يُعنى بذلك. سيغادر قطارك؟ سألت. سيغادر، أكد. متى؟ لا أعرف. والوجهة؟ لا أعرف. سأنادي جان. أرجوك، لا تناديه، لن يتركني أسافر. أين تذكرتك؟ مع جان، أو ربما كنت على خطأ... بحث في جيوبه، فوقع على تذكرته. ها هي، قال. فحصتها، وعرفت الوقت والوجهة. قطارك سيغادر بعد قليل، سأدفعك حتى الرصيف. دفعته، وهو لا يفوه بكلمة، ثم أقفل عينيه، وأغفى. أوقفته قرب القاطرة الخلفية، وذهبت أبحث عن العربة التي سيركبها بين العربات. التفتُ إليه، فوجدته يغفو دومًا. واصلت البحث، وعدت ألتفت إليه، فلم أجده. دفعني الخوف على الرجل إلى الركض، فوجدت جمعًا من الركاب والموظفين. كانت عربة المُقعد قد زلقت خلال نومه، وسقطت به من الرصيف المقابل في الوقت الذي وصل فيه أحد القطارات.
حقًا لا حظ للناس معي، ومع ذلك، كان عليّ أن أفعل شيئًا للمسافر الذي لم يشتر تذكرة سفره بينما قطاره كان على وشك الرحيل. لنبرته العدائية، المتعالية، رفض له كل من كان قبله حق الأولوية. تمكنت على طريقتي من تأخير موعد الرحلة، لقد تأخر موعد إقلاع قطارك، طمأنه موظف شباك التذاكر، فتنفس الرجل الصعداء. لفّ على كعبه اختيالاً، وهو يلوح بتذكرته في وجوه الجميع، كالمنتقم، وكأنه يقول لهم أيها الأوباش، إن المقادير معي. لكن المقادير لم تكن معه، لم تكن مع أحد، كانت المقادير مع المقادير. لتأخر قطاره القسري، حصل اصطدام مروع بين قطاره والقطار الذي يليه.
وعلى مقربة ليست بعيدة من الخفيّ، الشيء المجهول، كان شاب أحمر الشعر يشد شعره ضد ماكينة تبديل النقود بعصبية، ابتلعت الماكينة نقودي مقابل لا شيء، كان يجمجم. أراد الاستعانة بشرطيين كانا يمران من هناك، لكنهما عبّرا عن عجزهما. هو أيضًا كان قطاره على وشك الرحيل. جاء أحد المتسولين غير الفاهمين في شئون ماكينات تبديل النقود، حاول ما حاول، ودومًا دون فائدة. ضرب الشاب ماكينة تبديل النقود بقدمه، وذهب غاضبًا. حقيبتك، صحت من ورائه. لم يلتفت. عجلت الذهاب بالحقيبة إليه. حقيبتك، نسيت حقيبتك، قلت للشاب. ليست حقيبتي، قال الشاب، لم تكن معي حقيبة. تركني حائرًا، وبعد عدة لحظات من التردد، فتحت الحقيبة. كانت ملأى بالنقود. عدت أبحث عن الشاب بعينيّ دون أن أجده، ولما يئست، إذا بإصبع تدق على كتفي. التفت، كان الشاب. أخذ مني الحقيبة، وذهب.
هكذا يذهب اليائسون دون أن يدروا أن الحظوظ شيء يُلمس، ربما كانت شيئًا لا يُدْرَك لكنها تظل شيئًا يُلمس. رفعت رأسي مع عدد ممن رفعوا رؤوسهم إلى الجنة تحت أقدام الأمهات، الأمهات؟ يا للعار! إعلان عملاق لفتاة يطير فستانها كاشفًا عن ساقيها المجنونتين فسقًا ودلالاً، الفاسقات والمدللات؟ يا للمجد والعلياء! كانت كل الأمم تتعلق بساقيها، كل المدن، كل الحضارات، كانت ساقاها يوم البعث، تعيد للموتى الحياة، وتميت الأحياء، تذلهم وترفعهم في آن إلى القمم الشماء. الإعلان لم يكن مهمًا، كان الإعلان لبنك يشجع على الاستثمار، على التدمير قلت، وإهانة الدمامة. كان الإعلان على مستوى واحد مع لوحة القطارات. إنجليزيات. إنجليزيات عذراوات كن ينتظرن تحتها، اليوروستار حتمًا، رأيتهن يصعدن إلى "الكون ستار"، إلى أعلى مرتبات الجمال، إلى جانب فتاة الإعلان الساحرة. كشفن عن سيقانهن، وتحولن إلى ربات للفسق والدلال. كنت أضحك من أعماق قلبي، من أعماق كياني، وكنت أصهل، وكأني حصان يعدو على شاطئ للبحر لا نهاية له. غدا العالم كله مرتعًا، باريس ولندن ونيويورك وميامي وهافانا ومكسيكو ومكة ودمشق وبغداد والقدس، أضاف دلال سيقانهن إلى القدس ما كان ينقصها من مقدس، وفسق سيقانهن ما كان ينقصها من عفة. 
عندما هدأت المعاصي فيّ، ساقتني قدماي إلى نصف هرم مرفوع على رأسه، وعلى عتبته رجل تنبثق من صدره أصابع ميتافيزيقية مسببة له عظيم الألم. سألته الأمر، فأبدى لي عظيم يأسه. لم أنجز بناء قبري، وألمي بسبب السرطان الذي لدي في رئتي يسبب لي عظيم الألم والعذاب، قال الرجل، فلا أنا قادر على إكمال البناء ولا أنا قادر على احتمال الألم. كان عليّ أن أعينه، أن أكمل البناء عنه أو أن أقتله. إذا ما أكملت البناء عنه لن أضع حدًا لعذابه، وإذا ما قتلته لن أكمل بناء القبر الذي ينشد دفن نفسه فيه. أَكْمِلْ بناء قبرك خير لك مما أنت فيه، قلت للرجل. كيف؟ صاح الرجل، وعذاب جهنم الذي أنا فيه؟ تدبر أمرك، رميت كلماتي قبل أن أتركه.
وبينما كنت أفكر في قسوتي اللامصدقة، دونما سرور طبعًا، سمعت شابًا أسمر البشرة يسأل مراقبًا في المحطة عن رصيف أحد القطارات، فقال المراقب إنه لا يعرف، وأبدى أسفه. اذهب إلى مكتب الاستعلامات، قال له. لم يذهب الشاب الأسمر إلى مكتب الاستعلامات، وأخذ يسأل المسافرين. اعتذر الكل، فراح الشاب الأسمر يمضي بكل الأرصفة دون أن يقع على قطاره. لم يكن قطاره موجودًا، فلم تكن وجهة سفره معلومة. في مكتب الاستعلامات، قالوا له بين كل القطارت المقلعة لا يوجد قطارك، ولا وجهة سفرك، حتمًا أخطأت المحطة، هل هي محطة الشمال؟ حتى عندما نخطئ محطتنا تكون المحطة محطة الشمال.
تفاجأت بإحدى الفتيات السمراوات، وهي تسحب الشاب الأسمر من ذراعه، وتجري به إلى رصيف وهميّ. من حظك أن القطار لم يقلع بعد، قالت الفتاة السمراء. شكرها الشاب الأسمر، وهو يدفع حقيبته من باب عربة القطار الوهميّ. بدأ القطار الوهميّ يتحرك، فقفز الشاب في العربة، وبعد قليل خرج بوسطه من أقرب نافذة، وراح يلوح بيده للفتاة السمراء إلى أن اختفى القطار الوهميّ تمامًا. جاءتني الفتاة السمراء، وشكرتني. ابتسمت لي، وقبلتني. هناك من ينتظرنا في مقبرة القطارات، قلت للفتاة السمراء. هيا بنا، قالت الفتاة السمراء، وسحبتني من يدي كما تسحب حقيبتها. ذهبت بي حتى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة، ومنه إلى منفذ جانبي من وراء كل القطارات. كان هناك مركز للشرطة، رأيت فيه ممرضة بدينة، ترتدي ملابس ضيقة تكشف عن فخذيها السمينتين ونهديها الثريين. وكانت هناك بعض مكاتب مفتوحة فيها الكثير من الأحذية النسائية الجديدة أكعاب بعضها تتجاوز المتر. كانت الفتاة السمراء تنظر إلى حيث أنظر، ولا تعلق، تسحبني، تسحبني، وأنا أتبع من ورائها إلى أن دخلنا منطقة كلها خطوط سكة حديدية، وهنا وهناك قطارات قديمة محطمة أو مهجورة، كانت مقبرة القطارات. جاء من وسطها قرصان أعمى يضع على عينه عُصابة، وبحبل يجذب خادمه المربوط عنقه من أمامه، ويقول له يمينًا يسارًا حذار انتبه أين تضع قدمك كدت تضرب بالقاطرة إياك وخط السكة الحديدية قدمك ستلتوي قدمك... كما لو كان يرى، وعندما يخطئ الخادم أو لا يستجيب كان يضربه بالسوط.  
سألت الفتاة السمراء إلى أين هما ذاهبان، فأجاب القرصان أنه منذ فقدانه لبصره لا إلى مكان محدد، إنه يكتفي بشم طريقه، وهو يراها هكذا، بشمها، لهذا يقود خادمه ولا يقوده خادمه، أليس كذلك، يا إنسانية؟ لم يجب الخادم، فضربه بالسوط، وأعاد السؤال، أليس كذلك، يا إنسانية؟ لم ينتظر من خادمه جوابًا، فضربه بالسوط من جديد لينهار الخادم، ويأخذ بالبكاء والعويل. تقدمت الفتاة السمراء من الخادم، وأخذت تفكه، والقرصان الأعمى يرفع عن جفنه المغلق العُصابة، ويتظاهر بالنظر إلى ما تفعل. لن تحرريه مني، أيتها الإنسانية، صاح القرصان. بلى، أجابت الفتاة السمراء، الإنسانية غاضبة، وهي لهذا تنشد الحرية. وما أن أنهت فك الخادم حتى دفعته، انْطَلِقْ، صاحت الفتاة السمراء، أنت حر الآن. أخذ الخادم يعدو، والقرصان يبكي، ويقول يا لها من إنسانية ظالمة، تتركني وحدي، وأنا الضرير. ونحن على وشك تركه، أنا والفتاة السمراء، سمعنا خطوات متباعدة من ورائنا، عندما التفتنا رأينا الخادم، وهو يميل برأسه، ويحاول إخفاء حقيقة أمره مع القرصان، عدم استطاعته التخلي عنه، عدم استطاعته التخلص منه، عدم استطاعته التخلص مما اعتاد عليه، شيء جميل اسمه الاستبداد. عقد الحبل حول عنقه، والقرصان يصهل، وهو في منتهى السعادة. تعالي أقبلك، أيتها الإنسانية، هتف القرصان، وهو يذرف دموع الفرح. أخذ يلثم الواحد الآخر من فمه، وما أن صرنا على بعد عشرة أمتار عنهما حتى عادت تصلنا لعنات القرصان، وصرخاته، وضربات سوطه على طريق العميان.
رأينا، أنا والفتاة السمراء، توأمين سياميين، وهما يزرعان شجرة يافعة محل أخرى كانا قد اقتلعاها من جذورها. رمت لهما الفتاة السمراء حبلاً سميكًا، فقالا لا فائدة منه الآن، عليهما انتظار أن تكبر الشجرة، ليشنقا نفسيهما عليها. شكراها، وطلبا منها أن تعيد أخذه، فأعادت أخذه. 
قطعنا، أنا والفتاة السمراء، خطوط السكة الحديدية إلى عربة معلقة لا أدري كيف، عربة سوداء اللون، في الليل لا تُرى، وفي النهار لا شيء يُرى غيرها. ونحن نقف، أنا والفتاة السمراء، تحت نافذتها، انبجس دفق من البول، واقترب رجل برأس رمادي الشعر ووجه تملأه الغضون لينظر إلينا، ونحن نحاول أن نتفادى الرحمة الصفراء بينما هو يقهقه، ويواصل التبول. نفض نفسه لما انتهى عدة مرات، ورفع بنطاله. كنتم في المبولة دون أن أعلم، قال الرجل، وعاد يقهقه. لا شيء، لا شيء غير قليل من البول، أضاف الرجل. المسألة ليست البول وإنما البنطال، عندما يسقط البنطال، ويكشف عن ساقين دميمتين كساقيّ، هذا ما يستفز المشاهد، وأنا كما تعلمان مع الاستفزاز. الاستفزاز شرطه الفاجع لا الفاجع شرطه الاستفزاز. وربما هذا أيضًا. هذا وذاك. لست أدري. ربما لسبب آخر. أجهله. هناك الكثير من الأشياء التي أجهلها. لا أعرف لماذا. هل لأنني أجهل أنه سيُكتب لها الخلود؟ هذا ما سيعرفه فيما بعد كل من هزأ بي. الخلود. هل الخلود هام إلى هذه الدرجة؟ الخلود شيء ثانوي. كقهوة الصباح كل يوم. شيء ثانوي. أهم من الخلود فعل يتطلب تحقيقه. فعل ضروري. ضروري ولا فائدة منه. سنُنزل اليوم العربة. أرجو ألا تبدلا رأيكما، سنحطمها لو يلزم، فقد سئمت البقاء كل الوقت معلقًا. عليّ أن أنزل أنا أولاً. ولكن كيف أنزل. إذا أنزلنا العربة وأنا فيها وتحطمت العربة سأتحطم معها. عدم جوابكما يشير إلى أنكما بدلتما رأيكما. سأتحطم معها إذا لم أنزل أولاً. ولكن كيف أنزل أولاً؟ هل تنزل العربة أولاً أم أنا؟ أنا أم العربة؟ إذا تحطمت العربة وأنا فيها تحطمت معها. ولو قلت لكما أنزلا العربة وأنا فيها والذي يحصل يحصل سيكون ذلك بمثابة انتحار، بينما أنا لا أريد الانتحار. أنا ضد الانتحار. لهذا سيعيش التوأمان السياميان إلى الأبد دون أن يمكنهما الانتحار. لأني ضد الانتحار. سينتظران. إنها الطريقة الوحيدة ليحتملا شرطهما. سينتظران. لأنني ضد الانتحار. سينتظران وسيقطعان حياتهما دون أن يعلما أنهما يقطعان حياتهما لكنهما سيقطعان حياتهما. الانتحار بعد ذلك ليس مهمًا. الانتظار يعطيهما القوة على قطع حياتهما. هذا هو المهم، قطع حياتنا. مهما كانت. قطع حياتنا. هكذا نصنع إراداتنا. بالانتظار. إراداتنا المرتهنة. إرادات ليست إرادات. إرادات. فقط إرادات. إرادات الانتظار. الانتظار يصبح قوة العيش، جوهر الأشياء، الوجود، الزمان. الانتظار إلى الأبد، هذا هو الخلود. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. هذه هي الأبدية. يصبح للوقت معنى. معنى اللامعنى. هذا لا يهم. ما يهم أن يصبح للوقت معنى. أي معنى. أي لامعنى. إلى الأبد. الانتظار. الانتظار إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. ثم تنتهي الحياة. دون أن نشعر. الانتظار إلى الأبد. تنتهي الحياة مع شعور أنها لم تنته. هذه هي الحياة. الحياة شعور بعدم الانتهاء بعد أن تنتهي. شيء ما كالموت الذي يداوم على التنفس الحياة. شيء ما كالجناح الميت الذي يداوم على الطيران. جناح ميت الانتظار الحي. شيء ما كالعالم المعلق ونحن فيه. كيف ننزل؟ وهل ننزل؟ ولماذا ننزل؟ الانتظار إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. لماذا ننزل ولن يزول الانتظار؟ خطوط السكة الحديدية هي الانتظار. خطوط تمتد. تمتد إلى ما لانهاية. خطوط تمتد. تمتد. تمتد. خطوط تمتد إلى ما لا نهاية كالانتطار. خطوط دون نهاية. قدر جبار. كالموج. خطوط كالموج. كالبحر. تحيا ما بينها البشر. كالأسماك. تحيا. تموت. خطوط. خطوط تمتد. إلى ما لا نهاية. سمك. البشر سمك. خطوط السكة الحياتية أمي. خطوط. أمي. حديد. الحديد أبي. أبي خط سكة حديدية. أمي خطوط سكة الحياة. أنا قاطرة حديدية. قطار. قواد. أبي. أبي قواد. قواد. ابن قواد. أنا. قطار انتظر ولم يعلم كيف غدا قوادًا. كيف ننزل ونحن بانتظارنا مصير لا نريده. قواد. كأبي. كجدي. كابني. مصير نريده. قدر القطارات. ذهاب وعودة. مونوتونية. عودة وذهاب وذهاب وعودة وذهاب وذهاب وذهاب وذهاب وذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. هل ننزل إذن إلى المونوتونية؟ إلى أكل الروح؟ من الداخل. إلى أكل الروح من الداخل؟ مونوتونية. انتظار إلى ما لا نهاية. من الداخل. أكل الروح. أكل الروح من الداخل. قتل الروح. مونوتونية. قتل الروح. قتل الروح. مونوتونية. قتل الروح. قتل الروح. قتل الروح. مونوتونية. انتظار. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد...
اختفى الرجل الرماديّ الشعر والوجه المغضن وهو يكرر "إلى الأبد، إلى الأبد، إلى الأبد..." سحبتني الفتاة السمراء من يدي كما تسحب حقيبتها أو كلبها إلى مسكن لها غير بعيد، عربة معلقة هي الأخرى. وأنا أفكر حائرًا في أمر الصعود إليها، رفعت الفتاة السمراء سلمًا، وصعدت عليه. وهي في منتصفه، التفتت إلي، أرأيت؟ يكفي أن تمتلك سلمًا، قالت الفتاة السمراء. كان الأمر في غاية البساطة. أرتني صورًا لابنها الميت، لم يكن جميلاً مثلها، كان ميتًا. حتى ولو كان جميلاً كان دميمًا. كان ميتًا. ثم تعرت، وعرتني. أجلستني على سريرها في طرف، وجلست في طرف، كان الموت ما بيننا، وبقينا هكذا صامتيْن جامديْن حتى هبوط الليل. 
عدنا، أنا والفتاة السمراء، أدراجنا والمقبرة تتوهج بالأضواء، التقينا بالرجل الرمادي الشعر والوجه المغضن، وعلى عينه عُصابة القرصان، حيانا تحية الغرباء قبل أن يعطينا ظهره، ويتجاوزنا إلى الشجرة اليافعة للتوأمين السياميين التي اقتلعها. جاءت طيور غريبة من الجهة التي ذهب منها، ووقفت على جثة أحد القطارات، وهي تتابعنا بنظراتها دون أن تتحرك. قطعنا آخر رصيف، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة إلى قلب محطة الشمال. استقبلنا الصخب والناس والقطارات، كانت الحياة، حياة اسمها الحياة العابرة. دفعتني الفتاة السمراء إلى درج يهبط تحت الأرض، فواجهني صف من الإفريقيين الأثرياء، وهم يحملون إفريقيين آخرين مدقعين في أقفاص يتركونها في المستودع. كان الإفريقيون الأثرياء يزينون صدورهم بقلادات ضخمة من الذهب، وأصابعهم بخواتم ضخمة من الذهب، وآذانهم بأقراط ضخمة من الذهب، وكانوا يرتدون أفخر الثياب، وأغلى الأحذية. على اليسار، رأيت كيف يبدل الإفريقيون الأثرياء قطع الماس والذهب بقليل اليوروات من أمام شبابيك صرف كان الصرافون فيها كلهم صرافات بنات شقراوات، وكلهن يرتدين ثيابًا براقة كثياب الملاحين الكونيين، ولم يكن بينهن رجل واحد. واصلنا السير، أنا والفتاة السمراء، حتى نهاية الممر، ووقفنا تحت ساعة ضخمة فيها قرود أخذت أشكال الأرقام. لم يكن هذا كل العالم السفلي لمحطة الشمال، عالم المجانين الرقميين والملعونين التكنولوجيين. لم تبتسم للعدم، كان العدم يبتسم لها. تقدمت الفتاة السمراء من خزانة حديدية مهملة، وفتحتها بمفتاح أخرجته من جيبي، وإذا بباب في داخلها أدى بنا إلى عالم هو بالفعل سفلي، عالم من القرود الرقمية. كان القرود يملأون الدنيا، ويحكمون العالم. كانت حضارة القرود، ليست  الحضارة بمعنى الهمجية، فحضارة القرود تظل همجية على الرغم من كونها حضارة. همجية رقمية، لقرود رقمية. أدغال رقمية، لهذا كانت الأدغال الرقمية حدائق غناء. عقول رقمية، لهذا كانت العقول الرقمية مصانع وجامعات. عضلات رقمية، لهذا كانت العضلات الرقمية ملاعب ومسارح. أخذنا ننتقل من مكان إلى مكان انتقال المعجب الحاسد لا الشاكر لفضل الآخر عليه، الحاسد والحاقد. وما أن اعتدنا على الأجواء حتى أخذنا نكتشف مستوى آخر من هذا العالم السفلي الذي يجدر دعوته بالعلوي، لنقل المتعالي لمحطة الشمال. ثلاثة أماكن أسرتني، المكان الأول للمافيا، حيث كان أفرادها يستقبلون رجال العلم، ويغدقون عليهم الأموال الطائلة في سبيل تحقيق أعظم الإنجازات. باحثون وأمخاخ وعظماء يخضع الكون لهم خضوع الطبيعة لابن سينا فيما مضى. المكان الثاني للتجميل، حيث كان يدخل كل ذي عاهة ويخرج دونها. رأيت الأحدب يدخل بظهر أحدب ويخرج بظهر مستقيم كعرق البنفسج، الأحول بعين حولاء ويخرج بعين حوراء كعيون اليمنيات، الأصلع برأس أصلع ويخرج بحرير أسمر كحرير الشام. المكان الثالث للحب، المومسات فيه ذات رسالة قدسية، يردن تثوير الرهبنة الأنثوية على طريقتهن، طريقة معاصرة ترضي كل الرغبات المقموعة، وتؤسس لعبادةٍ الجسدُ فيها يحل محل الروح. أعطين الراهبة الحبلى لهن مثالاً، ورفعنها إلى درجة القداسة.
أشارت الفتاة السمراء إلى صف من كبار رجال الأعمال والوزراء، أخشى على المومسات والراهبات استغلالهن من طرفهم، قالت الفتاة السمراء كمن تقول عن أخواتها. لم يكونوا يسعون وراء المتعة الهادفة للتحرر، كانوا يريدون المتعة الهادفة للتعبيد. كنا قد دخلنا ميدان سباق للقرود الرقمية، فراهنت على هذا القرد الرقمي أو ذاك، وكذلك فعلت الفتاة السمراء، وربحنا نحن الاثنين. ليس هذا كل العالم السفلي لمحطة الشمال، قلت للفتاة السمراء. سحبتني الفتاة السمراء من يدي كما تسحب حقيبتها، تعال، قالت لي.
أنزلتني الفتاة السمراء في مصعد طابقين آخرين تحت الأرض، ووجدتني أمام عشرات بل مئات وربما آلاف المتدينين المتزمتين، خليط من أتباع الديانات التوحيدية الثلاث. كانوا كلهم يشبهون بعضهم بلحاهم وثيابهم، بطقوسهم وصلواتهم، بأدعيتهم ونظراتهم إلى العالم، نظرات من ليس في رأسه شيء اللهم إلا الله، لا الله كما يراهم، وإنما كما هم يريدون أن يروه. لهذا لم يكن الله ليغضب منهم أبدًا على ما يفعلون من حماقات إنسانية، فالله الذي لهم ليس الله، كان الله الذي لهم هم، فكيف إذن سيغضبون هم أنفسهم من حماقاتهم على أنفسهم. لم أكلم أحدًا منهم، كانوا يتكلمون كلهم خطابًا واحدًا بثلاث لغات يفهمونه، وكأنه يقال بلغة واحدة. رأيت بينهم الملائكة يكذبون، والشياطين يكذبون، ورأيت بينهم الأطفال يكذبون، وقطاع الطرق يكذبون، ورأيت بينهم الأنبياء يكذبون، وجلادو أغشية المهابل يكذبون، ورأيت بينهم الغزلان تكذب، والذئاب تكذب، ورأيت بينهم القطط تكذب، والكلاب تكذب، ورأيت بينهم الفراشات تكذب، والضباع تكذب، ورأيت بينهم الأثداء تكذب، والقضبان تكذب، ورأيت بينهم الخدود تكذب، والأقدام تكذب، ورأيت بينهم البطون تكذب، والأكفال تكذب، ورأيت بينهم الآيات تكذب، والأحاديث تكذب، ورأيت بينهم المُدْرَجات تكذب، والمزامير تكذب، ورأيت بينهم الأناجيل تكذب، والصلبان تكذب. تفاجأت بالفتاة السمراء تصيح بهم، وهم لا يردون عليها. إنهم لا يسمعون شيئًا غير صلواتهم، قالت لي الفتاة السمراء، وهي تسحبني من يدي كما تسحب حقيبتها إلى المصعد ثانية، لننزل في الطابق الوسط، طابق بين بين، الطابق الذي لم يكن طابقًا. كان الطابق سورًا يبدأ من الصين وينتهي في القدس القديمة. لفت انتباهي شخصان في شبه الظل كلٌّ في ناحية من ناحيتي السور، كانا يتحادثان دون أن يسمع أحدهما الآخر، كان الحوار يدور حول العفة والشرف والصمود، كان الرجل يشكو الوضع، ويقول لولا السور لكان إلى جانبها، لأحبها أكثر، للبى كل طلباتها، لصنع لها طفلاً... ومع مرور الدقائق أخذت أتبين في الظل الخفيف بطن المرأة المنتفخ، كانت حبلى، وكانت تبكي بصمت، كانت حبلى، وكانت تعرف أنه لا يعرف أنها حبلى، وكانت تبكي بصمت، كانت حبلى، وكانت توافق رجلها على كل ما يقوله، وتتمنى كل ما يتمناه، وكانت تبكي بصمت، كانت حبلى، وكانت تبكي بصمت...
 
 
 
 
 
 
 
القسم الخامس
 
في محطة الشمال، لم يكن أخذ القطار مجرد أخذ القطار، ولم يكن النزول منه مجرد النزول منه، كان المرء في محطة الشمال يقوم بفعل يتجاوز الفعل الخاص، يجاور الأفعال الأخرى، يداورها، يملأها أو يمتلئ بها، ويكون فيها خدشًا كخدش المخلب أو يحفر فيها عميقًا عمق البراكين في البحار، ليسيطر على الكون، ليغزو العالم. وكان المرء في محطة الشمال بفعله اللايذكر يستطيع أن يهدم الجبال، ويسقط العروش، ويغير مجرى الأنهار. كل تواريخ البشر صُنعت في محطة الشمال، كل قصص الشياطين، كل رسائل الأنبياء. كل المعاهدات وُقعت في محطة الشمال، كل الدساتير كُتبت، كل القوانين سُنت. كل الأحلام تحققت في محطة الشمال، كل الكوابيس، كل الأوهام الجميلة منها والمهلكة. كل النيران اشتعلت في محطة الشمال، كل القلوب، كل النفوس السَّنِيَّة منها والرذيلة. كل الحرمات انتهكت، كل العذراوات افتضت، كل الرغبات اغتيلت، ونهضت بعد أن سقطت في الدم والموت، لتتحقق أو من جديدٍ لتُغتال. لم تكن محطة الشمال حركة التاريخ، كانت التاريخ، التاريخ بكل ما فيه، التاريخ بأسوده وأبيضه، التاريخ بأحمره وأزرقه، التاريخ بذهبه وفضته، التاريخ برماده وغباره ووحله وصخره وقيئه وقيحه وبرقه ورعده وزلزاله وبركانه أممية بركانه وشمسه وليله بل ولياليه. كانت محطة الشمال التاريخ، وأنا كنت فيها لئلا يعيق أحدهم حركة التاريخ، وعندما رأيت نابليون على رأس كوكبة من الخيالة يتقدم في محطة الشمال، ويتوقف لأن امرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى تعيق تقدم الإمبراطور وكوكبته معه كان عليّ أن أفعل شيئًا. لم تكن حركة التاريخ لتنتظر أكثر مما انتظرت من وراء نابليون، وهتلر على رأس كوكبة من السيارات العسكرية المصفحة يتقدم في محطة الشمال، ويتوقف من وراء نابليون. كان الزمن يجري بسرعة في محطة الشمال، السنون بثوان، القرون بدقائق، والحال هذه، لم تمهلني حركة التاريخ أكثر مما أمهلتني لأبعد المرأة بحقائبها وأشيائها وظلالها، وأعيد للتاريخ حركة التاريخ. لم تكن حركة التاريخ لتنتظر أكثر مما انتظرت من وراء نابليون وهتلر، وساركوزي على رأس كوكبة من السيارات الليموزينية الفخمة يتقدم في محطة الشمال. كان التاريخ قد توقف بعد ساركوزي وكوكبته، وكان عليّ أن أتصرف بسرعة. وأنا ألتفت من حولي، وقعت على عازف غيتار شاب، كان قد توقف عن العزف منذ مدة، وهو يتابع بعينيه ماذا سأفعل. أشرت إليه بالمجيء بسرعة، فجاء بأقصى سرعة يقدر عليها. وضعت في يده ورقة نقد كبيرة، ففتح عليها عينيه ذاهلاً. أشرت إلى المرأة، ففهم أن عليه من أجل فتح الطريق أمام التاريخ في محطة الشمال التخلص منها. رماها هي وحقائبها في عربة، ودفعها ليرميها في جهنم. عندئذ، تحركت الكوكبات الثلاث، وواصل التاريخ حركته.
ومن التاريخ إلى تواريخنا ذهبت، فلكلنا التاريخ في محطة الشمال، ولكل منا تاريخه. وجدتني وجهًا لوجه مع أم بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين، والطفلة شبه غائبة عن الوعي. ابنتي لا تحتمل السفر في القطار، قالت الأم. كانت تكذب. كان السبب الأم. أم لا تطيق الحيوية. ابنتها كانت شيطانة من الشياطين الصغار، وهي، الأم، ذات طبيعة حساسة، طبيعة وهابية، طبيعة دينية. كلما أرادت ابنتها اللعب والتحرك في كل الاتجاهات كانت تضربها. ضربتها إذن حتى جعلتها شبه غائبة عن الوعي، فخلصتُها إياها. كان علي أن أحررها. خلصتُها إياها على الرغم من صراخها، واحتجاجها الذي لم يثر اهتمام القادمين، وجعلتُ الصغيرة تجري كما يشاء لها التاريخ بين أقدامهم. انتظري، لا تبتعدي، تعالي إلى ذراعي ماما، رددت الأم، وهي لا تستطيع اللحاق بابنتها. بعد قليل، لم أعد أراها، لم أعد أسمع صوتها. كان رجل وامرأة شديدا التجهم قد لفتا انتباهي، كلاهما على خطأ، قلت لنفسي. إذا أنهى لعبة الشطرنج أحد الشابين اللذين كانا يلعبان هناك بين يدي الملوك والعظماء، شاب أسود وآخر أبيض، تغلب الرجل على المرأة أو المرأة على الرجل، التاريخ لا يمزح. كان على الشابين أن يربحا اللعبة كليهما، فكيف يربح كلاهما اللعبة، مستحيل هذا. إذن لتستمر اللعبة إلى أجل غير مسمى أو لتتوقف. في تلك اللحظة، مضت مجموعة صاخبة من الشبان والشابات قلبت رقعة الشطرنج بأقدامها، فخسر الاثنان. هذا أسهل أن يخسر الاثنان. نظرت إلى الرجل والمرأة، لم يكن لا الواحد ولا الآخر هناك. جرفتهما حركة التاريخ. بحثت بعينيّ عنهما إلى أن وقعت عليهما، لم يكونا معًا، كان كل منهما في ناحية من نواحي محطة الشمال. ومن ورائي، وصلتني صرخات راهبة حبلى تضرب بقبضتها بطنها تريد إسقاط الجنين، فأمسكت بها، سأعاونك، قلت لها، ولكن لماذا تريدين إسقاطه ألأنك راهبة؟ بالطبع لا، أجابت الراهبة الحبلى، لأني امرأة. طننت لأنه اختار حركته، الجنين، قلت، ولأن ذلك غَضَبًا عليه منك. قهقهت الراهبة الحبلى، سأحتفظ به، قالت قبل أن تدفعني، وتذهب. 
رأيت نجيمة سينمائية تتقدم مع القادمين بخطوات عازمة، رأيت ساقيها البيضاوين في بنطال لصوق ممزق ألصقته بصبغ الأظافر، رأيت صدرها الناهد من تحت صدارة قطنية انكمشت وتقلصت، رأيت حذاءها الزهري الأهوج المثقوب، رأيت حقيبتها البلاستيكية العدمية المرقعة، رأيت حياتها المهترئة المبتدَعة المبتدِعة، رأيت ظهرها المعطي لأبواب الكباريهات، رأيت بطنها المتهدل على حافة كؤوس الشمبانيا، رأيت وركيها اللذين انتحر عليهما فان غوغ، كانت تتقدم بخطوات عازمة، وهي تمد إصبعها إلى هذا أو ذاك ثم تشير إلى نفسها، كمن تريد القول لمعجبين افتراضيين، ها أنا، كانت تتقدم بخطوات عازمة على هامش التاريخ، على هامش التاريخ كانت تتقدم، ها أنا، ها أنا، والتاريخ ينظر إليها باحترام، ها أنا، ها أنا، ها أنا، هامشٌ دونها لن يكون للتاريخ، لن يكون التاريخ.
وفي الهامش غالبًا ما يمضي الفاجع دون أن نشعر به، كلعبة يمضي، يمضي الفاجع كلعبة، ومعه استحالة السلب والإيجاب معًا، لتغدو أعمارنا ساحة مفتوحة على كل شيء، على كل شيء: لماذا لم تأكل كما يوجب الأكل، يا حبيبي؟ كانت الأم مع ابنها السمين جدًا، السمين جدًا جدًا، السمين بسمن الفيل. فتحت حقيبتها أول ما وجدت مقعدًا، حقيبة ملأى بالساندويتشات، وجعلت ابنها يأكل. ستأكل كل هذا، يا حبيبي، قالت الأم. سآكل كل هذا، يا ماما، قال الابن. ستأكل كل هذا، كل هذا، يا حبيبي، قالت الأم. سآكل كل هذا، كل هذا، يا ماما، قال الابن. ستأكل كما يوجب الأكل، يا حبيبي. سآكل كما يوجب الأكل، يا ماما. ستأكل كل هذا، كل هذا، كل هذا، يا حبيبي. سآكل كل هذا، كل هذا، كل هذا، يا ماما. ستأكل إلى أن تشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أشبع، يا ماما. ستأكل إلى أن تصرخ من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أصرخ من الشبع، يا ماما. ستأكل إلى أن تموت من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أموت من الشبع، يا ماما. ستأكل إلى أن تموت تموت من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أموت أموت من الشبع، يا ماما. ستأكل إلى أن تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أموت أموت أموت من الشبع، يا ماما. ستأكل إلى أن تموت تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أموت أموت أموت أموت من الشبع، يا ماما. بدأ الابن يتحشرج. ستأكل إلى أن تموت تموت تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن.. عاد الابن يتحشرج، إلى أن أموت، يتحشرج، أموت، يتحشرج، أموت، أموت، يتحشرج، أموت، أموت، أموت، يتحشرج، أموت، أموت، أموت، أموت، يتحشرج، أموت، أموت، أموت، أموت، أموت، يتحشرج، يتحشرج، يتحشرج... حملته أمه، فوقعت به على الأرض، وأخذت تقهقه. أنت تضحكني، يا حبيبي. رفعته، فوقعت به على جانبها الأيمن، وهو فوقها، وهي تقهقه. أنت تضحكني، يا حبيبي. رفعته، فوقعت به على جانبها الأيسر، وهو فوقها، وهي تقهقه. أنت تضحكني، يا حبيبي. عرفت فجأة أنه مات بالفعل، فدفعته بعيدًا، وهي تقف دفعة واحدة على قدميها، وتصرخ بهستيرية.
في محطة الشمال لم يكن الاستقبال سهلاً كما يبدو، لم يكن كل المنتظرين لغيرهم فرحين بلقائهم، كان منهم الفَرِح، وكان منهم التَّعِس، وكان منهم لا الفَرِح ولا التَّعِس، كانوا وجوهًا للتاريخ، فللتاريخ وجوهنا. من المنتظرين الفرحين، رأيت مجموعة من الرهبان، وهم يستقبلون الراهبة الحبلى المرتدية لثياب البابا كالربة على درب التبانة، كانت تتقدم بعد أن نزلت من قطار آخر، والرهبان كانوا يستقبلونها، يقبلون يديها، وبعضهم قدميها، ويرمون بأجسادهم على الأرض من أمامها رمي المسيح على الصليب لتطأها. ومن المنتظرين التعسين، رأيت شابًا في بذلة سوداء مخططة يغطي رأسه بقبعة سوداء حريرية، وهو عابس عبوس شيخ أضاع حياته، مرت به أجمل الفتيات، وأجمل الفتيان، وهو دومًا عابس، دومًا ينظر إلى القادم التالي. ومن المنتظرين لا الفرحين ولا التعسين كان بعض نزلاء الفنادق المجهولين. رأيت أحدهم يبحث عن وكيل فندقه، كل وكلاء الفنادق كانوا هناك، وكانوا يرفعون لوحات كتبوا عليها أسماء نزلائهم. لما رآني النزيل المجهول أنظر إليه، جاءني يسأل إذا ما كنت وكيل فندقه. أجبت بالنفي. رسم الرجل ابتسامة طفيفة على شفتيه، وقال آه! سألته عن اسم الفندق، كان لا يعرف. عن الدائرة التي فيها الفندق، كان لا يعرف. إذا ما كان يعرف أحدًا يمكن الاتصال به، كان لا يعرف. رسمت ابتسامة طفيفة على شفتيّ، وقلت آه! تركني، وراح يقرأ الأسماء على اللوحات المرفوعة، الشيء الذي فعله أكثر من مرة. قام بدورة، ثم عاد، وعاد يسأل إذا ما كنت وكيل فندقه. أعطيته ظهري، وتركته يلغ في دم محنته.
في محطة الشمال، كان مكبر الصوت جزءًا من أوركسترا الصخب العام، لا يلبث المرء أن يعتاده. أما ما لا يعتاده المرء أبدًا، فهو صمت مكبر الصوت المفاجئ، الصمت الذي يطول، والذي يغدو مقلقًا لأنه يطول على غير العادة، ولأن المحطة تتحول إلى مقبرة فرعونية، صمت يصل إلى حد القداسة، صمت مرهب، ثقيل، يشعر المرء بضغطه على صدره وكل عمره وكل كيانه، صمت يلبس المرء، يلبس الكون، يلبس التاريخ. عند ذلك، كان المرء يبحث عن البديل، بديل الصخب في هذا الصمت المرهب، فلا يجد من بديل، كل شيء يضغط عليه الصمتُ بثقله الطام، فيأخذ المرء بالتحايل على وضع اضطر إليه اضطرارًا، بالتمثل، لأجل الاحتمال، احتمال الصمت المطبق وثقل الصمت الطام، بالاستيعاب، استيعاب ما لا يُستوعب واحتمال ما لا يُحتمل، أن يطلب المرء فنجان قهوة لا يشربه، أو يشتري جريدة لا يقرأها، أن ينظر إلى امرأة ويغمزها، هكذا، يغمزها، كل هذه احتمالات لاحتمال الصمت المفاجئ والطويل لمحطة الشمال. وما تم أمام عينيّ كان أفظع، فتاة وفتاة كانا يجلسان حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، قهوة وزجاجة كوكاكولا أمامهما، كان يبدو عليهما أنهما يتحابان، وبدافع الصمت المرهب لمحطة الشمال، دفع أحدهما الآخر عنه بعيدًا، وهما يقلبان الطاولة، وذهب كل منهما إلى باب من أبواب المحطة. أسعدني الأمر كثيرًا، كان في المشهد انفعالية تراجيدية أدت إلى الحسم الأرسطوطالي، القطع في اللحظة المناسبة، والانتصار للّحظة الفاجعة، للعاطفة المدمرة. حتى طبيب الأسنان الذي كان يقيم عيادته غير بعيد من هناك كان يقاوم الصمت على طريقته، فيقضم بأسنانه الذئبية فك المريض، حتى أحد الكتاب الذين يبيعون كتبهم لمن لا يشتريها كان يتحدى الصمت بتلاوة كتبه بصوت عال، حتى سمك القرش في حوضه غير البعيد كان ينشج ويعلي العويل على سمكة أكلها. وقفت فتاتان مترددتان على باب المحطة، وصرحُ الصمت يحول دون دخولهما، بكيتا، وقبلتا بعضهما من الثغر قبلاً عديدة، ثم سحبت كل منهما حقيبتها، وغادرتا المحطة. 
وفي الصمت الساجي الصمت المرهب الصمت المهلك مر رجال المطافئ من أمامي، وهم يحملون على نقالتهم كرة رغبي. كانوا شديدي الحزن، وكان بعض الموجودين في محطة الشمال شديدي التأثر، وليخفف ناقل الحقائب قليلاً من ثقل الجو، أخذ يقود عرباته بعيدًا عن الممر المخصص لذلك، أخذ يقودها بيننا كيلا يتوقف عن إطلاق النفير. ابْتَسِمْ! صاح ناقل الحقائب، وهو يمر بشيخ عجوز كان يجلس على حقيبته، ويبكي. 
لفت انتباهي شاب جاء عنيفًا، وبشكل فظ أراد أن يأخذ مكانه على عجلة التاريخ، مكان مُقعد في عربة. ادفع، قال للمُقعد، وهو يقذف حقيبته أرضًا. حمل المُقعد الحقيبة بيد، وبيد أخذ يدفع العربة. لا يسافر قطاري الآن، يا جان، قال المُقعد. ادفع قلت لك، ادفع، أمر الشاب. أخذ المُقعد يدفع. أقوى، أقوى، ردد الشاب. والمُقعد يدفع، والشاب يقلد بذراعيه عبور الطائرة، وبلسانه صوتها، غير مبال بالناس، والناس، يبتعدون، ويخلون المكان للعربة. ادفع، ادفع، ووو... وووووو... ادفع. سقطت الحقيبة من يد المُقعد، فتوقف ليأتي بها، والشاب يداوم على القول ادفع، عجل، عجل، ووو... وووووو... إلى أن وجدا نفسيهما قرب قطار سيأخذه المُقعد. فحص الشاب لوحة الذهاب. لم يبق على إقلاع القطار سوى بضع دقائق لا كما قلت أيها العجوز المغناج، صاح الشاب بالمُقعد بعنف، ونهض جاذبًا من يده الحقيبة، ثم ذهب يجري. تسلق القطار، وما لبث القطار أن قام، والمُقعد يقف في مكانه ساكنًا ساكتًا غير مدرك لما يجري.
هذا هو، أن لا ندرك ما يجري من أحداث، أو أن ندرك ما ندرك بقوة الأشياء. لم يكن هناك أحد من المسافرين على شبابيك بيع التذاكر بعد أن أخذوا يشترونها على إنترنت، رأيت الموظفين، وهم يتسلون ما بينهم، كانوا يتمازحون، يأكلون، يعلكون، أو يركضون من وراء بعضهم، ليمسك الرجال بأكفال النساء. وكان الأمر كذلك مع ماكينات تبديل النقود، كانت هذه الماكينات تعاني من حدة البطالة بسبب الأزمة. لم يعد رجال الشرطة يمرون من أمامها، لم يعد ما يستوجب الحراسة. جاء أحد المتسولين العابرين، وفتح إحداها، أدخل يده فيها، ولم يفعل سوى مسح الغبار. 
غبار. التاريخ غبار. رأس المال غبار. البشر غبار. حتى الصور الجميلة. الصور غبار. رفعت رأسًا مفعمًا بالغبار صوب إعلان عملاق لفتاة يطير فستانها وشعرها في زوبعة من الغبار، وفي غبار الصمت الساجي، لم يشدني شعرها، لم تثرني ساقاها. كانت لها ساقان من غبار، والاستثمار الذي يدعو إليه البنك صاحب الإعلان خلال أزمة كهذه يبدو نكتة سمجة، نكتة من غبار. أنزلت عينيّ لأقع على مجموعة من الإنجليزيات اللواتي بَدَوْنَ ساذجات إلى حد الإهانة، إلى حد الغبار. كان النمش لا يزحف على وجوههن البيضاء زحف النمل المدغدغ للذات وللكيان، كان النمل يموت على خدودهن، ويتساقط على حلماتهن الصغيرة، فلا يعضها، يتساقط كالغبار.
لم تغادر خيالي صورة النمل الميت المتساقط على الحلمات الصغيرة كالغبار، كانت في الأمر مأساة. تجنبت الغوص في متاهات فرويدية، ومشيت صوب هرم رأسه إلى أعلى، وقاعدته إلى أسفل، ككل الأهرامات. هرم من حجر لا من غبار. وأنا أتأمله بعين الإعجاب، جاءني من داخله صوت ينادي، ويقول: الرحمة، الرحمة... أطللت برأسي، فإذا برجل عاري الصدر يجثم عليه عُقاب دموي، وبمخالبه يحاول انتزاع قلبه دون أن ينجح. الرحمة، الرحمة... ظننت أنه يرمي إلى التخلص من العُقاب الدموي. إنه سرطاني الذي لا يريد القضاء عليّ، أوضح الرجل، سرطان رئتي. وعاد يطلب: الرحمة، الرحمة... بسطت كفي، وخنقته. 
كان عليّ أن أفعل ذلك، ولأول مرة في حياتي شعرت بالارتياح. كنت خارج التاريخ، خارج الوقت، خارج كل إرادة غير إرادتي، خارج الغبار. كانت إرادتي مجرمة، لكني كنت أشعر بالارتياح. كل الدم المسفوح في أوسترليتز كان إرادتي، لكني كنت أشعر بالارتياح، بالإصغاء، بالإصغاء إلى نفسي، بالإصغاء إلى غيري. أصغيت إلى فتى أصفر البشرة، وهو يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فقال المراقب إن القطار قد أقلع. ابتسم الفتى الأصفر، وقال إنه سيأخذ قطارًا آخر، فلم يفهم المراقب، تركه، وتابع طريقه. إلى نفس الوجهة، ليس هناك قطار آخر، قالت فتاة صفراء للفتى الأصفر. واصل الفتى الأصفر الابتسام، الوجهة لا تهمني، قال. فكرت الفتاة الصفراء قليلاً ثم انفجرت ضاحكة، وراحت تنحني للفتى الأصفر، وتبالغ في الانحناء. 
جاءتني الفتاة الصفراء، وهي تبتسم، وتنحني. الوجهة، لا تهمه، قالت الفتاة الصفراء، ما يهمه هو المكان أيًا كان. التنين الأصفر سيلتهم العالم ذات يوم، همهمتُ. هذا قدر كل حضارة صاعدة، كل الحضارات التي صعدت عبر التاريخ كان هذا قدرها، ردت الفتاة الصفراء، وهي تسحبني من يدي كما تسحب حقيبتها. ذهبت بي حتى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة، ومنه إلى منفذ جانبي من وراء كل القطارات. كان هناك مركز للشرطة، كل الشرطة فيه صفر الوجوه، وكانت هناك بعض المكاتب المفتوحة، في واحد فتاة هندية ترتدي الساري، وفي ثان فتاة برازيلية ترتدي البكيني، وفي ثالث فتاة سعودية ترتدي الحجاب. كانت الفتاة الصفراء تحيي كل واحدة منهن بلغتها، وكل واحدة منهن تجيبها باللغة الصينية، والفتاة الصفراء تسحبني، وأنا أتبع من ورائها إلى أن دخلنا منطقة كلها خطوط سكة حديدية، وهنا وهناك قطارات قديمة محطمة أو مهجورة، كانت مقبرة القطارات. انبثق من وسطها حصان يركبه قرصان أعمى يضع على عينه عُصابة، وبحبل عقد ظهره بظهر خادم كان يتدلى برأسه المهتز مع مشية الحصان نائمًا، ومن فترة لفترة كان القرصان يلوح سوطه في الهواء دون أن يفوه بكلمة. سألت الفتاة الصفراء إلى أين هما ذاهبان هكذا، فشرح القرصان أنه أعمى، وأن هذا المربوط إلى ظهره خادمه، وهما بعد أن لفا الدنيا بحثًا عن الإنسانية دون أن يجداها، تركا أمرهما للحصان يقودهما إلى حيث يشاء. رفع عن عينه الميتة العُصابة، وتظاهر بالنظر إلى كل الأرجاء، ثم طبطب على عنق الحيوان ليتابع بهما التجوال على هواه. سار الحصان قليلاً، فضرب القرصان الهواء بسوطه، والخادم دائمًا لا يتحرك، ويهتز مع حركة الحصان. لا يفكر إلا في النوم، فهو لم ينم منذ أكثر من مائة وتسعة وتسعين عام، مائة وتسعة وتسعون عام شيء كبير، كبير جدًا، رمى القرصان كلماته، وكأنه يعتذر لنا قبل أن يبتعد.
رأينا، أنا والفتاة الصفراء، توأمين سياميين يركبان سيارة فيراري حمراء، وهما في أبهى الحلل. لم أحضر الحبل، قالت الفتاة الصفراء، نسيت الحبل ككل مرة، فقهقه التوأمان السياميان. الآن وأنتما لديكما الفيراري، هل ستتوقفان عن محاولات الانتحار؟ سألت الفتاة الصفراء. أوضحا أن الانتحار ليس المشكلة وإنما الانتظار. الحبل ليس المشكلة وإنما الشجرة. شجرة الانتحار كما قالا. شجرة الانتظار. انتظار من سيعينهم على الانتحار. خرجا من السيارة الأسطورية، وراحا يسقيان شجرة يافعة. انتظار أن تكبر هذه الشجرة التي سنتعلق عليها بعنقينا أمر لا يصدق، قال التوأمان السياميان. الفيراري لهذا السبب، لتزجية الوقت، لأنهما سينتظران على أي حال، وهما سينتظران، سينتظران  إلى الأبد لو يلزم.
  ما أن قطعنا، أنا والفتاة الصفراء، خطوط السكة الحديدية حتى وجدنا نفسينا في عربة معلقة بين أرض وسماء. نظرنا من نافذتها، فوجدنا رجلاً رمادي الشعر بوجه تملأه الغضون يجلس على كرسي يُطوى، ويكتب على طاولة تُطوى. رفع رأسه إلينا، وابتسم. كان يكتب، ويتحقق في الوقت ذاته كل ما يكتب. كتب أننا، أنا والفتاة الصفراء، في عربة معلقة، لهذا كنا في عربة معلقة. ابتسم بخبث، وكتب أننا نُقَبِّلُ بعضنا، أنا والفتاة الصفراء، فقبلنا بعضنا. شطب بسرعة ما كتب، فابتعدنا عن بعضنا بسرعة، أنا والفتاة الصفراء، وكتب أنني رفعت ثوبها حتى خاصرتيها، وحاولت تمزيق بنطالها القصير، فصفعتني بقوة ألزمتني الطاعة، وكل هذا وقع كما كتب. رجوته ألا يكون قاسيًا، لكنه كان يريد أن يتسلى. تسلى كطفل لا كبالغ، قلت له. ضحكت الفتاة الصفراء، بل كبالغ، قالت الفتاة الصفراء، وفي المرة القادمة اتركه يمزق بنطالي القصير، ويمزقني، الحياة معركة. ضحك الرجل ذو الشعر الرمادي والوجه المغضن، وكتب لتلتقمه من رجولته، ففعلت الفتاة الصفراء، لكنه بسرعة شطب ما كتب، فكسر مزاجها. إنساني جدًا، همهم الرجل الرمادي الشعر والوجه ذو الغضون. كتب لتُلقمه ثديها، ففعلت الفتاة، وبسرعة شطب ما كتب، وهو يهمهم إنساني جدًا، إنساني جدًا. ليذهبا عني إلى الجحيم، كتب، وعندما رآنا على وشك الدخول إلى الجحيم، والاحتراق كالملعونين، شطب ما كتبه بسرعة، وأنقذنا. لم تضحكه حالتنا هذه المرة، بدا عليه الضجر منا لا من الكتابة، كانت الكتابة كل حياته. جعلنا نغادر المكان، وراح يفكر في مسرحيته القادمة.
أخذتني الفتاة الصفراء إلى قطار مهجور حولته إلى صالون خيالي من صالونات الصين القديمة بهرني كل شيء فيه من بقايا الإمبراطورية، الأسرّة الستائر اللوحات الدواشك السجاجيد الصواني الأعواد القَصعات الطائرات الورقية القناديل الفراشات الأضواء التنينات التنينات التنينات التنينات التنينات التي تبتسم وتكاد تنطق. قالت إنها ستُرضع طفلها، وبعد ذلك ستعتني بي. نادت عليه، وهي تكشف عن ثديها، فدخل شيخ صيني عجوز عمره يربو عن التسعة والتسعين عامًا، وضع نفسه في حضنها، وتناول بفمه حلمتها، وراح يرضع، ويرضع، ويرضع، دون أن يتوقف. ملت نفسي من الانتظار، فطلبَت الفتاة الصفراء قليلاً من الوقت. مَسَحَتْ خد طفلها المليء بالعقد والدرنات بكفها الحنون الناعمة، لهذا السبب شاخ طفلي لأنه لا يتوقف عن الرضاعة، أوضحت الفتاة الصفراء. لم تتخلص الفتاة الصفراء من طفلها الشيخ إلا بعد أن غفت عيناه، وكأن تسع سنين طويلة مضت منذ اللحظة التي جئنا فيها. جاءتني الفتاة الصفراء بثديها الآخر، لن أطلب منك أن تدفع مقابل هذا شيئًا بعد أن أعييتك انتظارًا، قالت لي الفتاة الصفراء. أبعدتها عني بلطف، ورفعت إصبعًا كارهة نحو باب الخروج، فنهضنا، وعدنا، أنا والفتاة الصفراء، أدراجنا قاطعين مقبرة للقطارات لا حياة فيها، لم يكن فيها لا طير ولا بشر ولا نمل. قطعنا آخر رصيف، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة إلى قلب محطة الشمال. استقبلنا الصخب والناس والقطارات كما يجدر بالصخب أن يستقبلنا والناس والقطارات في محطة الشمال، كانت هذه هي الحياة. دفعتني الفتاة الصفراء إلى درج يهبط تحت الأرض، فواجهني صف من الفرنسيين، وهم يحملون لوحات جوارب مثقوبة ورافعات نهدين مقطعة وأوراق كلينيكس مستعملة ثمنها بالملايين بسبب الأزمة. على اليسار، رأيت كيف يبدل أجانب الناس سلال اليوروات بقليل من نقودهم على شبابيكِ صرفٍ الصرافون فيها ما بين صراف وصرافة يرتدون كلهم ثيابًا براقة كثياب الملاحين الكونيين. واصلنا السير، أنا والفتاة الصفراء، حتى نهاية الممر، ووقفنا تحت ساعة ضخمة فيها تنينات أخذت أشكال الأرقام. ودون تردد، تقدمت الفتاة الصفراء من خزانة حديدية كانت هناك فتحتها بمفتاح أخرجته من بين فخذيها، وإذا بباب في داخلها لم تغلقه من ورائها اجتزناه إلى عالم أصفر من بشر وحيوان وأشياء، حتى التنينات الرقمية فيه كانت صفراء. لم تكن التشاينا تاون، كانت كل الحضارة الصينية هناك. كانت الصين. كانت الدراجات. كانت القبعات. كانت الفساتين المشقوقة على طول الساقين. كانت الأعلام الحمراء. كان ماو. كان الإمبراطور الحديث. كل صيني كان إمبراطورًا حديثًا. كان البط المبرنق. كان الشعر الأسود. الشعر الطويل. الشعر الجميل. الشعر الأخرق. كان الخصر الأصفر. كان السحر الأصفر. كان الموت الأصفر. الأصفر. الأصفر. الأخضر. كان الموت الأخضر. أخذت أنتقل من مكان إلى مكان، وبقوة الأشياء غدوت أصفر. غدوت أخضر. لم ينقصني سوى التحدث بالصينية. كانت تلك مهمة الفتاة الصفراء مرافقتي. جعلتني أكتشف مستوى آخر من هذا العالم السفلي، المافيا فيه صفراء لا ترحم، والجميل فيه أصفر لا يرحم حتى ولو كان أشقر أو أسود أو أحمر، وأمكنة العبادة فيه لبوذا رأس المال، وهي أمكنة للجنس في نفس الوقت.
أشارت الفتاة الصفراء إلى صف من كبار رجال الأعمال والوزراء على باب بوذا، ها هم عملاؤنا الجدد، قالت الفتاة الصفراء بشيء من ترف الكلام. كان كل منهم هناك ليقذف بجسده وببلده بين ذراعي مومس صفراء. لم يكن ذلك بالطبع سوى استعارة، المومس الصفراء كانت في الواقع تلك الراهبة الحبلى القادمة من الجناح الفرنسي في المدينة المحرمة. كنا قد ذهبنا لنشاهد صراع الأرز مع الأرز، أرز أبيض وأرز أسمر وأرز أحمر وأرز أسود وأرز أصفر، هكذا كانت تُدعى فرق المصارعين. انتصر في هذا الصراع الأرز الأصفر. ليس هذا كل شيء في العالم السفلي لمحطة الشمال، قالت لي الفتاة الصفراء. سحبتني من يدي كما تسحب كلبها، تعال، قالت لي.
أنزلتني الفتاة الصفراء في مصعد طابقين آخرين تحت الأرض، ووجدتني أمام عشرات بل مئات وربما آلاف التماثيل الصينية المطعونة بعشرات السيوف المرشوقة بعشرات الأسهم المبقورة بعشرات الرماح. هؤلاء هم أجدادنا، قالت الفتاة الصفراء. كان متحف الأجداد الصفر. لم يكونوا في أشكالهم ليختلفوا كثيرًا عن أحفاد اليوم الصفر. يختلفون ربما من ناحية واحدة عشق المال، قالت الفتاة الصفراء، وعشق الهيمنة. صُفر اليوم لا يهمهم ما سيكون العالم معهم، ولكن أن يكونوا هم أسياد العالم كما كان الذين من قبلهم، أضافت الفتاة الصفراء. قبل أن تسحبني من المتحف، بَصَقَتْ على أحد التماثيل، فأثارت دهشتي. هذا لأنني شيوعية، قالت.
في الطابق الوسط، طابق بين بين، الطابق الذي تمنيت أن أجد فيه حقيقتي، وجدت حصانًا أبيض ينتظرني. أذهلني جماله. درت به، ودار بي. احتضنته، واحتضنني. امتطِهِ، قالت الفتاة الصفراء، وهي تبكي. امتطيته، فسار بي نحو باب الخروج. داومت الفتاة الصفراء على البكاء، وهي تشير بيدها مودعة. كانت دموعها دموع الوداع. صعد الحصان بي في المصعد، وعندما خرجت، وأنا على ظهر الحصان، إذا بي في الموقف العام لسيارات محطة الشمال. تهادى الحصان بي، وأنا أمر بالمراحيض، وبالمخازن، وبدهاليز المترو إلى أن وصل إلى باب الخزانة المفتوح. دخلت بالحصان منه، وأنا أنظر. كانت شبابيك الصرافة عادية بصرافين عاديين كل منهم لاه بشغله، وعلى باب المستودع كان بعض السياح الذين يودعون حقائبهم. صعدت بالحصان الدرج إلى وسط محطة الشمال، والحصان يتهادى بي بين أناس ألقوا عليّ نظرات سريعة، وعادوا إلى أشغالهم. كانت القطارات هي القطارات، والأرصفة هي الأرصفة، والآماد هي الآماد. وكان الحصان الأبيض الذي أركبه، وأسير، غريبًا عن هذا العالم. ذهبت به إلى مركز الشرطة، وأودعتهم إياه.
وأنا أعود من حيث جئت، كانت الحقائب الأربع في مكانها. وبينما أنا أنظر إليها، وأتساءل أين ذهب أصحابها، شعرت بيد صغيرة تشدني من سترتي، وسمعت صوتًا ناعمًا:
- قطعة صغيرة.
استدرت برأسي من حولي، فلم أقع على أحد، لكنني ما لبثت أن رأيت الصبي القصير القامة، وأنا أنظر إلى قدميّ.
- قطعة صغيرة، جِد صغيرة.
أخرجت من جيبي حفنة من قطع النقد الكبيرة، وأخذت أبحث تحت عيني الصبي الطامعتين عن قطعة صغيرة إلى أن وجدت واحدة ثم واحدة أخرى أصغر، وقدمتها له. عبس الصبي، بعد أن سال لعابه على منظر قطع النقد الكبيرة، وراح يحدق باستهجان فيما أعطيته.
- قُلْتَ جِد صغيرة.
- أشكرك، يا سيد غودو.
وضع القطعة النقدية في جيبه.
- هذه الحقائب لك؟
تأملت الحقائب الأربع مليًا.
- لي.
حاول الصبي حملها، فلم يستطع.
- سأطلب عونًا.
راح ينظر هنا وهناك.
- إنه أخي. أخي أكبر مني وأقوى.
وضع إصبعين في فمه، وصفر، فجاء صبي يشبه أخاه، وكأنه توأمه، لكنه أقصر قامة. عندما وصل حياني:
- طاب وقتك، يا سيد غودو.
أشار إلى الحقائب الأربع، وسأل:
- هذا كل ما هنالك؟
أجاب أخوه:
- هذا كل ما هنالك.
وهو يهم بحملها، أوقفته:
- انتظر.
أخرجت كل ما في جيبي من قطع نقدية، وانتقيت قطعة صغيرة، فمد يده ليأخذها، لكني وقعت على قطعة أصغر أعطيته إياها، وأنا أرسم بسمة مناكفة على شفتيّ، والأخوان بسمة ليست راضية. حمل الكبير القصير الحقائب الأربع، فلم أعد أراه لكبرها. سأل الصبي:
- وأي قطار قطارك، يا سيد غودو؟
قلت:
- أي قطار.
ضحك الصبي:
- أي قطار.
- أي قطار.
- أي قطار، يا سيد غودو؟
- أي قطار.
همهم الصبي:
- أي قطار.
وتوجه بالكلام إلى أخيه:
- هل سمعت ما قاله السيد غودو؟
- السيد غودو لا يتبدل.
هز الصبي رأسه مؤكدًا:
- السيد غودو لا يتبدل. السيد غودو لا يتبدل أبدًا.
* الكتابة الأولى صيف 2010
* الكتابة الثانية يوم الخميس 2012.02.02
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
أعمال أفنان القاسم
 
المجموعات القصصية
 
1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995
 
الأعمال الروائية
 
7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970 
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011
 
الأعمال المسرحية النثرية
 
33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978
 
الأعمال الشعرية
 
36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010
 
الدراسات
 
44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
      نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004
 
ramus105@yahoo.fr
تحاول هذه الرواية البقاء ضمن الخط الذي رسمه صموئيل بيكيت في مسرحيته "بانتظار غودو" تبعًا لتأويلين طبيعي وما وراء طبيعي، إضافة إلى ذلك تعمل على توسيع حقول الصراع الإنساني، مع النفس، مع الغير، مع الواقعي، مع الفانتازي، مع الذاكرة، مع الفكرة، خاصة مع الفكرة، من كل نواحيها، فكرة الانتظار، الانتظار تحت كافة أشكاله، انتظار مُعِينٍ أكثرَ منه منقذًا أو متفرجًا، لكن أفعال هذا الشخص "المنتظر" عندما تحل أفعاله محل ما على البشر أن يفعلوا لأنفسهم لم تكن في صالحهم، لتأخذ مجانية الوصول قوتها، فيعيد العبث إنتاج نفسه على مسرح الحياة، ويعطي للحياة قيمتها.
أهم ما في هذه الرواية المكان الذي تجري فيه أحداثها: محطة الشمال في قلب باريس، محطة هي بالأحرى "مغارة علي بابا"، كل شيء فيها، وكل شيء ليس فيها ممكن حتى الأشياء الأكثر جنونية والمشاهد الأكثر ميتافيزيقية.
ماذا كان صموئيل بيكيت سيقول عن رواية أفنان القاسم "وصول غودو" بعد انتظار دام أكثر من ستين عامًا؟ 
 
 
ramus105@yahoo.fr
 
* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...
 

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=17602
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 05 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29