• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : ستعيش ولكن كئيباً .
                          • الكاتب : ابو جعفر الكربلائي .

ستعيش ولكن كئيباً

في ساعة متأخرة من الليل لا يزال القلب يؤرق العقل ويمنعه عن تذوق طعم النوم، فتارة يستذكر صورة من الماضي فيحنّ ويشتاق، وأخرى يسابق الزمن فيغور في بهرجة عالَم جميل صنعه يوما بخياله وكان يأمل أن يكون المستقبل الذي هو الآخر أصبح من الماضي...

في خضم صخب القلب وضجيجه يتمتم العقل مستاءً: ما ذنبي حتى صرت رهين عواطف ومشاعر وهواجس لا يمكن تحقيقها كما لا يمكن إسكات هذا القلب الذي لا ينفك يبكيها دماً!!... آه حريّ بي أن أدفن هذا القلب المتولول وذكرياته حيّا لأحيا من أجل أهدافي التي رسمتها لنفسي...

بينما لا يزال العقل يتمتم ويتوعّد ويهدد طفح كيل القلب بهذه الإهانات فقدّم دموعه قبل صوته المتوجّع تشرح مأساته وسوء حاله قائلاً بصوت متألّم: لماذا كل هذه الإهانات؟ هل من الجريمة أن أستذكر ماضيك الجميل وأريد لك مستقبلاً سعيداً...

قاطعه العقل وأسكتَ كلماته الخافته، قاطعه بغضب صارخاً في وجهه: ماذا قلت؟ إهانات؟ ماضٍ جميل؟ لماذا تكذب على نفسك؟ هل نسيت أنك في ذلك الماضي السعيد كنتَ تُهان يومياً بسبب الأناقة والملابس والثقافات المتغايرة؟!

هل نسيت أنك مذ التقيت بغريب الأطوار ذاك لم تنم ليلة واحدة إلّا ووسادتك غارقة بدموعك؟ مرة تبكي من وجع الإهانة ومرة تبكي من ألم الشوق.

هل نسيت كم من ليلة وقفتَ على سجادة الصلاة تلتمس السماء أن تتمّ الأمور على خير يوصد غريب الأطوار ذاك أبوابه ويأنف من الحديث معك؟

هل نسيت أنّه لا ينظر إلى إخلاصك وشخصك وإنما ينظر الى ما يقوله عديمي الإنصاف عنك؟

وواصل العقل كلامه لكن بعد أن خفف حدّة نبرته: آه اسمعني أيّها القلب المسكين أنّا لا أريد أن أحفر في جراحك ولكن أريدك أن تتقبل الواقع وأن لا تنظر بعين واحدة للأشياء، يمكنك الاعتماد في ذلك عليّ ألم تقرأ معي ما قاله باروخ سبينوزا عني ، ألم يقل: (يمتلك العقل قوة أكبر على المشاعر، وهو أقل عرضة لها، بقدر ما يفهم أن كل الأشياء ضرورية)..

فاعترض القلب هنا قائلاً: كيف يمكنني ترك الأمور لك؟ ألا ترى إلى أين أوصلنا تفكيرك، ثمّ هناك ما يجب أن تعرفه جيداً إذ يبدو أنك تتغابى وتغالط نفسك.. هل قلت أنّك تعرضت للإهانة؟ ولكن هل يمكن لتلك الروح اللطيفة أن تتعمد إيذائك؟ من الواضح أنّ هناك سوء فهمٍ لم تتمكن من معالجته بشكل صحيح، ثمّ هل تحتجّ عليّ بما قاله سبينوزا يادودة الكتب.. يبدو أنكّ أنت وسبينوزا أيضا بسبب غطرسة الفلسفة لا تفهمان شيئاً عن المشاعر ....

فانحنى العقل مستعطفا القلب قائلا: مهلاً ياصديقي إذا كنت تريد خطاباً أدبياً فتفضل انظر ماذا يقول الشاعر ماجد العسيري:

وَما يُبْكِيكَ يَا قَلْبِي؟

أليْسَ الحُزْنُ قَدْ زَالا ؟

سَتَلْقَى بَعْدَ مَنْ رَحَلُوا

مِنَ الأحْبَابِ أبْدَالا

وَأرْضُ الله واسعةً

فُكُنْ فِي الأرْضِ رَحّالا

وَلَا تأْسَفْ على زَمَنٍ

أرَاكَ الحُزْنَ أشْكَالا

عندما سمع القلب هذه الأبيات ضحك ضحكة ممزوجة بالألم كعادته التي لم تفارقه منذ سنة ونصف تقريباً ثمّ قال للعقل ساخراً: أتظنّ نفسك الشخص الوحيد الذي يقرأ هنا.. هل نسيت أننا قرأنا هذه القصيدة معاً.. لماذا تتغابى عن تتمتها.. لا بأس سأذكِّرك بأنّ القلب قد دافع عن نفسه في آخر القصيدة قائلاً:

عذراً لا تُؤاخذْني!

فإن الحزنَ قد جالاَ

ولا تأسَفْ على قلبٍ

اتاه الهمُّ زلزالاَ

سألقى بعدما رحلوا

من الأحزانِ أهولاَ

فأرضُ اللهِ واسعةٌ

ولكن موطني زالاَ

فالإنسان الذي تهواه نفسك هو وطنك الذي لن تهدأ إلّا معه .

هنا ساد صمت رهيب بدا فيه العقل غارقاً بالتفكير والتأمّل ثم قال بصوت صادق وحازم: لا بأس يا صديقي أنّا اتفق معك ليس هناك بديلا في عالم المشاعر، اتفق معك لن يتعلق القلب إلّا بشخص واحد، ولكن.. لماذا تعلّقت أيها القلب المسكين بمن يؤذيك ويبكيك ولم تتعلّق بمن يحبك ويحرص على راحتك..

أرجوك إصغي لي أيها القلب المسكين أنا أفهم جيداً حالتك ومتعاطف معك ولكن أنت أيضا يجب أن تفهم أن الأمور على أرض الواقع قد سارت بما لا تشتهي السفن...

وأنا أملك أهدافاً في هذه الحياة  والتوقف عند هذه النقطة يعني الانتحار..

ثم إنني وإن لم أجد مَن أحبّه لكنّي قد وجدتُ من يحبني ويمد يده ليعينني على تحقيق أهدافي لذا أريد أن أقضي ما تبقى من حياتي معه بغض النظر عن حديث المشاعر والعواطف....

هنا ثار القلب صارخا: لا بأس اذهب وعش كما تريد لكن أقسم بالذي خلقك وفضّلك على خلقه ستعيش كئيبا وتموت كئيباً..

فقال العقل ببرود وهدوء: .. لا بأس، فأنا قد اعتدتُ على الكآبة وإن كنتُ لم أفقد ابتسامتي الدائمة لكنها باتت ممزوجة بالحزن والألم..

أعتقد أيها القلب المسكين أنّ النقاش قد انتهى، وأنا لم أعد أرغب بالنوم فهلمّ نجالس صديقنا الجديد الذي لا يزال ينتظر على رف المكتبة.. أعتقد أنه يحمل لنا مغامرة جيدة ...




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=175345
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 11 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28