• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : بداية العام الدراسي وحديث الصراحة .
                          • الكاتب : صلاح عبد المهدي الحلو .

بداية العام الدراسي وحديث الصراحة

دار هذا الحديثُ في مثل هذه الأيَّام، في ساعة الأصيل من مساء صيفٍ يحتضر، وقد سلَّم رقبَتَه بيد الخريف.
كُنَّا في بيتٍ من بيوت بعض الأحياء في الكوفة، بيتٍ يُذكّرُك بعراق الخير في السبعينيَّات، البناء الفخم، والحديقة الغنَّاء الواسعة والتي تُحيطُها أشجار النّارنج والبرتقال والليمون، ورائحة ورد الجوريّ وشجرة الرَّازقيّ تُنعشُ النّفوس.

 وقد دار الحديثُ حول المدارس، وأخذ بعضُ الكلام يجرُّ برقاب البعض الآخر، وقال مُضيّفي: اللَّازم على المعلَّمين في مدارسهم، والأساتذة في جامعاتهم أن يُعلّموا مادَّة التربيَّة الوطنيَّة للتلاميذ والطلبة كما تُعلَّم مسائلُ الفقه، وتُدرَّسُ أصول العقيدة، فكما لا غنى للإنسان عن التفقّه في الدّين، كذلك لا غِنى له عن تعلُّم حبِّ الوطن.

فتبسَّمتُ في سريّ، وأباح سرَّ النَّفس انفراجةُ الشَّفتين، فلحظ بعضُ الحضورِ ذلك، ولم يلحظْها المُتحدّثُ صاحب الدَّار وقد كان مشغولاً بصبِّ الشَّاي، فسألني عن سرِّها.

قلتُ وقد أخذتُ أُهبتي للحديث كالمدافع عن شرعيَّة الفكرة، والذابِّ عن حريمِ المقالة: الوطنيَّة ليست تربيةً ولا تعليماً، الوطنيَّة شعور، ويبدأ هذا الشُّعورُ في نفس الطفل وهو يرى أنَّ له في مدرسته رحلةً يجلسُ عليها، وكتاباً يقرأ فيه، وساعاتٍ من نهاره يقضيها في التعلُّم والدَّرس بين السَّبورة والطباشير، أمَّا إذا نشأ الطفلُ وهو يدفع عربة ليُعين عائلتَه، ويحرم نفسه من ألعاب الطفولة ليكدح في ساعات العمل، فهو سيكبر ولا يرى لهذا الوطن عليه حقَّاً ولا منَّة.

وحين يُكمل الطالبُ الجامعيُّ فيجد عند تخرُّجه من الجامعة فرصة عمل، وفسحة حريَّة وقدرةً على الزواج، ومكنَة من شراء بيت، عند ذلك يشعر بُحبِّ الوطن.

وليس معنى الوطنيَّة أن تتعصَّب لسياسيٍّ فتجعله تاج رأس، ولا لزعيم فتَتَّخذه إلهاً يُعبد، وليس معناها أن تتظاهر في كُلِّ حراك، وتُشاغب عند كُلِّ هبَّة، الموظف الذي يُنجز معاملات المواطنين في دائرته، والمُدرس الذي يُعطي حقَّ التعليم في صفّه، والطبيب الذي يُسعف المريض في مشفاه، وأمثالهم كلُّ أولئك لا يقلُّون عن المجاهد في ساحة حرب، والمقاتل على حدود وطن، والمتظاهر في حراكٍ سلميّ وطنيَّةً وإخلاصا.

امَّا أن تتظاهر بزعم طلب الحقوق وأنت تأكل حقَّ غيرك في مصنعك عاملا، ودائرتك موظفا، ومستشفاك طبيبا، وفي غير هذه غير هؤلاء، فثق لن يُخدع بك السياسيُّ الفاسد ولن يحسب لك حساباً؛ لأنَّه يدري أنَّك فاسدٌ مثله، يشتريك بالمال حيناً، ويُسكتُك بالسّلاح أخرى، وهو يدري أنَّك لن تُحرّك من كُرسيّه شعرة، ولا تُقلق من ليله مناما.

اعطني حقّي من خيرات هذا الوطن، أكن وطنيَّا، ولا تُعيرنَّ البائس الفقير أن كره تُراب هذي الأرض، ولم يُحبب ماءها.

فردَّ عليَّ معترض: وقول الشَّاعر: بلادي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ؟

فقلتُ: الشُّعراء يقولون مالا يفعلون، وقول الشاعر ليس آيةً ولا رواية، ولا فعله يُتأسى به، ويكون حجَّةً على السَّامعين.

اكتبُ كلماتي هذه ودوام المدارس من حولنا ثلاث ساعات، لثلاث مدارس، فكأنَّ هذه الساعات الثلاث يدٌ تطرد الطلاب إلى المدارس الأهليَّة رغماً عن أنوف آبائهم، ولسانٌ يقول: بهذا الدَّوام لا يفرق الصغير المتعلّم عن الطفل الجاهل سوى أن هذا تلميذٌ مُقنَّع ولكنَّه جاهلٌ وجها.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=173759
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 10 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18