• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : حوار مع الدكتور علي ناصر كنانه .
                          • الكاتب : عمار منعم علي .

حوار مع الدكتور علي ناصر كنانه

 الباحث والشاعر علي كنانة :

•      البارزاني يريد أن يحكم كردستان بقبضة من حديد ويتحكّم بالعراق كله بالضغوط والابتزاز و دعوته القادة السياسيين للاجتماع في أربيل تحمل إشارات سلبية عديدة
 
•        الديمقراطية تعيد إنتاج الحاكمين أنفسهم دون أية فرصة لتيارات أخرى 
•        إذا لم تلغ المحاصصة السياسية فلن يستقر الوضع في العراق ، وستكون مثل لبنان حيث صرفت لبنان  حتى الآن أربعين مليار دولار في قطاع الكهرباء دون أن تحل مشكلة الكهرباء وسيبقى التدخل الإقليمي والدولي في العراق قائماً 
•        الحديث عن ستار جبار يشيع في روحي حزناً كبيراً، فما زلتُ لا أصدّق أن ستاراً قد رحل هكذا فجأةً.
•        قانون الانتخابات تم تفصيله كي يفرز رموزاً سياسية بعينها  و الحاكم لن يصبح زعيماً وطنياً إلا إذا أقدمَ على قرارات تاريخية .
•        من المؤسف أن الإعلام العربي تآمر على الشعب البحريني وصوّر مطالب شعب بالإصلاح على أنها حركة طائفية
 
 
علي ناصر الكناني المشهور ب علي ناصر كنانة الشاعر والناقد و الباحث في قضايا الثقافة والإعلام
ولد  في مدينة (الرفاعي1959 ) وقبل أن يبلغ الخامسة عشرة ذهبت به الأقدار إلى مدينة بعقوبة  ليلتقي هناك الشاعر سفيان الخزرجي الذي كان يرعى مجموعة من الشعراء الصغار الذين لا يتجاوز عمر أكبرهم ستة عشر عاماً.. ليصبح أستاذه شعراً وفكراً. وكان عمره  خمسة عشر عاماً عندما قرأ لأول مرة في أمسية شعرية أقامها اتحاد شباب بعقوبة الجديدة عام 1973. كانت إغواءات العاصمة بغداد تناديه  فاستجاب لندائها ودرس الثانوية فيها، هناك حيث الاحتكاك المباشر بالحراك الثقافي الذي كان في قمة وهجه في سبعينيات القرن العشرين، ولكن هذا الوهج سرعان ما انطفئ بالحملة القمعية الشرسة التي شنتها السلطة ضد القوى الديمقراطية، الأمر الذي اضطرَّه إلى عبور حدود العراق إلى الكويت عام 1979 حاله بذلك حال جميع اليساريين العراقيين الذين كانوا يواجهون واحداً من خيارين: القبول بالتبعيث أو الموت. قصيدتان كان نشرهما في مجلة الطليعة الكويتية (وهي مجلة يسارية) مهدتا الطريق له للعمل مصححاً لغوياً بالمجلة التي بدأت فيها أولى خطواته في عالم الصحافة ليستقر لاحقاً محرراً صحفياً في صحيفة الوطن الكويتية حيث رافق الراحل ستار جبار لمدة اربع سنوات . وجاء الانهماك في الصحافة وأضوائها كما يقول على حساب الاشتغال المطلوب لإبداع القصيدة، حيث غلبَ المضمون السياسي على قصيدته. في 1985 تم اعتقالهما هو والراحل ستار جيار  وتسليمها للسلطات العراقية حيث مكث  في المعتقل لمدة ستة أشهر قبل أن يساق إلى جبهة الحرب مع إيران.. وهناك في الجبهة كرّس وقته للمطالعة وإعادة النظر بقصيدته  بعدها عبر الحدود العراقية نحو الكويت مرة أخرى عام 1988 متخفياَ في بيوت الأصدقاء لما يقرب من ستة أشهر قبل اعتقاله  وتدخّل الأمم المتحدة لحمايته في المعتقل لعدة اشهر توجه  بعدها إلى السويد لاجئاً سياسياً بجواز الصليب الأحمر الدولي في أبريل 1989 ولتصدر مجموعته الأولى (تراتيل لوعة الزنبق) عام 1990 على نفقة المجلس الوطني للثقافة في السويد. كرس وقته للدراسة وإعادة تأهيل نفسه أكاديمياً، فدرس في قسم الدراسات الثقافية بجامعة ستوكهولم ليحصل على البكالوريوس والماجستير. ثم عاد للكتابة في الصحافة الثقافية العربيه  حيث وفّرَ له الاستقرار الحياتي إنهاء دراسة الدكتوراه في الآداب في لبنان 2008، حول توظيف لغة الإعلام قبل وإبان الاحتلال الأمريكي للعراق 2003  وإصدار اثني عشر كتاباً حتى الآن في الثقافة والإعلام والشعر .
 
 
حاوره : عمار منعم
 
•        سبق وان ذكرت ان العراق سائر باتجاه النموذج الروسي الذي قام على أنقاض التجربة السوفيتية ممكن ان تبين لنا ذلك بشي من التفصيل وهل ما زلت على نفس الرأي؟
-        بعد احتلال العراق وانهيار الدولة وسيطرة الحاكم الأمريكي المدني على شؤون البلاد والدخول في المحاصصة السياسية المقيتة، تراءى لي وقتها أن تجربة العراق قد تتسم بملامح روسية (كما حدث في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي) وأخرى لبنانية. فقد سيطرت المافيات في روسيا على الحياة العامة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وأصبح الاقتصاد تحت قبضة العصابات التي لم تتردد في تصفية كل مَن يقف في طريقها.. وبعد أن انتفخَ رجال العصابات ثراءً دخلوا العملية السياسية وأصبحوا رجال دولة! ولعلّ ما جرى في العراق بعد الاحتلال مشابه لذلك ولكن بصورة معكوسة إذ تحوّلت بعض التنظيمات السياسية إلى مافيات مسلّحة، سرّاً أو جهاراً، تمارس في قطاعات الاقتصاد ومفاصل الدولة فساداً مالياً وإدارياً غير مسبوق جعلَ العراقَ واحداً من الدول الأكثر فساداً في العالم. وكما في روسيا حدث في العراق أن الديمقراطية تعيد إنتاج الحاكمين أنفسهم دون أية فرصة لتيارات أخرى، لأن المافيات السياسية تسيطر على كل شيء يؤدي إلى الفوز بالانتخابات والتحكّم بأجواء العملية السياسية.
أما الملمح اللبناني في التجربة العراقية الجديدة فهو جليٌ للعيان عندما أخذنا من لبنان أسوأ ما فيه وأعني المحاصصة سيئة الصيت، ومثلما ورثَ اللبنانيون المحاصصة السياسية من الاستعمار الفرنسي ورثناها نحن من الاحتلال الأمريكي. ومثلما بقيت المحاصصة في لبنان غير قابلة للتغيير منذ عام 1949 سيبقى العراق مرتهناً لهذه المحاصصة إلى أمد غير معلوم. وكما لم يفرّط المستفيدون من امتيازات المحاصصة في لبنان طوال لأكثر من ستين عاماً كذلك يفعل المستفيدون منها في العراق.فإذا كانت المحاصصة تجعل رئيس الجمهورية ووزير الخارجية كرديين، فكيف سيقبل الأكراد التفريط بهذين المنصبين السياديين إذا ما وافقوا على إصلاحات تقود إلى عملية ديمقراطية لا تقوم على التوافق والمحاصصة؟!. فهل يُعقل أن يكون للأكراد إقليمٌ خاص بهم بكل مواصفات الدولة المستقلة، لهم رئيس وحكومة وبرلمان وجيش، ولا يسمحون للحكومة الاتحادية بالتدخل في شؤونهم بأي شكل من الأشكال ويرفعون قميص عثمان بالتهديد بالانفصال كلما انزعج السيد البارزاني الذي لا يتردد عن الاستهتار بالدولة كلها وبالقضاء وهو يسمح للهاشمي المطلوب للقضاء بالسفر خارج العراق. ولا يمثّل سلوك البارزاني هذا إلا تحديّاً صارخاً للدولة المركزية. فهو يريد أن يحكم كردستان بقبضة من حديد ويتحكّم بالعراق كله بالضغوط والابتزاز. ولا تُفهم زيارته الأخيرة لواشنطن إلا أن مرجعيته غير عراقية، فهو قد ذهب لمناقشة شؤون العراق مع الأمريكان وكأن العراق لا يزال محتلاً. كما أن حديثه لقناة (الحرة) كان كارثياً بكل المعايير.وحتى دعوته القادة السياسيين للاجتماع في أربيل تحمل إشارات سلبية عديدة منها: الاستنكاف من الذهاب إلى بغداد، الشعور بأنه المركز الأقوى، عقلية "إذا لم تأتوا إلي لن أذهب إليكم"، إعطاء انطباع غير مباشر بأن احتضان بغداد للقمة لا يجعلها أهم من أربيل ولا يؤهلها لاحتضان الاجتماع.
وأنا أعتقد أن من حق الأكراد أن يكون لهم إقليم خاص بهم تابع للدولة العراقية وبرلمان وحكومة ويحكمون أنفسهم بأنفسهم ولكن لا يجوز لهم أن يحكموا كردستان كدولة مستقلة ويحكمونا ببغداد في الوقت نفسه!! أما إذا شاءوا الانفصال فأنا شخصياً أبارك لهم انفصالهم، ولهم الحق في تقرير المصير، لأنه ليس من الانصاف أن تكون هناك دول في المنطقة لا يتجاوز عدد سكانها مئات الآلاف ومساحتها أصغر من أية مدينة عراقية بينما لا يحصل الأكراد على هذا الحق وهم شعب عريق له خصوصية تاريخية وثقافية وجغرافية. والأكراد يريدون ذلك ويسعون من أجله ولكن الظروف الإقليمية والدولية لم تنضج لقبوله. وأي كلام سياسي وإعلامي فارغ بحديث بعض الأخوة الأكراد حول كون كردستان جزءاً من العراق هو كلام تضليلي، فلا يوجد كردي يريد أن يشعر بهذا الشعور منذ عام 1991. 
كما أنني ضد تشكيل أقاليم أخرى في العراق لأنها مقدمة صريحة لتقسيم العراق، وهذا موضوع آخر.
وإذا لم يتفق العراقيون على إلغاء المحاصصة السياسية أو ما يُدعى بالديمقراطية التوافقية بعد الانتخابات المقبلة والقبول بالصيغة الديمقراطية المتعارف عليها في العالم كله، فلن يستقر الوضع في العراق أبداً، وستكون حالنا في أفضل الأحوال كمثل الوضع في لبنان حيث صرفت الدولة اللبنانية حتى الآن أكثر من أربعين مليار دولار في قطاع الكهرباء دون أن تحل مشكلة الكهرباء في بلد لا تتجاوز مساحته عشرة آلاف كيلومتر مربع، لأن غالبية هذه المليارات تذهب إلى جيوب الفساد وليس للاستثمار الحقيقي في قطاع الكهرباء. وسيبقى التدخل الإقليمي والدولي في العراق قائماً كما هي الحال في لبنان.
 
•        سبق وان ذكرت أيضا أنه إذا ما رحل الاحتلال واستقرت التجربة الديمقراطية في العراق فان جيلا جديد من السياسيين سيظهر على الساحة العراقية بدل من الجيل الأول وهو الذي سيبني العراق بناءً حقيقيا .
-        في جميع التجارب العالمية، عندما ينسحب المحتلون من بلدٍ ما، يرحل معهم عادةً حلفاء ورموز عهد الاحتلال، ويتصدى للمسؤولية جيل آخر من رجال الدولة من الذين ناضلوا من أجل حرية البلاد سابقاً واستقلال البلاد لاحقاً أو الذين لم يتلوثّوا بممالأة المحتلين. ولكن العراق، كعادته في طبيعته الاستثنائية، لم يحدث فيه شيء من هذا القبيل، بل أن الرجال الذين قاوموا الاحتلال فعلاً، وتحديداً شباب التيار الصدري وأمثالهم، ما برحوا في السجون بالرغم من رحيل المحتلين. ولم نشهد في العراق بعد انسحاب الجيش الأمريكي ظاهرة شعبية واسعة يمكن أن تفرز قيادات جديدة. ولكن الظروف غير العادية في العراق ربما لن تسمح بمثل هذا الفعل الشعبي، لأن الناس مشغولون بأمنهم وكهربائهم وخدماتهم وبطالتهم. وآمل أن تفرز الانتخابات المقبلة وجوهاً جديدة لم يلوّثها الفساد، إذا ما تم تعديل قانون الانتخابات الذي تم تفصيله هو الآخر لكي يفرز رموزاً سياسية بعينها. وما أخشاه أن يحدث في العراق أيضاً ما يحدث في لبنان خلال فترة الانتخابات. فإذا ما ذهبتَ إلى لبنان لن تجد لبنانياً لا يلعن الطبقة السياسية، ولكن عندما يحين وقت الانتخابات يتبخّر كل هذا الامتعاض وينخرط الجميع في اصطفافات عرقية ودينية وطائفية ليمارسوا اقتراعاً يأتي، كما هي العادة، بالرموز السياسية نفسها، ويظل الوضع على ما هو عليه. لقد سمعت السيد المالكي يقول بعد مؤتمر قمة بغداد: (لقد ولّى زمن الصفقات وحان زمن بناء الدولة).. آمل ذلك. ومن المعروف تاريخياً أن السياسي أو الحاكم لن يصبح زعيماً وطنياً إلا إذا أقدمَ على قرارات تاريخية. 
 
•        عملت في صحيفة الوطن الكويتية مع الراحل ستار جبار وسبق إن وصفته بأنه زميل عمل وسكن وتجربة ثورية ممكن ان تتحدث لنا على ذكرياتك معه خلال عملكم في جريدة الوطن الكويتية بشيء من التفصيل
-        الحديث عن ستار جبار يشيع في روحي حزناً كبيراً، فما زلتُ لا أصدّق أن ستاراً قد رحل هكذا فجأةً. جاءتني مكالمة هاتفية من صديقي ستار السكيني المقيم حالياً في لندن (وهو صديق مشترك لنا)يعاتبني كيف لم أرثِ صديقي؟ وصدمتُ حين أنبأني بالرحيل المفاجئ لستار بعد معاناة مع المرض، ولم أكن أعلم أصلاً أن الراحلكان مريضاً. وحين جاء ستار السكيني للدوحة زرته أنا وابني للفندق ليروي قصة رحيل ستار جبار ولم أتمالك نفسي واختنقتُ بالبكاء. عدتُ للمنزل محاولاً الكتابة:
(فاجأتَني يا صديقي..
وأسلمتَني للنواحْ
على بعضِ قلبٍ تلحُّ الجراحْ
كأنَّ الحياةَ سدىً
والنهايةَ محضُ اقتراحْ
للبكاءِ عليكَ يا صاحبي
والسلامِ عليكَ
يومَ كنّا معاً في الجريدةِ 
والبيتِ والسجنِ
وكيفّ حفظتَ،
أحيّيكَ، ما لا يُباحْ
كيفّ يا صاحبي
هكذا بغتةً لا يعودُ الصباحْ؟
ويمضي بكَ الليلُ
نحو السكونِ الأخيرِ
ويمضي بنا للصياحْ
أرجوكَ.. دعنا معاً
نستعيد شذى الذكرياتِ
في المفرِحاتِ والمترِحاتِ
يومَ كانَ النباحْ
عالياً
وكنّا نغامرُ
في طرقاتِ الكفاحْ)..
ولم أستطع إكمال القصيدة لأن صورة الحزن أكبر من قدرة اللغة على استيعابها.
أعود لإكمال الإجابة على سؤالك.. من الصعب اختصار فترة عشناها معاً كصديقين بكل تفاصيلها اليومية لمدة أربعة أعوام 1981- 1985. إن الحديث عن علاقتي بستار لا تتسع له مقابلة صحفية، فهي سنوات الشباب عشناها معاً بالكويت وكانت تضج بالأحداث الشخصية والعامة. فهو صديقي ورفيقي وزميلي في العمل والسكن وشريكي في السرّاء والضرّاء. وبالرغم من كوني شخصاً زعولاً وسريع الغضب ولكن لم يحصل أن اختلفنا أنا وستار طيلة صداقتنا وكان كل منّا يحمي الآخر في غيابه. وسأحاول هنا أن أسلّط الضوء على الجوانب الإنسانية لصداقتنا فضلاً عن العملية.
كان ستار مسؤولَ قسمِ الاستماع في إذاعة الكويت نهاراً ورئيس قسم الاستماع في صحيفة الوطن مساءً، وكنتُ محرراً صحفياً في الصحيفة نفسها وقد بدأتْ صداقتنا عام 1981 (يوم كنا في الثالثة والعشرين). رسّخَ ستار جبار مكانته الصحفية في السنوات اللاحقة وأصبحت لديه علاقات واسعة بالشخصيات السياسية العربية، خصوصاً الفلسطينية، وكان يحصل للصحيفة على أخبار سياسية خاصة تتصدر الصفحة الأولى.
كان الراحل ستار جبار دمثَ الخلق، كريماً، لا تفارق الابتسامة وجهه، وتربطه علاقات طيبة بجميع المحيطين به، يتفوّق علينا جميعاً في أناقته، يتحدث بلهجة قريبة من الفصحى وبنبرة خطابية، كانت حياتُهُ كلها عبارة عن رحلة في الحلم، فهو يعيش مادياً في الواقع ولكنه يحلّق روحياً في عالمٍ يحلم به ويتوق إليه. كنّا ثنائياً تمثّل تفاصيلُ تجربته الشبابية حكايةَ جيلٍ مناهض للدكتاتورية، بكل اندفاعات وأحلام وخيبات وعذابات وغربة هذا الجيل.فقد كنا، هو وأنا، نعيش لأحلامنا وتطلعاتنا الشخصية كشباب ونعيش لأحلامنا في عراق ديمقراطي بآنٍ واحد وبتوازن مقبول، ولا أحد يعرف كيف كنا نناضل سرّاً من أجل العراق في ظروف صعبة، وهذا موضوع لا يجوز كشف تفاصيله في لقاء صحفي. وقد تحوّلت الزمالة الصحفية إلى صداقة عندما طلب مني ستار اللقاء في بيتي، لاكتشف حينها أنّ كلينا معجبان في الوقت نفسه بفتاة معينة تعمل في الصحيفة. فانسحبتُ لصالحهِ ليشكّل موقفي أساساً قوياً لصداقتنا اللاحقة. وقد عارض أهل الفتاة زواجه منها لأنه من غير جنسيتها، وقد عانى كلاهما كثيراً. ومن ثم تمت خطوبته لفتاة عراقية في الكويت، وأقمنا حفل الخطوبة في فندق (الهوليداي إنْ) حيث كنت أنا عريف الحفل الذي غنّى فيه الفنانان الصديقان فؤاد سالم وقحطان العطار. وبعد حوالي سنتين تشاركنا في السكن بشقة في شارع بغداد، حينها تعمّقت الثقة فيما بيننا، وقد فاتحته أن يكون رفيقي في النضال ضد الدكتاتورية،وقد قطعنا شوطاً في هذا الاتجاه. ولكن أمراً مفاجئاً حدث في الثالث والعشرين من أبريل 1985 عندما تم اعتقالنا من قبل جهاز أمن الدولة وإيداعنا في زنزانتين منفردتين لمدة أسبوعين تمّ بعدها إبعادنا إلى العراق، حيث مررنا بجميع "العامّات" بدءاً بأمن البصرة، ثم أمن بغداد، والمخابرات العامة، والأمن العامة، ومن الأمن العامة تم اطلاق سراح ستار لأنه كان قد دفع بدل الخدمة العسكرية  للسفارة العراقية في الكويت (2000 دينار كويتي) بينما تم إرسالي إلى مديرية الاستخبارات العامة لأمكث هناك مدة أسبوعين ومنها إلى التسفيرات ثم إلى الخدمة العسكرية في الأول من سبتمبر 1985.
وقد شهدت فترة اعتقالنا أحداث وطرائف وقصص لا يتسع لها المجال، ولكن أهم ما فيها أن ستاراً لم يبح بالسر الذي قد يقضي علينا إذا انكشف، وأعني تفاصيل عملنا النضالي. ومن أطرف ما حدث خلال فترة الاعتقال وما يدل على الخلق العالي لستار، عندما أدخلونا معصوبي العيون إلى مبنى المخابرات العامة، سلّمنا ملابسنا وحاجياتنا الشخصية وأعطونا بيجامات جديدة وأواني للأكل ونعالاً، ولم يكن قد تبقّى لديهم إلا نعال واحد، فقالستار:(البسه أنت)، وبقي هو حافياً. وفي أحد الأيام استدعونا كلاَ من زنزانته للتحقيق وصعدنا المصعد الكهربائي بصحبة أحد الحراس وأعيننا معصوبة ونرى الأرض من الأسفل، وفي المصعد رأيت قدمي ستار حافيتين، سلّمنا على بعضنا بعضاً وابتسمتُ ابتسامةً لاحظها الحارس، فزجرني قائلاً (ليش تضحك؟) قلت له: (رأيت ستار حافياً وضحكت).. فضحك ستار وضحك الحارس معنا.
كنتُ التقي ستار ببغداد خلال إجازاتي الشهرية من الخدمة العسكرية، وتزوّجَ ستار من سيدة عراقية عرفّني عليها خلال لقاء في شارع أبي نؤاس وعرّفته على ولديَّ(فهد وحازم). وفي عام 1988 غادرت أنا العراق عبر الحدود إلى الكويت لأختفي هناك ثم يتم اعتقالي وتتدخل الأمم المتحدة لحمايتي وتدبير لجوء سياسي لي إلى السويد التي توجهت إليها بجواز الصليب الأحمر الدولي في 23 أبريل 1989، في مصادفة غريبة، فهو نفس التاريخ الذي تم فيه اعتقالي عام 1985. ولم أستطع التواصل مع ستار إلا بعد أن فوجئت بنشر جريدة "البينة الجديدة" خبراً عن صدور سلسلة دراسات ثقافية التي أشرفتُ على إصدارها عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث في قطر عام 2006 وبعدها جاءني اتصال هاتفي من ستار بعد أن استطاع الحصول على رقم تلفوني من خلال خبر السلسلة. وعاد تواصلنا.. ولا أنسى كيف اتصل بي في تموز 2009 وكنت في طريقي بالسيارة (خلال إجازتي الصيفية) من بيروت إلى جنوب لبنان عند مشاهدته لحلقة تلفزيونية معي في برنامج (جاوين أهلنه) على قناة البغدادية. وبعد وصولي للجنوب كلمته طويلاً وهو يقول لي (لقد أبكيتني في هذه المقابلة). وبعد عام أو أكثر، لا أتذكر تحديداً، أخبرني صديق لبناني مشترك لنا أنه قابل ستار في بيروت وقد لاحظ أنه كان مُتعَباً ويحيط وجودَهُ بسرية تامة. ولم أفهم. ومن حينها لم أسمع أخباره حتى جاء الخبر الحزين برحيله. ولا بدّ من الإشارة إلى أننا، في كل ما تحدّثتُ عنه، كان عمرينا بين الثالثة والعشرين والسابعة والعشرين. ولهذا كنا مغامرين، نخطئ ونصيب.
 
•        أصدرت مجموعة من الكتب الاعلامية اغنت المكتبة الاعلامية والثقافية العربية ماهي مشاريعكم المقبلة؟
-        تعاضدت اهتماماتي الشخصية مع دراستي الأكاديمية لينصّب جلَّ اهتمامي على الدراسات الإعلامية والثقافية، وللأسف على حساب الشعر الذي أصدرت فيه خمسة دواوين. وفي مجال الدراسات الإعلامية صدر لي عام 2006 كتاب (الإعلام وأنظمة الإيهام)، وفي 2011 صدر لي عن دار الجمل (جيوش اللغة والإعلام- دراسة في لغة وإعلام الغزو الأمريكي للعراق) في 608 صفحات. وفي مجال الدراسات الثقافية صدر لي عام 2009 كتابان عن دار الجمل أيضاً هما (إنتاج وإعادة إنتاج الوعي- عناصر الممالأة والتضليل) و (اللغة وعلائقياتها). وكان صدر لي عام 2004 كتاب في الفكر والسياسة (حفاة العولمة- قراءة نقدية لقضايا الواقع العربي). ولدي عدة مخطوطات جاهزة للنشر، منها قيد الطبع ببيروت (المنفى الشعري العراقي- انطولوجيا للشعراء العرقيين في المنفى عبر العصور) وهو منجز منذ عام 2006، أما المخطوطات التي تنتظر النشر فهي:  (تجليات الثقافة – السطح والأعماق)و(ما يبدعه الشعراء) و(التزام الوردة- دراسة في الالتزام الجمالي، توماس ترانسترومرأنموذجاً)، و(عن قرب- مقالات ثقافية). وأتطلّع لمن يتبنّى إصدار أعمالي الشعرية في العراق في كتاب واحد. وأعمل حالياً على دراسة ثقافية تتناول الأغنية العراقية للفترة 1920- 1980، وقد بدأتُ بها في أواخر 2011 وأحتاج عدة أشهر أخرى للانتهاء منها. ولديَّ أفكار أخرى لمشاريع كتب أتمنى إنجازها.
 
•        كيف تصف لنا الواقع الاعلامي العربي والعراقي الحالي هل يستطيع الصمود بوحه الغزو الثقافي العالمي؟
-        يلعب الإعلام دوراً خطيراً في التأثير بالوعي الجماعي، ويعتبر الوسيلة الأخطر في الغزو الثقافي. ولكننا إذا أحسنّا وضع البرامج سنخلق جيلاً ذا رؤية نقدية لا ينجر وراء الأهواء الإعلامية التي تخدم أجندات محددة. ومن المؤسف أن غالبية المؤسسات الإعلامية الإخبارية العربية الكبرى بعيدة عن المهنية وتخدم أجندات داخلية وخارجية لا تلتقي مع تطلعات العرب في مستقبلهم. ولكن علينا أن لا نستغرب، فتاريخ العالم كله تاريخ صراع بين أجندات خفيّة، وكلٌّ يندفع نحو ما يخدم مصالحه. وعلينا أن لا ننتظر من الآخرين أن يخدموا مصالحنا إذا لم نهب لخدمتها نحن.
ولكي نفهم آليات الغزو الثقافي ينبغي أن نتذكّر جملةً من الحقائق الراسخة في زمن ما قبل العولمة وثورة المعلومات:
أولاً: أن القوة تشيعُ ثقافتَها، ومن يملك القوة تهيمن ثقافتُهُ على الثقافات الأخرى.
ثانياً: أن اللغة هي مركب الثقافة، أي أن العملية تتداخل بشكل لا فكاك له: فلكل لغةٍ ثقافتُها، تحملها معها، وحيثما تتوسع اللغة تتوسّع رقعة ثقافتها. وحيثما تذهب الثقافة تستدعي لغتها. أي أن أيَّ تعاطٍ مع أي من الاثنتين (اللغة والثقافة) يعني تعاطياً حتمياً مع الأخرى.
ثالثاً: ثنائية اللغة والثقافة تصدّر معها ملامحَ الهوية لتكتمل الثلاثية: اللغة والثقافة والهوية. الأمر الذي يعني أن الخصوصية الثقافية (وهي جوهر الهوية) ستتعرض للاختراق.
وفي زمن ما قبل العولمة كانت الدول التي تحرص على خصوصيتها الثقافية تلجأ إلى الانغلاق ومقاطعة ثقافة الآخر لتنجح في مقاومة أسلحة الغزو الثقافي المذكورة آنفاً. أمّا وقد اجتاحت العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية العالم كله وأصبحت الشبكة العنكبوتيةهي شبكة حياتنا من أبسط صغائرنا إلى أكبر قضايانا، وقد أصبحنا مخترَقين طولاً وعرضاً، لم تعد أية مقاومة قادرة على التصدي للغزو الثقافي المؤمرَك. فالعولمة أصلاً مفردة إيهامية تعني الأمركة. وبالتالي، لا بدّ من وضع برامج دولة تجعلنا ننخرط في العالم لنستفيد من خبراته، وفي الوقت نفسه نعمل على تحصين خصوصيتنا الثقافية وهويتنا القومية والوطنية، ولا يمكن تحقيق ذلك دون مجموعة من الإجراءات:
- منهَجة الثقافة في التعليم وتعزيز مفردات الهوية منذ المرحلة الابتدائية.
- تطوير المحتوى العربي على شبكة الانترنت.
- وضع خطط وبرامج مؤسساتية يُقبل عليها الشباب لتحصينهم ثقافياً.
- تحفيز دور الإعلام في صناعة الوعي.
 
•        الكثير من القنوات الفضائية العربية تروج للتسلية وتسطيح العقول وسلب الهوية العربية هل تتوقع ان هذا الامر يتم بتخطيط خارجي دون علم الأنظمة العربية ام بموافقتها ؟
-        لقد شهد الفضاء الإعلامي العربي في العقدين الأخيرين استثماراً سلبياً لثورة الاتصالات والمعلومات عندما ازدحم هذا الفضاء بقنوات تلفزيونية، أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تهدف إلى تسطيح العقول وتجهيل الناس ومحاكاة غرائزهم لتطيح بثقافة ووعي الأجيال حتى يتمكن الحاكمون من إحكام الهيمنة وإدامة الاستبداد. وقد جاءت وفاة الملك فهد بن عبد العزيز لتكشف لنا عما لم يعرفه أحد من قبل، عندما أوقفت جميع هذه القنوات السطحية بثّها وراحت تبث القرآن الكريم وأناشيد سعودية وصور الملك الراحل، ليتبين لنا أن كل هذه القنوات كانت بتمويل سعودي. ومن المؤسف أن تُستخدم الثروات العربية لتسطيح العقل العربي. وقد ذهبَ بنا الظن بأنهم قد قضوا على وعي الشباب العربي، ولكن كل محاولاتهم ذهبت أدارج الرياح عندما استفاد الشباب العربي من ثورة المعلومات بالرغم من كل جهود التسطيح والتضليل لينهض بثوراته ضد الطغاة. وأعتقد أن الوضع قد تغيّر كثيراً حالياً وسارت اهتمامات الشباب باتجاه آخر لا يلتقي مع توجهات أنظمته وإعلامها التضليلي. ومن المحزن أن مصالح الأنظمة العربية في إدامة حكمها تلتقي مع مصالح أعداء الأمة. ولهذا فإن الأنظمة العربية تخدم الأجندات الخارجية دون أن يُطلب منها وهي تفعل ذلك لأن مصلحتها تقتضي هذه الخدمة.
 
•        كيف ترى مستقبل الدول التالية سوريا، ايران، السعودية، البحرين، العراق في ظل التغيرات السياسية الحالية ؟
-        لنأخذ هذه البلدان واحداً واحداً لأن لكل منها خصوصية في حالته، ودعنا نبدأ من العراق. لا أؤمن مطلقاً بأية عودة لأي شكل من أشكال الدكتاتورية في العراق مثلما لا عودة للاتحاد السوفييتي. والعراق ذو وضع معقّد ناتج عن مجموعة عوامل منها: المحاصصة السياسية والديمقراطية التوافقية والدعم الإقليمي لبعض الفئات العراقية والفساد المالي والإداري ومشكلة رئاسة إقليم كردستان. وقد تطرقنا للوضع العراقي سابقاً.
بالنسبة لإيران، وبعد أن نجحت في مماطلة القوى الغربية فإنها ستصبح قوة إقليمية كبرى إذا ما حصلت على الطاقة النووية، وضمناً السلاح النووي. ولكن على المستوى الداخلي لا بد من إجراء إصلاحات وانفتاح مدني أكبر.
وحتى لو بقي النظام في سوريا، فإن الأحوال قد تغيّرت ولم يعد بإمكانه أن يحكم بعقلية التفرّد البعثي بالسلطة. ولا مفر من عملية ديمقراطية يشعر فيها الشعب السوري أنه يشارك في صنع قرار حاضره ومستقبله. وأي تدخل عسكري خارجي في سوريا سيكون كارثة على مستويات كثيرة.
أما السعودية فهي دولة تقيم خارج العصر لا سماح فيها لأبسط الحريات الاجتماعية ناهيك عن السياسية، ولا بديل عن إصلاحات جذرية، فلا أحد بمنأى عن الخطر لأن لا أحد كان يتصور اندلاع ثورة في مصر ورغم ذلك وعكس كل تلك التصورات اندلعت الثورة.
وبما يخص البحرين، فلا يمكن أن تسمح السعودية بأي تغيير ديمقراطي فيها لأن ذلك سينعكس على الأوضاع في السعودية. ومن المؤسف أن الإعلام العربي تآمر على الشعب البحريني وصوّر مطالب شعب بالإصلاح على أنها حركة طائفية.
 
•        كلمة أخيرة تنصح بها الاعلاميين والسياسيين العراقيين.
-        أنا لا أنصح.. فهذا ليس عملي ولا أقبل أن أكون واعظاً، فالكل يعرف قيم الخير وقيم الشر، ومفردات الخطأ ومفردات الصواب، وما هو لصالح العراق وما هو لغير صالح العراق، فهذا عراقنا جميعاً، فإمّا أن ننقذه معاً من الجُب ونباهي به العالم وننشئ نهضة عظيمة نتوافر على جميع شروطها، أو أن نتخاذل ونتركه في مهب الريح يتقاذفُ مصيرَهُ مَن تحرّكهم نوازعٌ عرقية وطائفية وحزبية وذاتية وارتباطات خارجية.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=17038
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 05 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28