• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : قضية رأي عام .
              • القسم الفرعي : قضية راي عام .
                    • الموضوع : الحكمة الإلهية من خلق الإنسان .
                          • الكاتب : السيد منير الخباز .

الحكمة الإلهية من خلق الإنسان

 ما هي الحكمة الإلهية من خلق الإنسان وهو يعلم أن أغلبه عاصٍ ومتخلفٌ عن الهدف؟ وبصياغة أخرى لهذا السؤال: تخلّف الهدف يكشف عن خلل في المنتَج، والخلل في المنتَج يكشف عن خلل في كيفية الإنتاج.

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ صدق الله العلي العظيم

إذا سمع الإنسانُ أو قرأ هذه الآيةَ المباركةَ، يتبادر إلى ذهنه سؤالان:

السؤال الأول: ما هي الحكمة الإلهية من خلق الإنسان لأجل العبادة، وهو يعلم أن أغلب البشر لن يعبدوه؟ ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾، ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾.

مثلًا: لو أنَّ إنسانًا أقام مصنعًا لصناعة أجهزة كمبيوترية أو لصناعة أجهزة اتصال، الهدف من صنع هذه الأجهزة أنها تساعد الإنسان على الاتصال السريع بينه وبين الآخرين، وصار هذا المصنع ينتج في السنة ألف جهاز مثلًا، ولكن الجهاز الذي يعمل عشرون جهازًا من ألف جهاز، مصنع يصنع في كل شهر ألف جهاز بهدف توفير الاتصال السريع بين أبناء البشر، لكن المقدار الذي يعمل من هذه الأجهزة عشرون جهازًا فقط، إذن الهدف قد تخلّف، الهدف من صنع هذه الأجهزة – وهو توفير الاتصال السريع – قد تخلّف، لأن عشرين جهازًا فقط يعمل، والباقي لا يعمل، تخلّف الهدف هنا يكشف عن خلل في المنتَج، أن الجهاز لم يُنْتَج بالنحو المطلوب الذي يوصله للهدف، والخلل في المنتَج – وهو الجهاز – يكشف عن خللٍ في كيفية الإنتاج، وفي كيفية الصنع، وفي إعداد وسائل الإنتاج.

إذن، إذا كان الهدف من خلق المليارات البشرية أن تصل إلى العبادة، والذي يصل إلى العبادة واحد بالمليون من هذه المليارات البشرية، إذن تخلّف الهدف يكشف عن خللٍ في المنتَج، أن هذا الإنسان ما خُلِق بالنحو الذي يوصله إلى تحقيق الهدف، ألا وهو العبادة، والخلل في المنتَج يعني الخلل في كيفية عملية الإنتاج، فما هو الجواب؟

والسؤال الآخر: إذا كان الله تبارك وتعالى قد خلقنا لأجل العبادة، فمقتضى الحكمة أن يهيّئ لنا كلَّ الظروف وكلَّ العوامل المناسبة والمشجعة والمهيِّئة لعملية العبادة، فلماذا خلق لنا العوائق أمام العبادة؟ خلق لنا إبليس، خلق لنا الشهوات، هذه عوائق أمام العبادة، عوائق أمام الوصول للهدف، فهل ينسجم مع حكمته أن يخلق البشرية لأجل الوصول للعبادة، ويخلق العوائق أمامهم التي تمنع وصولهم لهذا الهدف، ألا وهو هدف العبادة؟

ما هو الجواب عن هذه الأسئلة؟

أتحدث عن عدة أمور تؤدي بنا لمعرفة الجواب الشامل لهذه الأسلئة المطروحة.

الأمر الأول: العبادة هدف لنوع الإنسان لا لأفراده
قوله تبارك وتعالى حول الحكمة الإلهية من خلقة الإنسان: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ناظرٌ للنوع وليس ناظرًا للأفراد، كما يقول علماء النحو: كلمة ال الموجودة في الآية ال الجنسية وليست ال الاستغراقية، فمثلًا: عندما نقول: الإنسان خيرٌ من الحيوان، لا نعني بذلك أن كل إنسان فهو خير من الحيوان، ليس المراد بال هنا ال الاستغراقية، لا نقصد أن كل فرد من الإنسان فهو خير من الحيوان، بل بعض الحيوانات أفضل من الإنسان.

”إن الله تبارك وتعالى خلق الملائكة عقلًا بدون شهوة، وخلق البهائم شهوةً بدون عقلٍ، وركّب في الإنسان عقلًا وشهوةً، فمن غلب عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلبت شهوتُه عقلَه فهو أدنى من البهائم“، ليس كل إنسان أفضل من الحيوان، فعندما نقول: الإنسان خيرٌ من الحيوان، يعني نوع الإنسان لا كل إنسان، نوع الإنسان خير من نوع الحيوان، النظر هنا للنوع.

هنا الآية المباركة عندما تقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ﴾ لا تقصد كل إنسان، لا تقصد الأفراد، يعني ما خلقت هذا النوع – وهو نوع الإنسان – إلا لكي يصل إلى العبادة، والعبادة طريقٌ إلى الكمال، يعني إلا لكي يصل إلى الكمال، فإذا وصلت نخبةٌ من هذا الجمع، من هذا المليار البشري، وصلت إلى الهدف – وهو العبادة – فإن الهدف لم يتخلف، لأن الهدف رُبِط بالنوع ولم يُرْبَط بالأفراد، والنوع قد وصل إلى الهدف ولم يتخلف عنه، بوصول نخبةٍ وجماعةٍ من هذا المليار، من هذا النوع، إلى الهدف المطلوب، وهو الكمال عن طريق العبادة.

الأمر الثاني: ضرورة صراع الأضداد
هذا الوجود بأسره الذي خُلِقْنا فيه، هذا الوجود المادي الذي خُلِقنا فيه ونعيش في ظلاله، له مسيرة، يسير نحو مسيرة معينة، ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، كل شيء يسير نحو هدف، هذا الوجود كله سائرٌ نحو هدف معين، هذا الوجود كله سائر نحو غاية معينة، هذا الوجود بما أن له مسيرة، وبما أن له هدفًا، إذن هو مترابط، لا يعقل أن يكون الوجود مفكّكًا، لا بد من الترابط، ما دام لهذا الوجود كله مسيرة وهدف إذن هذا الوجود كله مترابط، يربط بعضه بعضًا، يكمل بعضه بعضًا، يتمم بعضه بعضًا، وجود مترابط، يتبع بعضه البعض الآخر، كيف يصبح هذا الوجود مترابطًا؟

حتى يتحقق الارتباط بين أجزاء الوجود لا بد من وجود الشيء وضده، يوجد ضعف وتوجد قوة، يوجد نقص ويوجد كمال، يوجد شقاء وتوجد سعادة، يوجد تعب وتوجد راحة، يوجد ألم وتوجد لذة، لا بد من وجود الأضداد؛ لأن الضد لا تظهر طاقته إلا بوجود ضده، أي ضد لا يمكن أن تظهر طاقته وأن تظهر كوامن ذاته إلا بالمزاحمة مع ضده الآخر، ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ﴾، لا بد من المزاحمة، لا بد من صراع الأضداد، صراع الأضداد يكشف عن طاقة الضد، يكشف عن كوامنه، يكشف عما أُضْمِر في ذاته، هذا الوجود لا يستمر حتى يترابط، ولا يترابط حتى تكون هناك أضداد، كل ضد بمزاحمته للضد الآخر يظهر طاقته، يظهر كامن ذاته، «والضدُّ يُظْهِر حُسْنَه الضِدُّ».

لذلك، لو لم يكن هناك شقاء لما عرفنا معنى السعادة، لو لم يكن هناك ألم لما توصلنا إلى شيء اسمه اللذة، لو لم يكن هناك نقص لما عرفنا شيئًا اسمه كمال، لا بد من الصراع بين الأضداد حتى تتبين أسرار أضدادها، ولأجل ذلك لا يمكن للإنسان أن يقول: أنا أسير في هذا الوجود نحو الكمال من دون موانع، لا يوجد داعٍ لشيطان ولا لشهوات ولا لعوائق، أنا أسير في طريق معبّد مهيَّأ مرتاحًا فيه إلى أن أصل إلى الكمال! لا يمكنك أن تصل إلى الكمال عن طريق العبادة إلا إذا ظهرت طاقاتك، وظهرت كوامن ذاتك، ولا يمكن أن تظهر طاقاتك وكوامن ذاتك إلا بالصراع مع الأضداد، بالمزاحمة مع الأضداد.

إذن، وجود الشيطان، وجود الشهوات، عنصرٌ ضروريٌّ لمسيرة الوجود، لا بد منه، حتى يسير هذا الوجود نحو الهدف لا بد من اختلاف أنحاء هذا الوجود، واختلاف الأنحاء عنصرٌ ضروريٌّ لبروز الطاقات وكوامن الذوات، إذن وجود الشيطان عنصرٌ ضروريٌّ، ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾، هذا الصراع بين الأضداد، بين عقل وشهوة، بين فكر وشيطان، هذا الذي يُظْهِر طاقة الإنسان ومسيرته نحو الكمال. إذن، لماذا خلق العوائق أمامنا؟ خلق العوائق لأن مسيرة الوجود تتوقف على الصراع بين الأضداد، حركة الوجود نحو الغاية ونحو الهدف تتوقف على الصراع بين الأضداد.

الأمر الثالث: شمولية قانون الأضداد
هذا الشيء لا يختص بالإنسان، فمثلًا: نحن نزرع ألف بذرة، لماذا نزرع هذه البذور؟ حتى تنتج، نحن نزرع ألف بذرة ونريد من الألف أن تنتج لنا ألف شجرة تفاح، هل الجميع ينتج؟ لا، هل الجميع يثمر الثمرة المطلوبة؟ لا، حتى الشجر المثمر يتفاوت، بعضه يثمر ثمرة أجود، بعضه يثمر ثمرة أقل جودة، لماذا؟ لأن مسيرة الوجود بُنِيَت على الصراع بين الأضداد، هذه البذرة تصارع البيئة، تصارع العوامل الأخرى، تصارع عوامل الطبيعة المختلفة، حتى تبرز طاقتها، وتبرز كوامن ذاتها، ثم تسير إلى أن تصبح شجرة، فقد تؤثر عليها العوائق فلا تنتج، وقد تصمد أمام العوائق فتنتج، هذا ليس أمرًا خاصًا بالإنسان، مسيرة الوجود بُنِيَت على الصراع بين الأضداد، وإلا لا يمكن اكتمال هذه المسيرة بدون الحركة، وبدون الصراع بين الأضداد.

الأمر الرابع: خطأ قياس المنتَج الاختياري بالمنتَج غير الاختياري
بعد أن عرفنا أنَّ الهدف هدفٌ للنوع وليس هدفًا للأفراد، لا يمكن أن يقال بأنّ تخلّف الهدف يكشف عن خلل في المنتَج؛ فإنَّ هذا هدفٌ للنوع وليس هدفًا للأفراد، وعلى فرض أن هذا هدف للأفراد وليس هدفًا للنوع، لنفترض لذلك، على أية حال لا يمكن الوصول نحو هذا الهدف إلا بالحركة، والحركة تقتضي الصراع بين الأضداد، فالإنسان بما أنه خُلِق مختارًا فمقتضى اختياره أن يعيش صراعًا بين الأضداد، وهنا أذكر لك نقطة علمية فلسفية لا بد من أن تلتفت لها.

حول الحكمة الإلهية من خلقة الإنسان، قياس المنتَج غير الاختياري على المنتَج الاختياري غلطٌ، نحن الآن نقيس جهاز تليفون أو جهاز كمبيوتر على الإنسان! لا، جهاز التليفون وجهاز الكمبيوتر منتَج غير اختياري، بينما الإنسان منتَج اختياري، ذاك المنتَج ليست عنده إرادة، ليس عنده اختيار، هذا المنتَج عنده إرادة، عنده اختيار، لا يصح قياس أحدهما على الآخر، لا يصح أن يقال: إذا أنا صنعت ألف جهاز كمبيوتر لأجل توفير الاتصال السريع بالمعلومات، فلم ينتج منها إلا عشرين جهازًا، هذا يكشف عن خلل في المنتَج وخلل في الإنتاج، هذا صحيح، لأن المنتَج ليس له إرادة، هذا الاعتراف صحيح لأن المنتَج ليس له إرادة.

أما عندما يخلق الله مليارًا من البشر لكن هذا المليار ذو إرادة، ذو اختيار، تخلّف الهدف لا يكشف عن خلل في المنتَج؛ لأن المنتَج مختارٌ، فبإمكانه باختياره أن يصل إلى الهدف، وبإمكانه باختياره أن يتخلّف عن الهدف، تخلّف الهدف هنا عن اختيار من الإنسان، فلا يكشف عن خللٍ في المنتَج، وبعبارة واضحة وصريحة: الله تبارك وتعالى خلق البشر لأجل هدفٍ، والهدف هو العبادة، لكن أي عبادة؟ العبادة عن اختيار، لا العبادة مطلقًا، لو أن الله خلق البشر للعبادة مطلقًا لكان من اللازم أن يكونوا عابدين، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، هو لم يخلقهم للعبادة مطلقًا، بل خلقهم للعبادة عن اختيار، الهدف هو العبادة عن اختيار، فإذا تحقق هذا بالنسبة للبشر فقد تحقق الهدف، ولم يحصل هناك تخلّفٌ كي يكشف عن خللٍ في المنتَج.

الأمر الأخير: العبادة هدف أقصى والرحمة هدف أدنى
يظهر من آيات القرآن الكريم أن هناك هدفين لله عز وجل: هناك هدف أدنى، وهناك هدف أقصى. الهدف الأقصى: وصول البشر للعبادة، هذا الهدف قد يتحقق في بعض البشر، وقد لا يتحقق في البعض الآخر، ولكنَّ الهدف الأدنى الذي لا يمكن تخلّفه في كل بشر، الهدف الأدنى الذي من أجله خُلِق البشر: ظهور الله من خلال البشر، كما في الحديث القدسي: ”كنتُ كنزًا مخفيًّا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلقَ لكي أعرف“، الله يتجلى من خلال وجودنا، الوجود البشري مرآة لوجود الله، الوجود البشري حاكٍ عن وجود الله تبارك وتعالى، الوجود البشري مظهرٌ لله تبارك وتعالى، خلقت الخلق لكي أتجلى وأظهر من خلال هذا الخلق.

ونستفيد هذا من القرآن الكريم من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، ولذلك يعني للاختلاف؟! لا، بل للرحمة، لم يخلقهم للاختلاف، بل خلقهم للرحمة، فما معنى أنه خلقهم للرحمة؟ أبرز صفةٍ من صفات الله هي صفة الرحمة، ولذلك أكبر صفة برزت في القرآن صفة الرحمة، أبرز ثفة لله تبارك وتعالى صفة الرحمة، الله تبارك وتعالى خلقنا لنكون مظهرًا لرحمته، لنكون وجهًا من وجوه رحمته، لنكون حاكين عن رحمته تبارك وتعالى، فنحن مظهرٌ لله من حيث صفة الرحمة، ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾.

كل إنسانٍ يحمل طاقةً من الرحمة، حتى هذا الإنسان الظالم، حتى هذا الإنسان الديكتاتور، حتى هذا الإنسان الذي استعبد البشر وأذلهم، هتلر وصدّام والحجّاج وأمثال هؤلاء، كل إنسان يمتلك طاقةً من الرحمة وإن سترها، وإن غطّى عليها ببعض أفعاله الانتقامية الخطيرة، لكنه يملك طاقةً من الرحمة، ولو على نفسه، ولو على بعض الموجودات، كل إنسان هو مظهرٌ لرحمة الله تبارك وتعالى شاء أم أبى.

لأجل ذلك، الرحمة هدفٌ – كما يقول العلماء – مشكّكٌ، أي أن كل مجموعة من البشر تنال قسطًا من هذا الهدف، تنال رتبة من هذا الهدف، بعضهم ينال أقوى المراتب من الرحمة، بعضهم ينال أضعف المراتب من الرحمة، كل إنسانٍ منّا هو مظهرٌ للرحمة، الطبيب من خلال طبه وحنانه وعلاجه مظهرٌ للرحمة بالمريض، العالم الذي يُظْهِر علمَه مظهرٌ للرحمة؛ لأنه يوصل الرحمة إلى قلوب الناس، الرحمة ما هي؟ الرحمة إفاضة الوجود، عندما تعرَّف صفة الرحمة يقال: الرحمة إفاضة الوجود، كل من يفيض وجودًا فهو رحيمٌ.

العالم يفيض العلم فهو رحيمٌ، المدرّس في المدرسة يفيض معرفته، يفيض تعليمه وإخلاصه، فهو رحيمٌ، كلٌ منا مطالَب بأن يُظْهِر الرحمة، الطاقة الكامنة في ذاته، المدرّس من خلال تدريسه، المعلّم من خلال تعليمه، الطبيب من خلال طبيبه. كذلك هذا الغني الثري، كل من ملك غنى، ثروة، أو ملك مالًا، ليس من اللازم أن يكون غنيًا أو ثريًا، وإنما يملك مالًا، يُظْهِر الرحمة بأمواله، من خلال تفقّد أوضاع الفقراء، وأوضاع المساكين، ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، كلٌ بحسب موقعه هو مظهرٌ للرحمة.

ثم تأتي الآية القرآنية لتؤكد أن الإنسان مظهرٌ للرحمة، تقول الآية القرآنية: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾، هذه الآية إذا تتأمل فيها.. لماذا عبّر بعباد الرحمن؟ لماذا لم يقل: عباد الله؟ لماذا لم يقل: عباد العالم القدير؟ قال: عباد الرحمن، يعني خُلِقوا لكي يكونوا مظهرًا للرحمة، خلقوا لكي يكونوا عباد الرحمن، خلقوا لكي تتجسد الرحمة في أفعالهم وحركاتهم وسكناتهم، خُلِقوا للرحمة ومن أجل تجسيد الرحمة، لذلك إذا أرادوا تحقيق هذا الهدف بأعلى مراتبه فليكونوا عباد الرحمن.

الرحمة لها عاملان ومظهران: مظهر فعلي، ومظهر انفعالي، هناك فرق بين المظهر الفعلي والمظهر الانفعالي.

المظهر الفعلي للرحمة
﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾، هذا ابتداءً منهم، بدون أن يأمرهم أحد، بدون أن يدلهم أحد، بطبعهم لهم مظهر من الرحمة، مظهر فعلي، يمشون على الأرض هونًا، هل معنى هذه الآية أنهم يمشون ببطء، وإذا أسرعوا في مشيهم لم يكن مشيهم على الأرض هونًا؟! لا، من صفات الرسول أنه يسرع في مشيه إذا مشى، ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ يعني أنهم متواضعون، هذا كناية عن التواضع، كأن المتواضع خفيفٌ على الأرض، والمتكبّر ثقيلٌ على الأرض، ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾، ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ كناية عن التواضع، أنهم متواضعون في أنفسهم، التواضع مظهرٌ للرحمة الإلهية.

لذلك ورد في الحديث عن النبي محمد : ”تخلّقوا بأخلاق الله“، يعني تخلّقوا بخلق الرحمة، جسّدوا صفة الرحمة، ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، إذن أول مظهر من مظاهر الرحمة – المظهر الفعلي – هو التواضع، فما هو معنى التواضع؟ بعضنا يحسب أن التواضع يعني أنه مبتسمٌ دائمًا، ومطأطئ الرأس دائمًا! ليس هذا هو التواضع، التواضع ألا يرى نفسه فوق الآخرين، الشخص الذي لا يرى نفسه فوق الآخرين، الشخص الذي مهما بلغ من الجاه، من المنصب، من المال، من العلم، من المعرفة، ما زال يقول: هناك من هو أفضل مني، وهناك من هو أعرف مني، وهناك من هو أقرب إلى الله تبارك وتعالى مني، الشخص الذي لا يرى نفسه فوق الآخرين شخصٌ متواضعٌ، الشخص يظهر عليه شاء أم أبى، ”ما أضمر امرؤ في قلبه شيءٌ إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“.

ورد عن الإمام الصادق : ”من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس“، أي مكان أجلس، إذا دخلت مكانًا ففي أي موقع أجلس، المكان بالمكين، ”من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس، وأن تسلّم على من تلقى“ يعني أنت تبدؤه بالسلام إذا واجهته، ”وأن تترك المراء ولو كنتَ محقًّا“، إذا صار هناك جدال، النقاش تارة نقاش هادف مبني على أسس علمية، وتارة النقاش صراخ وصياح وإصرار على بعض الأمور، ”وأن تترك المراء ولو كنتَ محقًّا“. إذن، التواضع ألا يرى نفسه فوق الآخرين، هذا مظهرٌ فعليٌّ للرحمة.

المظهر الانفعالي للرحمة
﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾، إذا حاول الجاهلون إثارته، جاهل يريد أن يثيرك، إنسان عنيد يريد أن يثير مشاعرك، يريد أن يثير عواطفك، يريد أن يحرّك أعصابك، كن باردًا تمامًا، ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾، عبارة السلام، عبارة الأمن، عبارة الطمأنينة، يعني انفعالهم بالرحمة، لا ينفعلون بالغضب، لا ينفعلون بالشدة، انفعالهم بالرحمة، ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾.

نحن نحتاج إلى هذا المظهر، نحن مجتمعنا مليءٌ بالعنف، المجتمع الإسلامي مليءٌ بالعنف، مليءٌ بالحدّة، مليءٌ بالتوتر، مليءٌ بشحنات من الأحقاد، من الأكدار، مليءٌ بالتوجّس، بسوء الظن، بنظر بعضنا إلى البعض الآخر نظر التوجس، نظر سوء الظن، نظر المكيدة، نظر المكر، كلٌ منا يعتبر البعض الآخر عدوًا له، قاصدًا لمواجهته! لا، ليس الأمر كذلك، خذ الأمور بالهدوء التام، أنت تعيش مع الآخرين في أرض واحدة لرب واحد في دين واحد والجميع يسير نحو هدف واحد ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

لذلك، ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، حتى الذي تعتبره عدوًا إذا رأيته حاول أن تبتسم له، حاول أن تضغط على يده، حاول أن تظهر له خلقًا؛ لأن ذلك يغسل القلوب، لأن ذلك يزيل كدارة ما في قلبه، كدارة ما في نفسه، حاول أن تخفّف هذا العبء من نفسه، أن تنزع هذا الفتيل من نفسه، انشر المحبة، انشر الوئام، انشر السلام بين أبناء المجتمع الإسلامي، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، ازرع الأخوة، ازرع بذور الأخوة.

لأجل أنني أختلف مع الآخر في الفكر، أو في التوجه، أو في منهج العمل، هذا لا يعني أنه عدوي، ولا يعني أنني أخطط ضده ويخطط ضدي، ولا يعني أنني أزاحمه ويزاحمني، هذا يعني أننا نسير حول هدف واحد وإن اختلفت الأساليب، فلتكن أخلاقنا وآدابنا أسمى من هذه الاختلافات، وأسمى من هذه التباينات في وجهات النظر. إذن، المظهر الانفعالي للرحمة مقابلة الجاهلين بالسلام، بالوئام، مظهر ضروري لأن تعيش مجتمعاتنا تحت ظل السلام، وتحت ظل الوئام.

الإمام زين العابدين – كما ورد في الدعاء – يقول حول الحكمة الإلهية من خلقة الإنسان: ”اللهم سدّدني لأن أعارض من غشّني بالنصح“، هو يغشني لكنني أنصحه، ”وأجزي من هجرني بالبر، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأثيب من حرمني بالبذل، اللهم وفّقني أن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة“. ولذلك ورد في صفات الإمام زين العابدين أن ابن عم وقف على رأسه، أحيانًا العوائل تختلف في بعض الأمور، هناك ميراث ولم توزعوه، ولم تعطوني حقي من ميراث جد جد جد جد جد جد جد جدي! أحيانًا يحدث ذلك في العوائل، حتى في العائلة الهاشمية، حتى في ذرية فاطمة حصل هذا النوع من النزاع، قضايا الميراث وتوزيعه وما هو من هذا القبيل.

جاء ابن عم – يعني من أبناء الحسن – وقف على رأسه، وقال فيه كلامًا ثقيلًا، شتمه، الإمام زين العابدين أصغى إلى أن انتهى من كلامه، هذا ابن عمه خرج، رجع إلى بيتهم، الإمام زين العابدين خرج مع أصحابه، قال: أتعرفون كيف ردي عليه؟ قالوا: بلى. جاؤوا إلى بيته، طرق الباب، قال: من الطارق؟ قال: ابن عمك علي بن الحسين، فخرج متوثبًا للشر «هذا أتى يعاركني في بيتي!»، فتح الباب، قال: ماذا تريد؟ قال: ”يا بن العم، إنك وقفت على رأسي وقلتَ ما قلت، فإن كان ما قلتَه فيَّ فأستغفر الله تعالى، وإن كان ما قلتَه ليس فيَّ فغفر الله لك“، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.

مع الأسف، الآن حتى الأسرة الواحدة، نحن نسمع مشاكل، يومية، شهرية، حتى الأسرة الواحدة، حتى الإخوان من أب وأم، حتى الإخوة من بطن واحد، قد يحصل بينهم تأزّم، قد يحصل بينهم أحقاد، قد تحصل بينهم حزازت تؤدي إلى انفصام الأسرة، وهذا أمرٌ مرضيٌّ خطيرٌ جدًّا، أن يبتعد الإنسان عن مظهر الرحمة، ويدخل في مظهر إبليس، وهو مظهر النقمة، أن يبتعد عن خُلق الله، ويتسم بخلق إبليس، هذا مرض خطير لا علاج له إلا أن يحاسب الإنسان نفسه، ويتأمّل في أنه هل هو محقق للهدف من وجوده؟

نحن من أول المحاضرة إلى الآن نريد أن نقول هذه الكلمة: كلٌ منا فليسأل نفسه: ما هو الهدف من وجودي؟ لماذا خُلِقت؟ وهل أنا أسير نحو الهدف؟ وهل أنا أسير في طريق الهدف؟ أم أنا متخلف عن الهدف؟ هل ما عندي من أعمال وحركات تساعدني نحو الهدف؟ كثير منا لا بد أن يطرح على نفسه هذا السؤال: هل أنا أسير نحو الهدف، وهو العبادة والكمال؟ هل أنا أسير نحو الهدف – وهو أنّي مظهرٌ للرحمة الإلهية – أم لا؟ إذا تساءل هذا السؤال أصبح ينقد ذاته، أصبح قادرًا على تغيير ذاته، أصبح يسلك طريق التكامل إلى أن يصل إلى الهدف المنشود.

ومن أهم الأمور: ملاحظة الأصدقاء، الشلة، هل الشلة تساعدني على الهدف أم لا؟ هذا لا بد من أن يلاحظه الإنسان، أنا خُلِقْت لهدف العبادة، أنا خُلِقت لهدف الرحمة، هل الشلة والأصدقاء الذين أجلس معهم ليالي شهر رمضان، وأضحك معهم، وأسافر معهم، وأتكلم معهم، هل أنهم يساعدونني على الوصول إلى الهدف، أم أنهم عوائق أمام الهدف؟ هل أنهم طريق للوصول إلى خلق الرحمة، أم أنهم يربونني على روح النقمة وخلق النقمة؟ لا بد من السؤال، إذا كانوا كذلك – طرق الرحمة – فأهلًا وسهلًا، وإذا كانوا طرقًا للنقمة فلا بد من التفكير في التغيير، ﴿يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=170038
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 06 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29