• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : حسيــن رخيـــص يذبح من جديد !!! .
                          • الكاتب : لطيف عبد سالم .

حسيــن رخيـــص يذبح من جديد !!!

  إلى جانب صور التحضر ومعاني الزينة والجمال التي تبغيها الدوائر البلدية بمختلف مدن العالم من اهتمامها بالنصب والتماثيل التي اعتادت على إقامتها في أهم الساحات والميادين ، إضافة إلى مداخل المدن ، فان وجود هذه الوثائق المادية يسهم بعكس هوية  المدينة وتراثها الفكري والثقافي والفني ، إضافة إلى توثيق ملامح ما انتخب من بعض الملاحم الوطنية . ولعل في مقدمة الأسباب الموضوعية التي أيقظت في نفسي فكرة ألكتابة عن نصب احد قرابين العراق على مذبح الحرية بعد ان نشرت القسم الأول من هذا الموضوع الذي وسمته بـ (ثانية .. يعدم حسين ارخيص ) ، إضافة إلى تحفيزي دفعه إلى واجهة المشهد الثقافي ، هو توجه حكومة ذي قار المحلية ودائرتها البلدية المتمثل بتغيير ابرز العناصر المؤثرة في تشكيل نصب المجاهد العراقي ( حسين ارخيص ) بعد قرارها إزالته وبناء نصب جديد  في ذات الفضاء من كورنيش الناصرية الذي كان ينتصب فيه لسنوات طويلة رمز لجبين عراقي ملئ بالغيرة والإباء بعيدا عن الأضواء وعن اهتمام بلدية الناصرية .
 
 ولا أخطئ القول أن هذا النصب التاريخي الذي أقامته بلدية الناصرية لتمجيد بطولة وتضحية ابن مدينتها البار المجاهد العراقي ( حسين ارخيص ) ، جسد بمضامين ودلالات إنسانية ووطنية وتاريخية بعيدة عن كل مفاهيم الانتماءات والتعصب قصة إجهازه على الجنرال الانجليزي جيفرز أيام الاحتلال الانجليزي للعراق ، من خلال استلهام الفنان المبدع عبد الرضا كشيش عناصر الحدث الرئيسة وتوظيفها بمشهد تصويري رائع في مهمة انجاز هذا المشروع الثقافي التاريخي . ولسنوات طويلة كان الحديث عن هذه الواقعة يتركز في مجالس كبار السن من أهل مدينة الناصرية ، بوصفها إحدى الوثائق التاريخية التي يتشرف أهل المدينة باستذكارها ، غير أن تقادم السنين ونكد العيش جعلها بعيدة عن دائرة معارف شباب الأجيال الحديثة التي عاشت أزمنة الجوع والبؤس والتخلف حتى صارت تشير إلى مدينتها باسم ذي قار الجريحة . وحين انتصب تمثال ( حسين ارخيص ) شامخا بجوار نهر الفرات ، ليشكل جمالية على قلب المدينة النابض بالحياة ، كان منذ ولادته بعيدا عن الأضواء ، ولم ينعم يوما بعذوبة مياه هذا النهر الخالد التي اضمحلت زرقة لونها بعد أن أصبح مجرى النهر مكبا للنفايات ومصدرا للتلوث . ويبدو ان عملية تأهيل نصب المجاهد حسين ارخيص بإزالته وإقامة اخر جديد كانت مصابة بفيروس التسييس الذي فرض على المسؤولين في الحكومة المحلية القرار على إزالته وإقامة آخر جديد عوضا عن السابق بقصد إزالة بعض من ابرز معالمه الرئيسة حرصا على ضمان رضى هذا الطرف أو ذاك ، مما أفضى إلى ولادة عمل فني مصابا بالعوق الولادي بشهادة المثقفين وأهل الاختصاص ؛ لانه على مايبدو أقيم من دون الاتصال بنقابة الفنانين فرع الناصرية او الاستماع إلى نبض الشارع الذي يتمسك باحترام شخصية ابن مدينته ويثمن باعتزاز بطولته الرافضة للاحتلال . وعلى الرغم من تواضع ثقافتي الفنية ، فاني أجد النصب الجديد باهتا ومشوها ولا يرقى إلى مصاف العمل الفني بعد أن اقتطع من جسده جزء هام وفعال لايمكن للناظر إدراك معنى النصب بغيابه ، فأصبح ( حسين ارخيص ) على وفق نموذج النصب الجديد مجرد عسكري يلوح بسلاحه صوب فضاء مجهول ، مما جعله تشكيلا ضعيف القيمة  وساذجا من الناحية الفنية . والطامة الكبرى ان واجهة النصب جرى تزيينها بعبارة ( كلا كلا للاحتلال )التي تعبر في واقعها الموضوعي عن احترام دماء زكية نزفها شعب العراق الصامد الصابر في مقارعة الاحتلال . ولا يخامرنا شك في أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن يتمحور بداية حول العلاقة بين تحرير تشكيل جثة الجنرال جيفرز من كماشة قدمي البطل (حسين رخيص )مع مهمات عودة القوات البريطانية إلى العراق بداية الألفية الثالثة . إذ لا معنى لإزالة جسد جيفرز من أصل تشكيل النصب، إضافة إلى عدم تجانس هذا مع عبارة ( كلا كلا للاحتلال ) التي اعتلت واجهة نموذج التمثال الجديد ، وهل أن أبعاد جيفرز عن النصب يعد من موجبات التغيير باتجاه الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة .
وبصورة عامة اخفق النموذج الجديد في تحقيق شروط تشكيله الفنية والجمالية والتوثيقية التي بمقدورها توضيح مدلولاته الإنسانية والتاريخية والوطنية والأخلاقية.. 
لقد كان حسين ارخيص رمزا وطنيا أسهم في صنع الحياة وأثار بتميز بطولته محركات الوعي الوطني يوم كان شعبنا يئن تحت سياط المستعمرين الذين كان جيفرز يشكل احد أعمدة سلطتهم التنفيذية والقمعية . وهو الأمر الذي يملي على ادارة المؤسسة ألثقافة ، ولاسيما نقابة ألفنانين وعلى ألمسؤولين في محافظة ذي قار ضرورة إعادة الاعتبار إلى البطل (حسين ارخيص) باعتباره رمزا وطنيا وجهاديا كبيرا, وتثمين فعلته البطولية وفاءا لشهداء العراق واحتراما لتاريخ ألوطن والاعتزاز بتاريخ رموزه ألوطنية والثقافية ومنهم ألبطل ( حسين أرخيص ) ، بوصفه احد الشواهد المهمة على رفض شعبنا الاحتلال والكفاح من أجل السيادة الوطنية.
إن جل ما أخشاه أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه  (حسين أرخيص) متمردا أو إرهابيا كان يعيق مناهج حكوماتنا الوطنية المتعاقبة نحو التحرر والانعتاق  ،مما يستوجب تدمير نصبه وتاريخــــــــــه بقطعة من الطوب المصنوع من مادة الأسمنت ، أو قد يحاكم غيابيا بتهمة اغتيال ( محررنا )الانجليزي جيفرز !!! ، فكل شئ جائز في هذا الزمان ، وحينئذ سنضطر لإقامة نصب بمستوى نصب التحرير لـ (جيفرز) تعبيرا عن خدماته الجليلة التي أسداها للفقراء والمعوزين من أبناء الرافدين . 
ويمكن القول أن التلاعب الذي طال قيمة النصب الفنية والتاريخية يؤطر المشهد الثقافي العراقي بضبابية تفقد الشريحة المثقفة إمكانية تلمس نقاط الضعف والقوة في البناء الثقافي المستقبلي ، ولاسيما أن مدينة العلم والشعر ومختلف ضروب الأدب والثقافة والفنون ، مدينة النخيل وماء المحبة والدلة والمضيف ( الناصرية ) كان فضاءها الثقافي واهنا تجاه زحف جرثومة نقص المناعة الثقافي المكتسب التي ذبحت من جديد ابنها البار ( حسين ارخيص ) ، مما أفضى إلى استلاب حقها في الحفاظ على تاريخها وتاريخ احد أبناءها الذي يعد رمزا وطنيا للتعبير عن أصالتها وعن كفاحها ونضالها من اجل التحرر والانعتاق ، بوصفه جزء من كرامتها التي تعانق شموخ نخيلها علوا ، بل من كرامة ألوطن وشهداء العراق الذين عفرت دماءهم ترابه المقدس تحت ذريعة تحريض مضامين النصب على القتل وترسيخ ثقافة العنف .
·      المهندس لطيف عبد سالم العكيلي / باحث وكاتب صحفي .



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=16974
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 05 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19