• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : قراءة في كتاب .
                    • الموضوع : قراءة نقدية في رواية (القضبان لا تصنع سجناً) (الحلقة السادسة) .
                          • الكاتب : حبيبة المحرزي .

قراءة نقدية في رواية (القضبان لا تصنع سجناً) (الحلقة السادسة)

‎المكان والزمان في" سجن لا تصنعه القضبان" للرّوائيّ جبّار عبّود آل مهودر .6.

‎*1* المكان: لا يمكن لكلٌ كائن حيّ أن يثبت ويحقّق وجوده خارج حدود المكان والزمان. فهما مقوّمان متلازمان متشابكان في المسيرة الكونية كلها وقد دأب الروائيّون وبنسب متفاوتة على ايلائهما اهتماما خاصّا باعتبارهما من المقوّمات الأساسيّة لكلّ انتاج سرديّ. وإذا كان الزّمان رهين الإدراك المباشر الحاصل من خلال الأفعال الٌتي تنجز فيه وتوثّق كمحطّات بأوقات دقيقة فإن المكان مقوّم ثابت مرئيٌ ملموس محسوس ولو في المتخيّل المبنيّ على ما يخزنه العقل من صور واشكال لأماكن من الواقع أو من المتخيّل المحكيّ أو الاسطوري . .

‎فكيف تعامل الروائي "جبار عبود آل مهودر "مع المكان الذي تلون بألوانه وتضرج باوجاعه والامه وشهد على سقام ايامه؟

‎أ_ سيميائيّة المكان في "القضبان لا تصنع سجنا "تتمثل سيميائيٌة المكان في "القضبان لا تصنع سجنا" في معناها البنيويّ اللسانيّ بدءا بالعنوان الذي ورد فيه "المكان" الاكثر إيذاء ومقتا عقابيّا للإنسان بإحالة حتمية على انعدام الحرية وما ارتسم جراءها من فظائع الحرمان والتّعذيب والتّنكيل. فالعنوان حدّد قبلة الأحداث وشيد المكان الذي سيكون على علاقة تداع بالسّوابق واللواحق . هذا الجزء المكانيّ الإدراكيٌ الحسٌيّ من جهة والمكان الفيزيائيّ المحدّد بضوابط مرسومة ضمن منظومة الفضاء الروائيّ والذي يمثل المكان جزءا منه اي المسرح الذي عليه وفيه وحوله ستجري الأحداث بكل أطوارها.
‎ونظرا لاهمّيّة المكان في القصّة والرواية وكل ابداع سردي فقد خصٌص له العلماء دراسات مختلفة متنوًعة تسلّط الاهتمام على هذا المكوًن الحتميٌ في الأثر الادبي السردي ومنها علم Topologie والذي يهتم بخصائص المكان وعلاقاته المختلفة بالاشياء.لان للمكان سيميائيٌة مرجعية موثقة حسب المجموعة المتفاعلة تفاعلا مباشرا أو غير مباشر مع الاحداث المتعاقبة او المتراكمة فيه.
‎الكاتب في هذه الرواية ربط المكان بالمصير كعلاقة الجزء بالكلّ واذا توشّح الغلاف بسواد "السجن" والقضبان التي لم تصنع سجنا يخمد صوت الحق فإن الراوي المهووس بالمكان الصارخ بالاذى جعله جزءا من عناوين الفصول "مظاهرة في بغداد" البوابة الشرقية"باستيل العراق" زنزانة رقم ٢ق ٢ "من نخيل البصرة إلى بساتين بلد" الرئيس في الدجيل" بغداد ترحب بكم"يوميات زنزانة" عيد في زنزانة"
‎ هي عناوين تحدّد الاماكن كوثائق مكانية ثابتة تقوٌي مصداقيّة الأحداث بل هي ختم يعرّف بالوطن ويؤكد صلة البعض بالكلّ. أعلام "بغداد" و"البصرة " أماكن تنضح عراقا بأماكن مفتوحة ممتدة حينا "النخيل والبساتين...."مغلقة مؤذية حينا آخر "الزنزانة" ليكون الانطلاق من وضع الختام في الرّواية من "مقبرة وادي النّجف" وهو المكان المتكفل باحتواء آخر نقطة فاصلة بين الحياة والآخرة واصلة بين العدم و"جنات عدن" وفق معتقد الابطال داخل الرواية. وبالنسبة إلى البطل "محمود"فهي نقطة النهاية والبداية اي انتهاء الحبس والتعذيب والتنكيل داخل الزنزانات المغلقة وابتداء الحرية والانطلاق في أرض الله الواسعة. وكأننا بالمكان حاضنة متكفلة بالربط بين معاناة الدنيا ونعيم الآخرة والراوي الذي خيٌر الانطلاق من مكان مفتوح لكنه بمؤثثات مغلقة ليست اجمل ولا أوسع من زنازين السجن.هذا الحضور بكمّ ارتداديّ تتداعى بعده الذّاكرة تهرش حيٌزات مكانيّة كانت أضيق وأشدّ ضيما من قبر أبيه الذي عانق "حجارته الباردة"..و" جدار القبر" كأمكنة صامتة حولها وعليها تتحرك الشخوص بكمٌ متراكم من الاتساق الوظيفية للاماكن و هو عنصر غالب في الرواية حامل للدلالات حولها تتحرّك الشّخوص ليتكفًل السّارد بدعوة الذّكريات للهجوم في مكان هو الفاصل بين الحياة والموت.لتكون المعاني الّتي توصّل إليها من خلال طبيعة الكلمة ذاتها "المقبرة" اسم مكان من قبر الشيء دفنه واخفاه عن الأعين لتظلّ داخل النٌصٌ الرّوائيّ بارتداد واقعي مأساوي ملموس.
‎.ب_ صلة المكان بالواقع في رواية "القضبان لا تصنع سجنا"
‎اذا كان المتلقي خالي الذهن من سيرة الراوي والذي استحوذ على البطولة في التقدم بالاحداث مع التكفّل بروايتها مع نزعة توثيقية للاماكن المفتوحة والمغلقة فإنه وفي الذاكرة الجماعية الإنسانية وجدنا الكاتب يعطل السرد ليتفرغ لوصف المكان حرصا منه على المصداقية فيما يروي لبجعل المكان الموصوف مماثلا للحقيقة في الفضاء الخارجيّ الحقيقيٌ وذلك باستخدام عناصر المكان الفيزيائيّة لتجسيده بحيث يجعل المكان مرتسما أمام القارئ بمظهره الداخلي والخارجي بل وكأنّي به يأخذ المتلقي في جولة داخل سجن حفظ كل مكوناته بمفعول الزمان اي طول المدة التي قضاها فيه إذ يقول في صفحة عدد ٧٨ "أبنية انتزع الجلاد منها مقومات الحياة ، على شكل مستطيل غير متساوية الاضلاع ، يتكون ضلعه الأيمن للداخل إليه من البوّابة الرّئيسيّة من أربع زنزانات مساحة الواحدة منها (٣,٥م ×٢,٥م) تتبعها قاعتان مساحة الواحدة منها أكبر قليلا واربع زنزانات مع مغاسل في الضّلع المقابل للبوٌابة الرئيسيّة، وثلاث زنزانات تنتهي بمغاسل أخرى على الجانب الأيسر المقابل للقاعتين، فضلا عن محجر صغير يستخدم للعقوبة ،تتوسط القسم ساحة مسورة تفتح عليها أبواب الزنزانات ....هناك غرفة الموصل ...وغرفة البصرة ...وغرفة العمارة وغرفة النجف ....
‎هي أسماء الأماكن التي منها انتزعت السجينات ليرافقهن الموطن بثقل التسمية والراوي حين عمد إلى إسقاط مجموعة من الصفات الطوبوغرافية على الفضاء أو المكان الروائيّ ليجعل منه حاضنة للقيم الرمزية المنبثقة عن ذات المكان وذلك لكشف العلاقة بين المكان والشخصية "السجينات والسّجّانين". كما أن اختلاف هذه الصفات وتنوّعها من مكان إلى آخر في الفضاء الروائيّ يمكن أن يعكس لنا الفروق الاجتماعية والنفسية والايديولوجية لدى شخوص الرّواية .فالزّنزانة والتّواجد فيها يكشف رؤية الشخوص للعالم وموقفهم منه وقد تكشف عن الوضع النفسي للشخصيات في حياتهم اللاشعورية بحيث يصير للمكان بعد نفسي يعكس ما يثيره من انفعال سلبي او ايجابي في تلك الفترة وفق وضعية كل شخصية على حدة.
‎يقول في الصفحة ١١٠ "بدأ المكان موحشا غارقا في الصمت ،تقاذفته الهواجس والأفكار ...سمع عن أقبية السجون وعذابات قصر النهاية وصيت الأمن العامة"
‎المكان يعبر عمّا ينتظر الموقوفين من عذابات ويكيف دواخلهم وفق ما اصطلح عليه ليصير لها بعد نفسيّ كارضية حتمية للوحشة والتوتر والمكان يصبح بذلك عاكسا لما يثيره من انفعال سلبيّ ناتج عن التعذيب الجسدي والنفسي او ايجابي إذا اقترن بالتحدي والصمود تحت الجلد والقمع .
‎ج_المكان صفاته ودوره في تنوير المتلقي :
‎من يقرأ الرواية سيلاحظ أن الكاتب وعلى امتداد الأحداث واضطراب الشخوص ستجده يعرض مشاهد مكانيٌة شاملة وهو بذلك يهدّئ الحركة السّردية الصاخبة المتوتّرة الحادّة للتخفيف من حدّة الأحداث الموجعة القهريّة من خلال بثٌ تأويلات تضمينية كالتفاعل إيجابيا مع المكان كان يصور لنا السجين يتوضّا ويصلي ويتلو القرآن وهو في الزنزانة.
‎او يردد اشعار أسلافه الصّامدين. أو يتحدث أحدهم عن علاقة غرامية مر بها.
‎والكاتب نجده ينقل صفات المكان وأشكاله وألوانه لاستثمارها في الكشف عن جانب من الأحداث مثل "حركة المكان" وهي حركة تنطوي على أهمية تقييمية نظرا لكونها تغوص في "مفهوم الحرية" حرية الإنسان في استخدام المكان وتكييفه بما يخدم قناعاته الثابتة والتي من أجلها اضطر إلى التفاعل السلمي مع مكان ابعد ما يكون عن السلم. إذ يقول في الصفحة١١٤ "ملأت أرجاء المكان ثرثرة الضباط وأصوات ضحكاتهم، تأتي من بعيد، خالطتها آهات المعذٌبين" المكان واحد لكن التفاعل مع الشخوص مختلف .ليدخل المكان في اتحاد مع الشخوص الفاعلة ذات السيطرة والقوة الظلميّة المتصادمة في نفس المكان مع أصوات متأوهة موجعة معذٌبة. ليصبح المكان مبعثا للأذيٌة بأحداث نقص ما أو عاهة تكوينية معيشية إذ يقول السارد "انسداد أنابيب الصرف الصٌحّي في المعتقلات والسّجون هي جزء من مسلسل التعذيب ..."والكاتب سيجعل من هذه الأماكن شواهد تساعده في عملية التخزين والتّذكّر ".حفرت الذكريات على جدرانها اسماء وتاريخ سنوات مختلفة لشهداء وسجناء قضت عليهم محكمة الثورة بالاعدام أو السجن فلم يجدوا غير جدار الاسمنت يلوحون له بوصاياهم الأخيرة ."
‎والمكان الحاضر في الرواية والبعيد حتما عن زمن السرد مكان غلبت عليه صفات الانغلاق والانسداد والظلمة والوحشة .ولا نجد للانفتاح والاتساع مكانا الا الحدود التي ترحّل إليها العائلات من الأكراد أو العائلات المتهمة بالانتماء إلى إيران أو المتصالحة معها عقائديا أو فكريا .هي أماكن مفتوحة لكنها باتجاه واحد شبيه بطريق الموت الذي يمثل نقطة النهاية دون عودة.
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=169125
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 05 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29