• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : لهاث .
                          • الكاتب : نبيل جميل .

لهاث

  في ليلة ممطرة ، وأنت وحدك حبيس أربعة جدران ، تجلس على كرسي بمحاذاة النافذة ، ترنو إلى الشارع في الأسفل ، يُغلّفك أرق شديد ، لاحقكَ حتى الدور الخامس من عمارة صدئة ، خلت من مصعد ، تتخيل نفسك في عربة قطار أو في حافلة لنقل المسافرين ، في الزاوية القريبة ، المدفأة تبث دفأها المتراخي ، وعلبة التبغ بمتناول اليد ، أما الوقت فلا تجرؤ على تقديره ، لأنّ ساعة المدينة العملاقة ومنذ قليل ، أعلنت دقة واحدة عالية ، ولا تدري إن كانت تعني الواحدة بعد منتصف الليل أم هي انقضاء لنصف ساعة أخرى مجهولة لديك ، وبما أن هدوء الشارع يوحي بالوحشة والغرابة ، إلاّ أنك كنت تنصت مسروراً للمطر، يرشق زجاج النافذة بصوت مكتوم ، نقرات متواصلة ، مكوّناً خيوطاً تتراقص . تنفث دخان سيجارتك ببطء وانتعاش ، مبتعداً بذهنك ، منكمشاً مثل طير، ترنو من خلل الزجاج المشوّه بتعرجات ماء المطر إلى الدور المتباعدة ، تتقافز إلى الوراء ، والى الأشجار والحيوانات والى الصبية المحنطين تجاه الطريق ، عيناك تلتقطان الأشياء ، كأنما تمضغان ما تشتهي النفس ، غير عابئ بالآخرين من حولك ، حتى المرأة الجالسة إلى جانبك والتي طلبت منك الكف عن التدخين . كنت تراقب وقلبك هناك حيث تلك التي تنتظر قدومك في إجازة جديدة. أكثر من سبع سنين قضيتها في تنقّل دائم ديالى/ بغداد/ بصرة.. والمحطة القادمة لا تدري أين. تفكر، وهي تحفّ بكتفها الّلدنة كتفك المتخشب تحت ملابس الكاكي، وتتصفح الوجوه لتطمئنّ من عدم التلصص ، تدنو أكثر ، فتشعر بسخونة جسدها الفتيّ الملتفّ بالعباءة ، ترجوك ثانية الكف عن التدخين ، لكنك  كالوقت لا تتوقف ، ثم بصوت راعش خفيض تحاول جرّك إلى الحديث ، تسألك عن الوقت أو عن شيء آخر، وأنت في ذات الصمت منذ انطلاق  اللحظة ، من أيّ مدينة أتيت ؟ والى أين تمضي ؟ تسأل نفسك ، فتأتيك صيحات الجنود وأزيز الطلقات ، متفرقة ، قريبة جداً تنذرك بهول الساعة ، تركضُ لاهثاً نحو الخندق الشّقي ، تصرخ بالمخابر أن يؤمّن الاتصال ، ثم ترنو إلى ساعتك اليدوية وقد كسرت عدستها واعوجّت أميالها ، تدمدم : لم يمر سوى أسبوع على شرائها . تخرج ، تتبعك أنفاس اللاهثين وحشرجات الجرحى …تبتعد وهي تدنو منك أكثر ، حتى شعرت بأنفاسها كرذاذ المطر، ورائحتها تُظلِّلُكَ ، غيمة ربيعية لها رائحة العشب النديّ ، ذكّرتك ببساتين الجنوب الفوّاحة برائحة الطّلعْ وبأصوات الأمّهات عند الغسق..
      والآن حيثما كنت ، تجلس ، تقرأ ، تتأمل.. سوف يأتيك صوتها رقيقاً ، هامساً ، لا يعترضهُ شيء ، يذكّركَ بسحر اللحظة عبر فضاء الخيال ، تبتسم في سرّكَ ثم تغمض عينيك ، تتنهد ثم تواصل العوم وراء حُلمك في ليلةٍ ممطرة ...




                                                                   nabeelstory@yahoo.com                                        



 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=16563
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 04 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20