• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : رحلة بحر الرجز الى القريض .
                          • الكاتب : د . محمد تقي جون .

رحلة بحر الرجز الى القريض

 يقسم الشعر العربي على: رجز وقريض. الرجز ما يكتب على بحر الرجز، والقريض ما يكتب على بقية البحور.

الرجز:

  • وزن
  • وشكل
  • وطبيعة موسيقية.

والرجز لغة: قوة الصوت، ومنه ارتجاز الرعد: اهداره. والناقة الرجزاء التي تتراجف ركبتاها. وبه شبه أو طلب من الرجز أن يكون وهو التركيز على قوة صوت الالفاظ والمعاني في التعبير، كما يركز على الحروف القوية والقوافي الجزلة، لان الغاية من الشعر جلب انتباه السامع واخافته، وليس التاثير الشعوري، فاختص الرجز بموضوعات هذا الشأن.

ووزن الرجز في ايقاعه قريب الى الكلام اليومي لكثرة زحافاته وعدم انتظام موسيقاه تصاعديا. فتفعيلته – كما رصدها الفراهيدي - (مستفعلن) تأخذ أربع حالات في الزحافات: أصلية (مستفعلن)، ومخبونة (مُتـَفْعـِلُنْ)، ومطوية (مُـسـْتـَعـِلـُنْ)، ومخبولة (مُتـَعـِلُنْ)، وحالتين في العلل: مقطوعة (مستفعلْ)، ومخبونة مقطوعة (فعولن). وهذا التجوز الكثير جعل أبياته قليلة الموسيقى قريبة من النثر والكلام الاعتيادي، على الضد من البحور قليلة الزحاف، إذ يحصنها ذلك من السقوط في مهاوي النثر ويثبتها على مستوى نغمي راق. لذا اطلقوا عليه هم أو التالون عليهم لقب (حمار الشعراء)! بمعنى انه سهل على الجميع ركوبه، بعكس الفرس لا يركبها الا فارس. وقد انكر الاخفش عد ما يكتب عليه شعرا، وقال الخليل: أن الرجز ليس بشعر، وإنما هو أنصاف وأثلاث أبيات.

 بينما القريض يمثل الابداع الشعري العربي، الذي يضاهون به ويتطاولون مع بقية الامم في الشعر، لانه الشعر الذي يؤثر في المتلقي ويقوده الى حيث يريد ويقصد. وسميت القصيدة لانها ذات مقاصد يرمي اليها مقصد الشعر او الشاعر.

 والقريض هو المبني على اساسات الشعر العربي: الشطرين، الوزن الموسيقى (البحور)، القافية الموحدة في الاعجاز، واللغة الشعرية باليات البيان والبديع، والموضوعات الشعرية: الغزل والمدح والفخر والهجاء والوصف وغيرها. وبحور الشعر التي يكتب عليها القريض: الطويل، المديد، البسيط، الوافر، الكامل، السريع، المتقارب، المجتث... الجاهليات (12) بحرا، ولحقها في العصر العباسي (4) ضمها علم العروض. واستمر تجريب ابتداع اوزان جديدة اختلفت صلاحيتها للشعر وقاومت الزمن بقدر ملاءمتها لفن الشعر.

 قيل الرجز خرج من (حداء الابل) وهذه نظرية عقيمة؛ لان حداء الابل كتب على غير الرجز، ولا يوجد دليل على ان حداء الابل سبق الرجز او تطور عنه الرجز. وشعر الرجز يقوم على الشطر الواحد وليس الشطرين، وتتكرر القافية كل شطر لتعزيز قوة الصوت وايقاع هيمنتها على القول لزيادة الجلجلة والهزهزة. وتأتي الاشطار تامة بتكرار مستفعلن ثلاث مرات، مثل قول لبيد وقد كلف بمهمة حمل النعمان على طرد وزيره الذي ظلم البرية فقال:

يا رب هيجا هي خير من دعَهْ

في كل يوم هامتي مقزعه        

نحن بنو أم البنين الأربعه

ونحن خير عامر بن صعصعه        

المطعمون الجفنة المدعدعه

والضاربون الهام تحت الخيضعه       

 يا واهب المال الجزيل من سعه

إليك جاوزنا بلاداً مُسبعه       

 إذ الفلاة أوحشت في المعمعه

يخبرك عن هذا خبير فاسمعه    

فقال النعمان: ما هو؟ فقال:

مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه

فقال النعمان: ولم؟ قال:

إن استه من برص ملمعه

قال النعمان: وما علي؟! قال:

وإنه يدخل فيها إصبعه   

يدخلها حتى يواري أشجعه

كأنما يطلب شيئاً ضيعه

ويأتي بتفعيلتين: كقول هند بنت عتبة يوم احد:

نحن بنات طارق        

نمشي على النمارق

الدر في المخانق        

والمسك في المفارق

إن تقبلوا نعانق       

أو تدبروا نفارق

فراقَ غير وامق

وفي العصر العباسي اورد سلم الخاسر رجزا على تفعيلة واحدة:

موسى المطرْ

غيث بكر        

ثم انهمر

ألوى المرر

كم اعتسر

ثم ايتسر        

وكم قدر

ثم غفر

عدل السير

باقي الأثر        

خير وشر

نفع وضر

خير البشر

فرع مضر        

بدر بدر

والمفتخر

في العصر الاموي أجري تعديل شكلي للرجز وليس تعديلا موسيقيا جوهريا، وذلك بتطويل الرجز من الاشطار القليلة الى الارجوزة. وهي ابقاء الرجز على طبيعته الموسيقية ولكن تغييره موضوعيا. فكتب العجاج ورؤبة في المدح والفخر والهجاء والوصف وغيرها. ولا يعد هذا تطورا فنيا مهما للرجز. ومنه قول رؤبة بن العجاج:

وقاتِم الأَعْماقِ خاوِي المُخْتَرَقْ      

مُشْتَبِه الأَعْلامِ لَمّاعِ الخَفَقْ

يَكِلُّ وَفْدُ الرِيحِ مِنْ حَيْثُ انْخَرَقْ      

شَأْزٍ بِمَنْ عَوَّهَ جَدْبِ المُنْطَلَقْ

ناءٍ مِنَ التَصْبِيحِ نَائِي المُغْتَبَقْ     

 تَبْدُو لَنَا أَعْلامُهُ بَعْد الغَرَقْ

فِي قِطَعِ الآلِ وَهَبْوَاتِ الدُقَقْ      

خارِجَة أَعْناقُهَا مِنْ مُعْتَنَقْ

تَنَشَّطَتْهُ كُلُّ مِغْلاةِ الوَهَقْ      

مَضْبُورَةٍ قَرْواءَ هِرْجابٍ فُنُقْ

في العصر العباسي قام الشعراء ولاسيما العجم باضافة وابتكار اوزان لا حصر لها على اساس انها تواكب العصر والحضارة. وقد كتب رزين العروضي وابن السميذع اشعارهما كلها على اوزان جديدة غير العربية. وفي هذه الزحمة من جنون وضع اوزان جديدة جرى تطوير او تغيير الرجز تغييرا موسيقيا جوهريا بكتابة القريض عليه، فأصبح يكتب بشطرين وقافية موحدة، ولغة شعرية محسنة وموضوعات القريض. وهي عملية جراحية معقدة غيرت الرجز وزنا وشكلا شعريا ولكنها فشلت في تغيير طبيعته الموسيقية، فكانت اشبه بالعمليات التي تجرى لتغيير الجنس من الذكر الى الانثى او العكس.

ومن ذلك قول المتنبي:

أي مكان ارتقي            أي عظيم اتقي

وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق

محتقر في همتي           كشعرة في مفرقي

كتب عليه الصنوبري:

سؤالكُ الرَّبعَ شَطَطْ       دنا العزاءُ أو شَحَطْ

رسمٌ أُميطَ بعضُهُ       وبعضُه لمَّا يُمَط

مبيِّنٌ عن نُقَطِ الثاءِ وليستْ بالنُّقَطْ

ومنحنٍ كأنَّه الهلالُ في الأرضِ سقَط

وأشعثٍ يَحْسِرُ سِتْرَ المورِ عن جَعْدٍ قطَط

وكتبت القصائد المطولة عليه اطرادا في العصر العباسي بسبب سيادة العاميات فصار الجمهور متقبلا نغمته. كقول الارجاني:

قِفا معي في هذه المعَاهدِ       لا بُدَّ للصّبِّ من المُساعدِ

لا تَبْخلا يا صاحبيَّ واسمَحا       بوَقْفةٍ على المُعَنّى الواجد

في منزلٍ عَهِدْتُ في عِراصِه       لَوْ رَدَّ معهوداً بُكاءُ عاهد

كواعباً من الدُّمَى لَواعِباً       مُشْبِهةَ الثُّغورِ للقلائد

يَمِسْنَ من فرْطِ النّعيمِ والصِّبا      كالقُضُبِ المَوائِلِ المَوائد

وكتب عليه للسخرية كثيرا، واشتهرت القصيدة الدبدبية لابن المغربي التي نسج عليها الجواهري قصيدته الشهيرة (أي طرطرا تطرطري):

أي دبدبه تدبدبي       أنا علي بن المغربي

تأدبي ويحك في        حق أمير الأدب

وأنت يا بوقاته         تألفي تركبي

وأنت يا سناجقي        يوم الوغى ترتبي

وأنت يا عساكري      يوم اللقا تأهبي

ها قد ركبت للمسير في البلاد فاركبي

ها قد برزت فاركبي     في ألف ألف مقنب

أنا الذي أسد الشرى         في الحرب لا تحفل بي

إذا تمطيت وفرقع         ت عليهم ذنبي

أنا الذي كل الملوك ليس تخشى غضبي

فمن رأى للهذيا         ن موكباً كموكبي

أنا امرؤ أنكر ما         يعرف أهل الأدب

ولي كلام نحوه         لا مثل نحو العرب

لكنه منفرد         بلفظه المهذب

يصافع الفراء في النحو بجلد ثعلب

ويقصد التثليث في     نتف سبال قطرب

لقد استجاب الرجز للتغيير بحرا وشكلا شعريا، ولكن طبيعته الموسيقية المغرقة في النثرية لم تستجب. كانت عملية تحويله الى قريض شبيهة بعمل العصير من الدبس! فلم ينجح لان العصير بارد طبيعة والدبس حار طبيعة. وقد كانت نغمة الرجز متماهية مع طبيعة الكلام اليومي في العصور القديمة، فلم يحلق الرجز وظل يرفرض فوق الارض لا يصعد الا قليلا. بدلي ان الرجز القريضي لم تشتهر فيه قصيدة واحدة ولا كانت من المختارات على الرغم من ان الذين كتبوا عليه كبار الشعراء وشعراء متفاوتون في الجودة، ولكنهم تساووا في عدم تقديم قصيدة نابهة على بحر الرجز المعدَّل.

وحين سادت العامية تماما صار الرجز بحرا في المقدمة الموسيقية، وتحول من حمار بريد الى حصان سابق يركبه الفرسان وكان ذلك في العصر الحديث، ومن ذلك قول السياب في قصيدته (انشودة المطر) التي عدت اشهر قصيدة عربية في القرن العشرين. وللسياب وشعراء جيله قصائد رجزية كثيرة:

عيناك غابتا نخيل ساعة السحرْ

او شرفتان راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبسمان تورق الكروم

وترقص الاضواء كالأقمار في نهر

ومثل بحر الرجز (بحر المتدارك) الذي صار في المقدمة في زماننا بسبب سيادة العامية وتراجع الفصحى، فنغمته سبيهة جدا بكلامنا اليومي:

اشلونكم = فعلن فع

زينين= فعلنن

أني رايح للسوك= فعلن فعلن فعلنن

لو تدري = فعلن فع

اشكد مشتاقلك = فعلن فعلنن فع

وقد جعل صلاح عبد الصبور كل مسرحياته الشعرية على بحر المتدارك، وجعل نزار قباني أكثر شعره عليه كأنشودة المطر، ورسالة من تحت الماء، الحزن، قطتي الشامية، اني خيرتك.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=165068
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 02 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28