• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : عرسُ الشيطان – قصة قصيرة .
                          • الكاتب : سوزان سامي جميل .

عرسُ الشيطان – قصة قصيرة

بدأ الألمُ يعتصرُ أحشاءهُ, ألم الجوع والعطش, ليس للطعام فحسب, بل لكل شئٍ جميل فقده في غفلة من الزمن.... لامكان يفرُّ إليه غير هذه البقعةِ المنسيّةِ من بيتٍ هدَّهُ الإنفجار قبل أسابيع عديدة... لازالتْ بعضُ الأسمالِ البالية تغطي جسدَه النحيل والتي لا تحميه حتى من لسعاتِ البردِ الخفيفة.
ما يشدّه للمكوثِ في هذا الطلّ المهجور والتشبثِ بجدرانه المهترئة هو أختهُ الصغرى , وهي إرثُه الوحيد من والديه, والتي لاتنفكُّ تسأله عما حلّ بهما, والمسكينُ لايجدُ جواباً أو حجةً لإقناعها.
إنَّ جُلَّ ما يداعبُ ذاكرتَه هي غفوتُه الأخيرةَ والآمنةَ في حضنِ والدِه الحبيب رغم نداءاتِ أمّهِ بالذهاب للنوم في فراشه الوثير, فقد كبُرَ على النوم في حضنِ والده وهو إبن الثامنة, هذا ماكانت تقوله له أمُه على الدوام. هاتفٌ مجهولٌ من الأعماق ألحّ عليه باحتضانِ أبيه واستنشاقِ عطرهِ الطيبِ في تلك الليلةِ الباردة. لم يكن يعلمُ بأنَّ هذه الغفوةَ, في ذلك الحضنِ الدافئ, هي الأخيرةُ وللأبد. نامَ .... وليته لم يفعل ( يفكّر في سرّه, ويشرد للبعيد) !!!! فلو لم ينمْ لربما كانت الأمورُ ستبقى على مايرام , وبدأ الشعورُ بالذنبِ يشاكسُ مخيلتَه الصغيرةَ ويزيدها تعكّراً, وفجأة أفاقَ من خياله المتعَب, على صوتِ أختِه وهي تشكو من الجوع. لم تكن قد أفرغتْ في ذلك الجوفِ الخاوي غيرَ قطعةٍ من رغيفٍ بائتْ كان قد أعطاها إياه أحدُ الصبيةِ المشردين من الحي المجاور, وكان قد سرقَه من بيتٍ في أحدِ الأزقةِ البعيدة.
بدأ نحيبُها يعلو, فالجوعُ ذئبٌ يفترسُ الأشلاءَ بعد رحلةِ عناءٍ طويلة. صادر الألمُ ملامحَ وجهِها البرئ ,وأعتلته نظرةُ الخوف والذهول. خفُتَ صوتها بعد أن هدّه النشيج لدقائق, وأبتدأتْ أجفانُها بالأنطباق. خامرَهُ شعورٌ بالراحة وهو ينظرُ إليها تنام, فقد تُسنح له فرصةَ التجوالِ السريعِ بين الخرائبِ ليُسعفها ونفسه بأي شئ يصلحُ للبلع. خطى باتجاه الشارع , وإذا بالأصوات القويةِ والمخيفةِ تعود للحياة ؛ إنها تشبه تلك التي أخذتْ منه والديه. عاد أدراجَه وقد أوشك قلبُه الغضُّ أن يقفزَ من صدرهِ الصغير. إلتصق بجدارِ المدخل, ارتجفت أوصالُه, وهمهم بصوت متقطع, ثم بكى وكفاه تغطيان عينيه المرعوبتين, ثم بدأ بالصراخ, شعر براحةٍ مؤقتة, واستغربَ كيف لم توقظَ هذه الأصواتُ أختَه من نومها!!..
هدأتْ الأصواتُ المخيفةُ , فتذكرَ جوعَه وأختَه الصغيرة. فعاود المحاولةَ لأستقصاء ما يمكن أن يكون في الخارج. رأى على الرصيفِ في ناصية الشارعِ الذي يطلّ عليه بيتهم, رجلاً طويلاً , ملثَّمَ الوجهِ يحمل سلاحا كبيراً على كتفه, وبكفيه يرقد رغيفٌ, يبدو أنه محشوٌ بشئ . بدأ ينظرُ للرجل ويتوسلُ إليه (في ذهنه) أنْ يضعه جانباً كما فعل آخرون غيره, فيهرعُ هو وأصدقاؤه لتناولِه؛ لكن الرجلَ لم يفعل كالآخرين, وإلتهم الرغيفَ كلّه حتى آخر قضمةٍ منه. طرق اليأسُ بابَ احاسيسِه ثانيةً , بعدما أزاحهُ الأملُ لثواني قليلة, وفكّرَ في طريقةٍ ليحصلَ على الطعام. بدأ يمشي ببطءٍ ووجَلٍ شديدين , لكنه سرعان ما حثَّ الخطى , وبدأ بالركضِ بين الطرقات, يدور يمينا و شمالا ثم يعودُ ليكرر ذلك أملاً بلقاءِ من تحتلُّ الرحمةُ ولو جزأً صغيراً من قلبهِ, لكنْ هيهات!!... أدركه اليأسُ, وقرّرَ أن يعودَ ليتفقدَ أختَه النائمةَ في فراشها الذي تملؤه الأقذار. كانت الشوارعُ والطرقاتُ خاليةً إلا من بعضِ الرجالِ الملثمينَ والمدججينَ بالسلاح . عرفَ منهم إبنَ جارِهم العجوز, والذي لم يكتفي بضربِ والدهِ العاجزِ فحسبْ , بل وطردهُ من البيت ليلفظَ أنفاسَه على رصيفِ أحد الشوارع. وصلَ إلى أطلاله , ترددَ في الدخولِ, أنتظرَ ليسمعَ صوتَ أختِه وهي تسألهُ عن الطعام, لكن الصوتَ خانَه هذه المرةَ , وأخلَّ به السؤالُ. أتُراها تحلمُ بوجبةِ طعامٍ دسمة ؟ أم أنها هادئةٌ بسبب الرعب الذي ما برحَ ينهشُ أوصالَها كوجبةٍ لذيذة.
 فوجئ بمجموعةِ رجالٍ يقتحمون المكان. اندفعوا كالعاصفة بإتجاه الشبابيكِ المكسورة. صوّبوا فوهات أسلحتهم بإتجاه الشارع, مستجيرين بالجدران. خشيَ أن يتهاوى أحدُهم على جسد إخته النائمة أو يتعثر بها, واستغرب هو لمواصلتها النوم رغم كل ما حدثَ ويحدثُ.  ركلهُ أحدُهم , وصرخ بوجهه بنبرةٍ تملؤها الحدةُ والقسوةُ بينما هو مذهولٌ قد شلّه الخوف لا يقوى على الحراك . إلى أين يمكنه الذهاب؟ والبلدة ليس فيها إلاّ تلك الأصوات المرعبة, وعويلٌ من هنا أو هناك لأناس يبكون أو يولولون أو يتألمون. هالهُ منظرُ الترابِ والدخانِ الذين يتطايران من أجسادهم النتنة الرائحة. إشتدّ ذلك الصوت المرعب وازداد اقتراباً ورعباً. سنونه القلائل لم تهبه قدرةً وافيةً على الإ ستنتاج ؛ لم يفهمْ أن الصوتَ قادمٌ بصحبةِ جندِ ملكِ الموت. هرولَ بإتجاه أخته الراقدةِ بسلام, دثَّرها جيداً وأحسَّ ببرودةِ جسمِها الصغير. ضمّها إليه بحنانِ الأخِ الكبير فلمْ تستجبْ واستلقى إلى جانبها. همسَ بكلماتِ أمّه الدافئةِ في أذنها, فلا أحلى وأعذبَ منها كلماتٍ , لكن الصغيرةَ لمْ تحرِّكَ ساكناً.
 أحتدمَ الصراعُ بين الرجالِ الملثمين والأصواتِ في الخارج. بدأتْ  قطعُ الجدرانِ المحطمة تتطايرُ وتتناثرُ في المكان, بسرعةٍ فائقةٍ وقوةٍ عظيمة, حتى استقر أحدُها على جسديهما الطريين. أحسَّ بخفةِ جسده الصغير, وغادره الخوف والجوع والألم,  نادته أمَّه وهي باسطةٌ ذراعيها لتحتضنه, ورأى أباه جالساً على أريكة من المخملِ الأحمر ,يشير إليه ليغفو في حضنه, وأخته تلبس ثوبها الجديد الذي إشترته أمه لها كهدية للعيد. سأل أمه عن الأصوات المرعبة في الخارج, فطمأنته بأنهم هنا, لا يحضرون عرسَ الشيطان.
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=1545
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 11 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18