• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : محسن حسن الموسوي:رؤية نقدية في نزيف الكلمة .
                          • الكاتب : كريم وهاب عبيد العيدان .

محسن حسن الموسوي:رؤية نقدية في نزيف الكلمة

محسن حسن الموسوي طاقة شاعرية مكتنزة تستوقفنا قصائده بجسدها الممشوق وضفائرها العراقية المرسلة وبجمالها المسترخي على وسادة ضفتي دجلة والفرات , وبسياقاتها الرشيقة المنسرحة في فضاء النفس الرقراق , انه يكتب بانسيابية مبهرة تحلق بنا في فضاء القصيدة العربية المرتجلة الاصيلة , المتدفقة بالوزن والخيال والقوافي ,والمتراكمة المتطاولة مع قامات الصورة والاطلالة ,لتسري بنا في سهولتها وسلاستها في ارجوحة اللهفة والانتشاء والتشرب بروح الحقيقة ,فهي تمتاز بالسهل الممتنع وتنساب كنسائم الصيف العليل في شآبيب الفجر لتنعش الذاكرة وتحيي الامل .

السيد محسن هو همزة الوصل بين اجيال متقادمة من الشعراء , لان تركيبة ولوحة القصيدة لديه هي حلقات وصل بين تيارات من العمل الابداعي الممتزج بروح العصر وثقافة الرسالة ,فهو ينتمي الينا من حيث لغة العصر ولكنه ينتمي الى قامات شعرية ارتحلت في ذاكرة التاريخ .

كثيرا ما استوقفتي هالته الشعرية ونموذجه الفني في التاصيل انه اشبه مايكون برسام يرسم الحياة على قارعة الطريق دون تكلف ودون انوار كاشفة لان ادواته الفنية واصباغه التصويرية تكفي للتعبير عن مكنونات نفسه وعن عواطفه الجياشة وعن لوعته وافكاره الهادية .

هاهو يذكرني بكلمات المتنبي أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ - وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ.

كلمات تحمل عمقا فلسفيا تتباهى امام رؤية شاخصة تنغمس في حنايا الوعي لتختزل لنا تجربة عابقة عبر مسامات الكلمات المتدفقة الهادئة الرزينة .

هاهو ينقلنا في ذات العمق الفلسفي - التاملي في قصيدته للشهيد محمد باقرالصدر المسماة ((كلُّ الكلامِ أمامَ جُرْحكَ أخرسُ ))...لنستمع الى موسيقى خفية تداعب الفكر بمنتهى المهارة وبمنتهى الصرامة

في يومِ طَفّكَ ، كيفَ يبدأُ عاشقُ ؟

والروحُ خاشعةٌ ، وجُرحُكَ ناطقُ

وعلىٰ سَواترِ حُزْنِنا دمعٌ جَرىٰ

ولهُ نَشيجٌ في الضلوعِ وصاعِقُ

وتَمرُّ أحداثُ الزمانِ ، فَتَنْحني

طُرُقٌ ، وتُغْلَقُ في الوجوهِ طرائقُ

ويظلُّ جرحكَ نازفاً ، متوثّباً

لنْ يَسْتكينَ ، هو النزيفُ الدافقُ

يُلغي جدارَ الخوفِ ، يَحْطمُ بابَهُ

بيَديهِ صوتٌ هادرٌ ومطارقُ

ما أسكَتوهُ ، وقدْ أذاعوا سِرَّهُ !

فتَناثرتْ بين القلوبِ حقائقُ

هيَ كربلاءٌ ، في جميعِ شجونِها

فهُنا الحسينُ ، وزينبٌ ، ووثائقُ

كلُّ الكلامِ أمامَ جرحكَ أخرسٌ

فعلىٰ ضريحكَ تستفيقُ حقائقُ

هلْ نكتفي بالقولِ حينَ نَمرُّ في

ذكراكَ ، يكتبُ ما يشاءُ الحاذقُ ؟

أمْ نُعطي للدنيا مَذاقَ بطولةٍ

حقّاً ، فجرحكَ لا يَزالُ يُرافقُ

فالشاعر يصعد بنا الى سواتر الحزن حيث تهطل كلمات الالم من نزيف جراح الفكر المهتوك والمستباح من قبل الكلاب السائبة التي لاتقدر الفكر ولاتحترم المفكرين بل تلتقفهم لتضعهم في حبال المشانق وتصادر وجودهم بطلقات بلهاء غادرة تنهي الكيان البدني ولكنها تفتح في الكيان البشري بقعة ضوء .

فهاهو الشاعر يصور لنا تلك الجراح الفاغرة , ولكنها جراح شهادة حق , تكتشف بل تنطلق لتقول الحقيقة

للجرحِ صوتٌ صادعٌ يتكلَّمُ

فانطقْ بجرحِكَ حيثُ هَلَّ مُحرَّمُ

فجراحُ عاشوراءِ صوتُ بطولةٍ

هو محورُ الأحرار ِ يرويهِ الدَّمُ

أعطى الحياةَرسالةً ثوريةً :

شرفُ الرجولةِ في الأذى لا يُهْزَمُ

وإذا ارتضى ذلَّ الحياةِ أخو العمى

فأخو الرجولةِ بالإبا يتحزّمُ

يأبى لنا الإسلامُ نرضى ذلّةً

ولنا بيومِ الطّفِ درْسٌ مُحْكَمُ

مَنْ كان يطلبُ في الكفاحِ مُعلِّماً

فلنا الحسينُ على الكفاحِ معلِّمُ

يتجمّعُ الأحرارُ حولَ خيامهِ

وسواهمُ حولَ المهازلَ خيَّموا

لايستوي مَنْ لا يَقرُّ على الأذى

ممّنْ بِمَنْ صنعَ الأذى يترنّمُ !

هذا عراقُ الطّفِ خيلُ أميّةٍ

ترنوا إليهِ لكي تصولُ وتُرْغِمُ

جَهِلَتْ حضارَتهُ ، وتجهلُ عزمَهُ

فإذا أتت، فخيولها تتحطّمُ

لمْ يَخْشَ أهلُ الطّفِ كثرةُ خصمِهمْ

إن الذي يخشى هو المتشرذم ُ

فَخُذِ الدروسَ فكربلا كليّةٌ

نجحَ الأبيُّ بها وذلَّ المجرمُ

الكلمات هنا تشع بالافكار والقيم بحيث لاتحتاج الى مزيد من الشرح لان قامة الكلمة اكبر من الواقع المرصود واكبر من الهاجس الفكري المراد التطرق اليه او التحلق حوله , كما ان الاشعاعات الفكرية تغمر النفس بهالة من الهدوء والسكينة ..

اما موضوعة الغربة ومعاناة اللوعة والحنين فهي مادة الانسان المسكون بالانسانية وبالافكار العابرة للقارات , فالشاعر هو لوحة الحياة التي تنعكس عليها اشعة الشمس وظلال الليل رغم اننا لانرى من الكاس الا الظاهر , ووحده الشاعر الملهم هو من ينظر في اعماق الكون ليقتبس منه تلك الظلال وتلك الشموس وليمنحنا طمانينة روحية غامرة , هاهي قصيدة ((احلىٰ ليالي العمر أنك مفْردٌ ...

لا تَحْكِ عنّي ، فالكلامُ يطولُ

أنا غُرْبةٌ ، وتَوحّدٌ ، وطلولُ

كلُّ الذينَ عشقتهمْ قد غادروا

لمْ يَبْقَ منهمْ واحدٌ ودليلُ

تركوا خيامي في الصحارىٰ وحدها

وأنا بمعترك الأذى مشغولُ

عنوانهم قد ضاعَ بعد رحيلهم

وأنا وحيدٌ خَلْفَهمْ مذهولُ

وأنا الذي أسرفتُ في تحصينهم

فعلامَ يُنْكرني هنا المسؤولُ ؟!

لا شيءَ عندي يَسْتدلَّ طريقهم

وأمامَ عيني يستفيقُ الغولُ

لا تسألي عني ، أنا مُتَغرّبٌ

قد ضاعَ منّي العزمُ والمأمولُ

فَجراحُ قلبي لا يطيقُ سماعها

قلبٌ رقيقٌ ، حالمٌ ، مقفولُ

إني أخافُ عليكِ مِنْ شَطَطِ الهوىٰ

وأخافُ أنْ يَتَزلزل المعقولُ !

الكبريا تليقُ بي ، لكنما

في الدربِ جاءَ مناكدٌ وعذولُ

وأنا التحدّي في زمانٍ عاقرٍ

هيهات يَغْلبُ أمريَ المشلولُ !

خَلْفي وقُدّامي جحافلُ مِنْ أذىٰ

لمْ احترسْ ، ما عاقني المجهولُ

أحلىٰ ليالي العمرِ أنكَ مُفْرَدٌ

أنتَ المقاتلُ تارةً وقتيلُ

وسواكَ في زنزانةِ الموتىٰ لهُ

ركنٌ حقيرٌ ، ضائعٌ ، وخمولُ !

مِنْ أينَ أنتَ أتيتَ ياقلبي الذي

ما كان في الدنيا إليكَ مثيل ُ !

ألغيتَ تأريخَ الخنوعَ بحكمةٍ

حتىٰ وإنْ شَطّتْ لديكَ فصولُ

أثبتْ ، فمثلكَ لا يُرىٰ في راحةٍ

لكنما بكَ يبدأُ التفصيلُ

لغة التعبير عن المكنون هي اطلالة فلسفية تختزل ذلك الرصيد الفكري وهي في نفس الوقت رسالة مشفرة تتقافز امام الرؤية المنعكسة عن النفس المطرزة بروح الكون المتالق , وهي اشبه ماتكون بابيات المتنبي التي يقول فيها :

ما الشَّوقُ مُقتنعاً مني بذا الكَمَدِ - حتَّى أكونَ بلا قلبٍ ولا كَبِدِ.

ولا الدِّيارُ التي كان الحبيب بها - تشكو إليَّ ولا أشكو إلى أحدِ.

واخيرا اعتقد ان شاعرنا محسن حسن الموسوي هو نبضة ضوء ترف على مدن الكتابة لتشع باشواقنا وبلوعات نفوسنا المهاجرة في فسيسفاء لوحة الرسم البنفسجي ولتروي عطش طيورنا الهاربة مع الفجر القادم من خلف الغيوم .




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=147924
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 09 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18