• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : حينَما يُمسِكُ الجّاهلُ دَفّةَ السِياسَةٌ .
                          • الكاتب : د . اكرم جلال .

حينَما يُمسِكُ الجّاهلُ دَفّةَ السِياسَةٌ

 السِّيَاسَةُ في اللّغةِ تعني "القيام على الشيء بما يصلحه 1″، وأنَّ "فِعْلُ السَّائِسِ، يقال: هو يَسُوسُ الدوابَّ إذا قام عليها وراضها، وَالْوَالِي يَسُوسُ رَعِيَّتَه 2″، والجوهري في صحاحه يبيّن معنى السياسة أنّها: "سُسْتُ الرعيّة سِياسَةً، وسُوِّسَ الرجلُ أمورَ الناس، على ما لم يسم فاعله، إذا مُلِّكَ أمرهم 3".

فالسِّياسَةُ إذَنْ هيَ فِكرٌ وَفَنٌ وَمَنَهَجٌ وإدارَةٌ، وهيَ قُدرَةٌ على التّعامل مِن أجل حفظ ورعاية المصالح؛ إنّها حِكمَةٌ ونظريّة ورؤية يَحمِلُها السياسيُّ متجرّداً عَنِ الدّوافع الشخصيّة والمَنَافعِ الحزبيّة والقوميّة والطائفيّة ومتسلّحاً بأيديولوجيات تواكب الواقع وتُمكنه من الإرتقاء بمستوى الوعي السياسي ومن ثم التعامل مع جميع التّحديات بفكرٍ موضوعيّ؛ السِّياسَةُ هي وَعيٌ ودراسة للتأريخ وقراءة ما جرى على الأمم والشعوب والحكومات السابقة وأخذ العِبرَةِ والتزوّد بالوعي من أجل تَجَنّب الوقوع في أخطاءِ الماضين.

والفِكرُ السياسيّ لابُدّ لَهُ مِنْ هَيكَلةٍ وصياغةٍ ضمن إطارٍ نَظَريّ لكي يُنتِجَ نظريّات سياسية، وإلّا سيبقى فِكراً مُجَرّداً يَتَناقله السياسيون فيما بينهم أو يَجعلون مِنهُ مادّة دعائية وشعارات جوفاء وحركات بهلوانية يستخدمونها في خُطبهم، يَستميلون بها السُذَّج مِن عَوامّ الناس. 

أمّا النظريّة السياسية، فهيَ خُلاصة تَراكُماتٍ فِكريّة، ودروس مَعرفيّة وَتَجارِبَ سياسيّة، إنّها ثَمَرة قراءة مُتأنّية للواقع ومُتغيّراته، وما يُفتَرَضُ أنْ يَصِلَ إليه المُنجَز السياسيّ في المُستقبل القريب والبعيد. فمِن خلال هذه النظريّة أو تلك تُحدّدُ أسُسَ وحُدودَ خريطة العمل السياسي لهذه الدولة أو تلك، فالنظريّات السياسية إنّما جاءت مِنْ أجلِ رَدمِ الهُوّة بينَ الواقع والعمل السياسيّ، وتقديم رؤى ومناهج أكثر انسجاماً ومواكبة مع المتغيرات، فالواقع السياسي بطبيعتهِ مُتغيّر تَبَعاً لتَغيّر الظروف الداخلية والخارجية، وأنَّ السياسةَ الحكيمة هي تلك التي لا تتعاطى مع التحديات والمتغيرات بنظريات ثابتة (Static) ، بل لا بد من رؤية تَتّسم بالمرونة (Dynamic).

إنَّ العلاقة بين الفكر والواقع كانت ومازالت محطّ تأمّل كثير من المفكرين طوال عقود من الزمن لما لها من دور أساسي في تحديد مستوى التطوّر والإزدهار في المجالات السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية لدى الأمم والمُجتمعات. تلك الجدليّة التي أعطت الفكر دوراً ريادياً في قراءة الواقع بصُوَرِهِ المُختلفة وَتَمظهراتِه المُتغيّرة، وانطِلاقِهِ مِنْ عَقلانيّة وَمنطقيّة تَشَيّدَت على أساس النظريّة والدليل، هذا الفكر كان هو الدرع الحصين أمام كل التحديات التي قد يتعرّض لها البلد، بل هو المحرّك الأول لحقائق الأحداث، وكل شيء يدور في فلكه.

لَقَد قدّمت الحضارة الفرعونية العديد من النظريات السياسيّة، أبرَزها مَفهوم المَلك الإله الذي هو الدولة والقانون، وأمّا الحضارة اليونانيّة فقد شَكّلَت نَظَريّة سياسيّة مَبنيّة على أبعاد ثلاث، وهي: الطبقيّة والديمقراطية والنظام السياسيّ المَركزي بمؤسّساته التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائية، إضافة إلى نظامٍ لا مَركزيّ يُديرُ مناطقَ مَحليّة. كانت الحضارة اليونانيّة ولّادَةً لأساطين في الفكرِ السياسي، فَكانَ أفلاطون، وَمِنْ خِلال كتابه "الجمهوريّة"، أوّل من قدّم "المثاليّة" كَنَظريّة سياسيّة في إدارة الدولة مُتّخذاً مِنَ "المَعرفة أصلُ الفَضيلة" منهجاً للبناء، رُغمَ أنّه تَراجَعَ في آخر أيامه، وَمِنْ خلال كتابهِ "السياسي" وكتاب "القانون" إستَبدَلَ المِثاليّة بنظريّة الدولة المتوازنة واستعاض عن سيادة المعرفة بسيادة القانون.

ثُمّ جاءَ أرسطو مُؤسس "عِلمُ السياسة" فَقَدّم نَظريّة الدولة الدستورية، مُعتَبِراً سيادة القانون أساساً لها، وأعطى لمفهوم الديمقراطية حُلّة جديدة ورسم المراحل الستة في بناءِ الدولة وهي على النحو الآتي: المَلَكيّة الدستوريّة ثُمَّ الحُكم الاستبدادي، ثُمّ الحُكم الأرستقراطي ثُمّ الأوليجاركية، ثُمّ الحُكم السياسي (الدستوري)، ثم الديمقراطية. وكان للرواقيين درواً محوريّاً في صياغة وتقديم نظرية القانون الطبيعي، مُعتبرين أنّ طبيعةَ الأشياء هيَ التي تُحدّد مُفردات هذه النظرية انطلاقاً من رغبة الأنسان وَسَعيِهِ نَحوَ التّكامل. وهكذا تَوالَت النظريّات السياسية الكلاسيكية على الفكر الإنساني لفترة طويلة، حتى مَطلَعِ القَرنِ السّابع الميلادي، حَيثُ ظَهَرَت أفكارٌ وَنَظريّات مكيافيلي، وهوبز، واسبينوزا، والذين يُعَدّون أهمّ رُوّاد الفِكر الفلسفيّ السياسيّ الحديث، فقد كانَ للمنهج المكيافيلي، ومن خلال كتابه "الأمير"، الدور الأبرز بتغيير الرؤيةّ الفلسفية في السياسية مِنَ التّأمُلِ النّظري إلى الواقعيّة العمليّة وإحكام السيطرة على المجتمع وفقاً للمنهج العقلي ذو الطبيعة النّفعية؛ أمّا اسبينوزا فقد كان ومن خلال كتابه في الفلسفة السياسية "رسالة في اللاهوت والسياسة" واضحاً في رفضه الفلسفة السياسية الكلاسيكية، حيث استبدلها بالواقعية السياسية من خلال التمييز بين الواقع الديني والسياسي (كما يرى)؛ ويُعَدّ "اللفياثان"، الكتاب الذي ألّفه توماس هوبز أحد أهمّ المراجع الفكريّة الذي تَحدّثت عن نظريّة الدولة، حيث شَرَحَ نظريّة العَقد الإجتماعي التي تُوضّح الترابط بين الحاكم والمَحكوم (الأفراد) ضِمنَ عَقدٍ يَضمن من خلاله الأفراد حماية حقوقهم مقابلَ التَخلّي عَن بَعض حُريّاتِهِم وإخضاعها لسلطةِ الحاكم.

لَقَد تَوالَت بَعد ذلك النَظريّات في علم السياسة مِنْ أجلِ بَلورة رُؤية لِطَبيعةِ المَنهج السياسي الذي يضمن السعادة والرفاهية، ففي عَصرِنا الحاضر يُعتبر كتاب نَظريّة العدالة للفيلسوف جون رولز (1971) أحد أهمّ الكُتب التي رَسّخ من خلالها مَبدَأ العَدالة الإجتماعيّة وأعادَ للفكر السياسي مكانته. وفي العام 1991 قدّم العالمان في مجال العلوم السياسية Liesbet Hooghe وGary Marks ، نظريّة الحُكم مُتعدّد المُستويات (Multi-level Governance Theory)، حيثُ توسعة السلطات عمودياً بين مراتب الحكومة المركزية، وافقياً للحكومات المحلية والأقليمية والفدرالية والمنظمات غير الحكومية والتي قد تساهم في بلورة رؤية صحيحة من أجلِ اتّخاذ قراراتٍ سياسيةٍ حكيمةٍ وصائبة.

وأمّا الدين الإسلامي، ومِنْ خِلالِ آياتِ القٌرآن الكريم، ذلكَ الكتابُ الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن خلال روايات الرسول المُصطفى وأهل بيته الكرام صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، نقرأ مشروعا سماوياً متكاملا ، لا شكّ أنّه البديل لجميع الأطروحات والنظريّات الوَضعيّة، حيثُ انبرى لشرحه وتبيانه العديدُ من عُلماء الدين، نذكر منهم في العصر الراهن السيد محمد باقر الصدر (رض)، الذي أوّل ما اعتمد "نظرية الشورى" كأساس للحكم الإسلامي، لكنه لاحقاً،ومن خلال بعض كتاباته، كان يميل إلى نظريّة "ولاية الفقيه"، والتي واجه بسببها معارضة وعزوفاً من قبل بعض الأوساط العلمية، الأمر الذي دفعه ومن خلال كتابه "الإسلام يقود الحياة" إلى تقديم نظريّة ثالثة، كانت تُمَثّل الوسطية بين "نظرية الشورى" ونظريّة ولاية الفقيه"، وهي بلا شكّ تُعتبر خلاصة فكر وعبقريّة اجتَمَعَت في رَجُلٍ قد جَمَعَ الدين والسياسة وَقدّمَ نَظريّة قلّ نَظيرها.

 

إنّ عَمَليّة الفَصلِ بَين الفِكرِ والسياسة والعُزوف عن استقطاب السياسيّ المُفكر هيَ ظاهرة خطيرة تُعَمِّق مَفهومَ الجّهل السياسي وتهيّئ لقيام طبقة سياسية جاهلة، وهذا هو أخطر أنواع الجّهل، حيثُ أنّ إنعدام المعرفة وغياب الفكر السياسي هو باب يقود إلى التخبّط في قراءة الأحداث والمتغيّرات، وَمِن ثُمّ اتخاذ قرارات السياسية غالباً ما تأتي أرتجالية خاطئة، تنمّ عن جهل وفراغ فكري. فالأخطاءُ في القرارات السياسية ليست كباقي الأخطاء، فتبعاتها قد تكون كارثيّة، وقد لا يَكون بالإمكان تَلافيها أو تَصحيحها، الأمر الذي يؤدي إلى نتائج مروّعة وخسائر فادحة  تلقي بضلالها على هيبة البلد واقتصاده، بل على كل مؤسساته وقطاعاته.

فمنذ عقود ومشاكلنا تتعاظم حيث الفراغ الفكري والجهل السياسي يطفون على الساحة، يعينهما على ذلك الهوس في المال وعشق المناصب والكراسي، وشعارات الجهل البراقة، والهتافات والأهازيج والنفاق والكذب، كُلّها أعانت على هَيمَنَةِ الجَهالة العَمياء وَتَربّع البَلاهة والغباء على سُدّة الحُكم، حيث الفراغ الفكري والجهل السياسي أخذ يضرب أطنابه، لتطفو هذه الطبقة السياسة والتي هي أشبه بالدمى، تحرّكها خيوط شبكات وعصابات محترفة؛ ضاعَ الفِكرُ وانمَحَتِ المَبادئ وَتَبَخّرت الأيديولوجيات وتحوّلت المشاريع إلى حِبرٍ على وَرَق، والقرارات السياسية في خدمة تجّار المال، بَعيدة عَن مَصلحة البلد، الأمر الذي أدّى إلى تَعميق الهوّة أكثر بين السياسة والواقع. وفي المقابل ضرب أصحاب المنافع قيداُ وفرضوا حصاراً وتهميشاً مُمَنهجاً على أولئك الذي يمتلكون فكرأ مَوضوعياً، فأُجبِروا عَلى الصَّمت، وَبَقِيَت تلك الأفكار حَبيسة الصدور.

ولأنَّ الفِكرَ والنظريّة هيَ البوصَلَة التي توجّه العملية السياسية، فحينما تخرج عن سكّة الواقع تبدأ رَحلة المُجتمع نَحو التّخلّف والتّراجع ، ولأنَّ وَتيرة الأحداث في تسارع، فَزمانُنا زَمنٌ مُعَولَم، تَتَوالى فيهِ المآسي والوقائع، وَنَحن بين متفرّجٍ وغافلٍ وجاهلٍ وطامع، فقدنا حقائق الأمور وغابت عنّا الأسرار وانْمَحَت مِن عقولنا الأفكار، فنَتَجَ عنه جَهلٌ وَدَمار، طبقةٌ سياسية لا تجيد سوى استعرض البطولات في الشعرات والخطابات، أفكارهم تافهة غير منطقيّة، هي أقرب إلى البلاهة والرداءة والأميّة، لأنّها وببساطة لم نشهد لها مراعاة وتطبيقات حقيقية. واقعنا السياسي والإقتصادي والإجتماعي أصبَحَ مَرهونٌ بِيَدِ ثُلّة جاهلة، والأدهى من ذلك أنّها تجهل أنّها جاهلة، إنّهُم خلاصة رِهانٍ عَولَميّ إجتمع لاستعباد شعبي وسرقة ثروات بلدي، أعانه على ذلك معتوه يظن جهلاً أنّه سياسيّ ووطنيّ.

المصادر

أبن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، (2/421).

أبن منظور، لسان العرب، (6/108).

الجوهري، الصحاح، (3/938).




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=146628
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 07 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18