• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : مؤلمة حقاً يا جيفارا  .
                          • الكاتب : طارق الغانمي .

مؤلمة حقاً يا جيفارا 

 كان يا ما كان، وفي بقعة من هذا العالم، ففي أحدى الليالي ذات الظلام الدامس، ومع اشتداد السواد المخيف تعرضت كتيبة من الجيش العراقي المرابطة في ناحية الكرمة قرب الفلوجة إلى هجوم كاسح وغير متوقع من الجماعات الارهابية الداعشية، وبعد مواجهات عنيفة استمرت عدة ساعات، ومع شدة مصادر النار التي اطلقتها العصابات التكفيرية أجبرت الكتيبة وقبل نفوذ ذخيرتها الأنسحاب من أرض المعركة، لكنها لم تعلم أن لديها جندي جريح بقي وحيداً في ذلك المكان يصارع بدمائه السائلة لتروي الأرض شعراً وقصائداً تفنن بها الشعراء والأدباء والكتاب، وصارت قصته مضرباً للأمثال في العز والشموخ والصمود للأجيال اللاحقة. 

   لقد أصيب الجندي مصطفى ناصر العذاري بعدة أجزاء من جسده وتعرضت ساقه للكسر فلم يقوَ على الأنسحاب مع رفاقه، لاذَ بأحد البيوت المجاورة لكتيبته وبقي مرابطاً ومقاوماً بكل بسالة وشجاعة وبعد نفاذ ذخيرته وقتل ما استطاع قتله، أعياه نزف الجراحات والعطش وراح يصبر روحه ويذكرهها بمواقف سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في يوم كربلاء، وعادت به الذكريات إلى مواقف كثيرة كانت تهمس بأذنه بأستمرار وهو يسير ماشياً على قدميه في زيارة الأربعين، كيف مات الحسين عطشانا؟! وكيف أبت تلك العصابة أن تسقيه قطرات ماء وهو يصارع الموت ... لماذا سحقوا جسده الشريف تحت سنابك الخيل؟! دموع وآهات وغصص راودته في ذلك الطريق .. ليأتيه الجواب ولو بعد حين، ويرى بأم عينه كيف قامت عصبة الطغاة بكل ذلك في سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام). 

بقى مصطفى وحيداً يصارع أفكاره وجسده الذابل النحيل وهو يتغذى على رذاذ الفجر الشفاف الذي ضرب وجه آملاً بالنجاة، والرغبة بالانبعاث من جديد لكن لم يعد يكن هناك سبيل للنجاة مطلقاً فقد حوصر من كل الجهات، ويداهم وينقاد أسيراً من أغراب بالكاد يتكلمون بعض العبارات من لغة البلد، وبالتالي يطوف به مع القوافل دون معرفة دليل أو نقطة محددة لما سيجري له.

أي زمان هذا؟! فقد انعدمت الإنسانية وماتت الضمائر وباتت فيه الأرواح رخيصة.

 أخذ مصطفى في سيارة مكشوفة وطوف به مدينة الفلوجة التي تسمى بـ(أم المساجد)، وأخذ أهلها يصفقون ونسائها تهلل ورجالها تلوح بأيديها بعلامات النصر ويمجدون بهم وتتعالا الصيحات "حي على الجهاد" كأن مصطفى جاء به من بلاد الأغراب وليس عراقياً يدافع عن بلده.

انتابه شعور غريب على ذلك الموقف، كاسراً صمته بنظراته العميقة، متمتماً بكلمات الوداع بدهشة، وكان ينظر بالوجوه باحثاً عن شيءٍ ما، وكأن لسان حاله يقول رحم الله الثائر جيفارا الذي قال لحظة إعدامه: "ما يؤلم حقاً .. أن يموت الإنسان على يد من يقاتل من أجلهم" !! شيء أشبه الأمس باليوم، تضحي وفي النهاية يضعوك في قفص الاتهام.

ما ابشعها من جريمة.. ولعن الله من نظر إليه ولم تتحرك فيه عراقيته ولم ينصره.

لما تتطلع إليهم يا مصطفى؟ فهم لم يكن لهم دين، ولم يكونوا احراراً في دنياهم، وانت يا بن العراق ياغريب الفلوجة، ستنتصر دماؤك على بنادق غدرهم وخستهم، طوبى لك وبئساً لهم.

وفي الأخر شنق مصطفى وبقي معلقاً ثلاثة أيام تحت أحد جسور لاعناً ذلك الظلام بأيقاد شمعة شهادته بكل فخر واعتزاز، مختاراً عنواناً لحياته التي طرزها بالمجد والخلود.. رحل الجندي المغدور وبقت هناك غصة كبيرة لا تقبل البوح أبداً، بقى وجع الغدر في القلب ليكون مخرج هذه الرواية الكئيبة، وصدق من قال: في غمرة الموت تستمر الحياة، وفي غمرة الغدر تستمر الحقيقة، وفي غمرة الظلام يستمر الضوء.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=145801
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 06 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29