• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الأوزان الجاهلية .
                          • الكاتب : د . محمد تقي جون .

الأوزان الجاهلية

اللغة  العربية واضحة الحركات والسكنات فهي تبدأ بمتحرك ولا تبدأ بساكن بعكس اللغات لوضوح الحركة والسكنة فيها.

    وبهذا فالوزن العربي قام على عدد محسوب ودقيق من الحركات والسكنات، وعلى ما يلفظ فقط. وقد ساعد العرب على هذا اعتمادهم الشفاهية، فهاجس واحساس الكتابة غير موجود عندهم ولاسيما عند نظم الشعر.

    وقد اهتدوا الى وضع ايقاعات تناسب كل حالة بما امتلكوه من رهافة حس. كما ان وضع الوزن قد يكون فرديا في البداية حتى اذا اشتهر تبنته المجموعة او اجرت عليه التعديلات المناسبة للنضوج. وربما وضع شاعر وزنا فلم يقلده احد فيه فظل شعره النموذج الوحيد او القليل عليه مثل:

هل بالديار ان تجيبَ صَمَمْ       لوان ربعا ناطقا كلَّمْ

ومثل:

اقفر من اهله ملحوبُ    فالقطَّبياتُ فالجنوبُ

 فهذه اوزان فردية لم يكتب عليها، وحينما وضعت كتب العروض حاولت ان تجد لها مخرجا عروضيا.

المهم هذه المحاولات والتجاريب كثيرة، وهي أكثر مما رويت في كتب الادب والعروض، فأغلبها نُسي وضاع لعدم تبنيه من الشعراء ولعدم اهميته الفنية. وبهذا صار عندنا اوزان كثيرة مثل بضاعات مصنعة، منها ما اكتسب الثقة فنفق، ومنها ما لم يكتسب الثقة لقلة الجودة فبار. وهكذا هذه الاوزان اهملت وبقيت نماذج من الشعر قليلة محفوظة عليها.

     وكانت أسواق الشعر مصانع لصقل الاوزان والايقاعات الشعرية التي تنسج عليها الاشعار، كما انها الحكم في جودتها وجدواها، فنحن نجد الاوزان الضعيفة تكثر في البوادي وتقل في الحواضر بسبب وجود هذه الاسواق والحكم عليها، كما ان بلاطات الممدوحين من  الحواسم في هذا المجال، فالشاعر بحاجة الى كسب ود الممدوح بشعر مؤثر، والوزن الضعيف لا يساعد الشاعر في ذلك، بل هو يقتل الفكرة والخيال ويستنزف كل طاقات الشعر، والشاعر المجرب ينتهي به المطاف في هذا البلاطات الى البحث عن الوزن المستحكم.

    ان استقراء الاوزان في العصر الجاهلي يؤكد ان الاوزان لم تخرج من بحر الرجز كما يظن البعض، ولا ان الرجز سبق تلك الاوزان؛ لسبب هو ان فكرة الوزن لم يبتكرها العرب، فكل اشعار الارض موزونة ولكن طريقة الوزن تختلف، وتكون منسجمة مع طبيعة اللغة. وما اجتهد به العرب ليس اختراع فكرة الوزن، وانما اختراع اوزان قادرة على منح الكلمات سحر الموسيقى.

   ويتفق الدارسون ومنهم ابن قتيبة على ان الكثرة من شعر العرب قد ضاعت، بل ضاعت اسماء شعراء كتبوا تلك الاشعار. فابن قتيبة يذكر ان (ابا ضمضم) انشد شعرا لمائة شاعر اسمهم (عمرو). ولم يستطع الاصمعي وخلف الاحمر تذكر اكثر من ثلاثين شاعرا بهذا الاسم، علما ان ابا ضمضم ليس راوية محترفا. وهناك من سقط شعره ولم ينقل، ويوجد رجاز ثلاثة (منذر ونذير ومنتذر) كانوا مشهورين ولكنهم عاشوا في البادية وماتوا فيها فنسي شعرهم. وحتما مع هؤلاء يوجد شعراء لم ينقل شعرهم وبقي رهين بواديهم فضاع.

     وهذه الاشعار الضائعة ليس يدرى على اي الاوزان نظمت. وليس يقطع بأن الاوزان السليمة هي التي وصلت فقط، وان الاشعار التي لم تصل ليس فيها ما كتب على وزن منسجم وقوي الايقاع غير مشهور مما نعرفه من عروض العرب. بل على الضد من ذلك ارى ان اوزانا جيدة ضاعت مع ما ضاع من الشعر. والدليل ان بحر (المديد) مات في العهد الاسلامي، فلم يفلح الشعراء المسلمون ابقاءه حيا على الرغم من محاولاتهم. وهذا يؤكد ان اوزانا كثيرة ماتت لسبب أو آخر.

   العروض الجاهلي او العروض الذي سبق وضع كتاب العروض يختلف عن العروض الذي وضعه الخليل. الفرق الاهم ان العروض السابق هو عروض عملي وتناوله الشعراء وعاناه الشعراء، فهو عروض متحرك فاعل منتج ولود. اما علم العروض فهم يخص التعليم والعلم ولم يوضع للشعراء وهو جامد استقرائي عقيم، بل انه حاول ان يضع حدا لابتكار اوزان جديدة من شعراء عباسيين اكثرهم عجم مثل ابي نواس وابي العتاهية ورزين العروضي وابن السميذع الذي جعل كل شعره على اوزان ابتدعها. وارى ان الخليل كلفته مؤسسة الخلافة بوضع اطار للأوزان العربية وما خرج من هذا الاطار ليس عربياً. وبالفعل فان بعض المتشددين لم يعترف بالاشعار التي كتبت على غير الاوزان العربية.

  وتطول قائمة الاوزان المستحدثة منذ عروض الخليل الى يومنا هذا، لان الشعراء يظلون يبحثون عن انغام جديدة تلائم عصرية شعرهم وحتما تظل علاقة بين حركة العروض وحركة الحياة. والعصر العباسي كغيره انتج موسيقى الا ان تسيد الشعراء العجم في العصر العباسي الاول وابتكارهم اوزانا أخاف بلا مبرر من انزواء الاوزان العربية. وهذه الحساسية نسيت ان ابتكار الاوزان غير مقصور على العنصر العجمي، فهناك شعراء عرب قد يبتكرون اوزانا ايضا. كما ان اكتشاف الوزن قضية فنية انسانية، وهي حتما تضيف الى الشعر العربي. وقد اثبت الواقع ان الاوزان غير العربية التي عبرت من نقطة تفتيش كتاب العروض وهي : المجتث والمضارع والمقتضي والمتدارك لم تكن بقوة ورصانة الاوزان العربية الجاهلية وقد ماتت في عصرنا عدا (المتدارك) والمتدارك بقي واشتهر بفضل شعبيته وليس شاعريته.

   ونخلص الى ان الخليل بن احمد اخرج ستة عشر بحراً، منها اثنا عشر بحرا جاهليا عربيا، ومنها اربعة بحور عباسية منحها العروبة لانها دارت في دوائرها التي وضع لها اسس معينة تقوم على التقليب، وهي نفس الاسس التي وضعها لمعجمه العين. وان بحور العروض ليس هي كل البحور العربية، فكثير من البحور العربية ضاع واندثر لقدمه ولعدم وصوله الى عصر التدوين. كما ان من بحور كتاب العروض ما هو غير عملي مثل المديد الاصلي (فاعلاتن فاعلن فاعلاتن) لان نغمته لم يقدر عليها الاسلاميون كما يقول ابن المعتز، وبحر المضارع سقيم الوزن عقيم الايقاع لم يلحقه الخليل بالبحور الا لانه امتلك شروط الخليل وليس شروط الفن، ومن الخطأ الفاحش والاثم الموسيقي الكبير ان يعد المضارع بحرا شعريا ولم تكتب عليه قصيدة واحدة.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=143868
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 04 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20