• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : صرخة لالـغـاء ثـقـافـة الالـغـاء .
                          • الكاتب : حميد آل جويبر .

صرخة لالـغـاء ثـقـافـة الالـغـاء

قبل خمسة وثلاثين عاما وعندما كنتُ دون العشرين من عمري جمعني لقاءٌ مصيري مع واحد من اهم حملة الفكر الاسلامي المتمدن ، ذلك اللقاء الذي شكـّل نقطة تحوّل كبرى في حياتي اللاحقة منذ وقت مبكر اي في ذروة سنوات المراهقة واستعار نزعة التمرد وحب الاستطلاع . فقد رافقتُ الكاتبَ المصريَ الكبير عبد الفتاح عبد المقصود في رحلة الى شط العرب في منطقة لا يفصل ايران عن العراق فيها الا مياه نهر دافئة مسالمة سرعان ما اضرمت فيها النيران بعد ذلك بقليل في حرب طائفية طاحنة التهمت الحرث والنسل. كان عبد المقصود الذي يعد واحدا من افضل من كتب في الامام علي "عليه السلام" يكبرني آنذاك باكثر من نصف قرن ، وكنت قد اكتشفته قبل ذلك اللقاء بيومين فقط حيث كنت مكلـَفا بالعناية باسرته المكونة من ابنته الموقرة "كاميليا - هكذا كان يدعوها" وحرمه المصون التي خـُلقت من سنخه وقارا ووعيا . هذا الفارق الفاحش في العمر ، افسد علي شرف الاغتراف من معارف ذلك العيلم الزاخر بالعلم والوعي . ولاني كنت اتهيب من وقاره فقد تبخرت اسئلة كثيرة كانت تحوم في دماغي آنذاك ، وما بقي منها حال دون طرحه عليه جنوحه الكبير للتامل والصمت ، ولم اكن حينها في وارد افساد لحظات تأمله وصمته التي كانت انفع لابناء جلدته من لغو الكثير من المتمنطقين . ولاني كنت مستفردا به تماما ، فسائقنا الصبور ظل طوال الوقت منتظرا داخل السيارة  ، فقد اغراني ذلك الاستفراد بان اكسر حاجز الصمت الرهيب ، حيث كان صاحبنا يتأمل في مياه الشط طويلا وكانه يستشرف الحرائق التي ستشتعل بها لاحقا . استاذ !!! هل يستحق تاليف كتاب عناء البحث والكتابة وتحمل ردود الافعال التي لا ترحم في الكثير من الاحيان ، خاصة وانك تعيش في بلد ، اقلام مثقفيه متوثبة كالسيوف بانتظار تشريح كتاب يصدر هنا او مقال ينشر هناك ؟ :" اسمع ياولدي ، عبّرْ عن فكرتك بقناعة تامة من دون الاساءة للقارىء ، اي قارىء، ولا تكترث لما سياتي بعد ذلك ، ولتكن المعلومة التاريخية الموثقة هي مطلبك ولا تنس ان تتجنب تبني احتكار الحقيقة ما استطعت ، ولاني لا اطيق اطلاق الاحكام الصارمة ، لذا لا اريد لقارئي ان يتهمني بما اكره" . هذا كل ما اتذكره ، بالمعنى وليس النص ، من حديثه في ذلك اليوم المفصلي الجميل . ثم دارت الايام دورتها واطلعتُ بوعي على ذلك السِفر الكبير الذي امضى مفكرنا ربع قرن من حياته المعطاء في تاليفه ، فاضاف للمكتبة العربية كتابا رغم سعة حجمه فانني لا اكاد ارى فيه الا الموضوعية في سرد المعلومة التاريخية الموثقة ، و التحليل الواعي والعلمي للاحداث ، و الوصف الشاعري للاجواء والاشخاص . اقول يوما مفصليا لانني لم اكن قبل ذلك اعرف عمق الخلاف بين اكبر طائفتين مسلمتين بسبب صغر السن والانصراف تماما للاستجابة لمتطلبات المرحلة العمرية آنذاك والتي كانت ممارسة كرة القدم ومتابعة اخبارها بجنون في راس اولوياتها. وعندما اكتشفت ابعاد ذلك الخلاف متاخرا كنت - من الطبيعي - مصطفا الى جانبٍ على حساب جانبٍ بسبب الانحدار العائلي المتدين . لكن اكتشافي عبد الفتاح عبد المقصود وشخصيته المنفتحة على الاخر ، فجّرا بي شهية البحث عن نماذج مشابهة في مذهبنا ، فوجدت في الباحث الكبير المرحوم مرتضى المطهري شيئا كبيرا من ضالتي ، فهو ليس شيعيا فقط وانما شيعي معمم وله من المريدين الكثير ، ثم قادني هذا الى اكتشاف الدكتور الخالد الذكر علي شريعتي ، الذي كشف لي مبكرا عن الزوايا المعتمة في تصورنا للدين والمذهب . استطيع الان انْ ازعم بان اعمدة الحكمة الثلاثة هؤلاء رسموا لي خارطة الطريق التي ما زلت ابني عليها حتى اليوم . خارطة مشرقة غيّرت مسيرتي في الحياة وعلمتني انني عندما اكون شيعيا لا يعني ان كل مذهب خلا مذهبي هو الشر المطلق ، او انني عندما اكون سنيا فهذا لايعني بالضرورة الغاء كل ما لدى الشيعة من مبادىء وافكار . اتساءل الان باعتباري اعتنقت مذهب اهل البيت بالوراثة ،ولو انني كنت قد ولدت في محيط سني لاوردت السؤال بشكل معكوس تماما ، هل يعني ان اعتناقك لمذهب ما هو تسفيه لكل ما يرد في المذهب الاخر من افكار ؟ الملاحظ ان كل من اراد الطعن بمذهب التشيع راح يعدد ما يراه مثالبا ، انتم تؤلهون الامام علي ، وتخوّنون جبريل ، وتطعنون في شرف امهات المؤمنين ، وتسبون الصحابة ، وتلعنون الخلفاء ، وتعبدون القبور ، وتصلون على صنم ، وتضفون صفات الله على ائمتكم ، وتؤمنون بامام يقيم مختفيا في سرداب ، وتعتبرون القران ناقصا،  وتخالفون اجماع المسلمين ، وتبدعون في الدين كالخـُمس وزيارة الاضرحة ،وارسال اليدين في الصلاة ، وتذكرون عليا في الاذان والاقامة ، ولا تؤمنون بالتسلسل التاريخي للخلافة الراشدة ، وتقلدون كالاعمى مراجع الدين ، وتبالغون في الحزن لطما وتطبيرا ، وتضمرون العداء لابناء الاسلام و... و...و. اسألُ باعتباري احد الذين تـُوجه اليهم هذه السلسلة المتدفقة من التهم ، ماذا لو صادقتَ شيعيا لا يؤمن بجميع هذه النقاط تقريبا بل ويسفه الكثير منها . هل ستمتلك الجرأة لتضمه الى صدرك اخا في الايمان بعد ان رفضته اخا في الخلق ؟ اقسم بالله العظيم انني ومعي جميع افراد اسرتي الكبيرة وخلفي جمهور كبير من الشيعة ، لم اسب ابا بكر او عمر او عثمان طيلة حياتي ولا اظني فاعلا ذلك ما حييت ، وان ايماني بان عليا افضلهم واسبقهم ايمانا واعدلهم واغزرهم علما وحكمة وشجاعة واحق منهم جميعا بالخلافة لا يبرر لي ابدا سبهم فضلا عن لعنهم . فهل انتم عني وعن اشباهي راضون ؟ اقسم بالله العظيم بانني – ومعي الملايين - لا ارى في علي بن ابي طالب الا عبدا متواضعا من عباد الله ، خلقه الله من دمهم ولحمهم ولا يختلف عنهم الا في سجاياه الاخلاقية التي اعتقد بانها لم تجتمع لشخص سواه الا في محمد صلى الله عليه واله. وان عدم ذكره في الاذان والاقامة والصلاة لا يطعن مقدار ذرة في صحتها ، فهل انتم عني وعن اشباهي راضون ؟ اقسم بالله العظيم انني اؤمن بان محمدا رسول الله وانه خاتم النبيين وان جبريل ادى الامانة كما كلفه الله بها ولم يخنه طرفة عين ، وانني لم اسمع شيعيا في حياتي قال : "خان الامين" في الصلاة او غيرها، فهل انتم عني وعن اشباهي راضون ؟ اقسم بالله العظيم ان هذا القرآن الذي يتداوله عامة المسلمين هو قرآني الذي اتزلف الى الله به ، وانني لم اسمع بقرآن فاطمة فضلا عن ان ارى نسخة منه ، الا من اتهامات الطوائف الاسلامية الاخرى وان مصحفين في بيتنا فقط ، احدهما طبعة السعودية بخط عثمان طه والآخر نسخة عراقية طبعت في زمن صدام التكريتي والتي كان قد صححها المرحوم هاشم الخطاط مطلع السبعينيات في المانيا . وانني لا يكاد  يمر علي يوم الا واعطـّر في صباحه الباكر سمعي بتلاوة شيخ المقرئين محمد محمود الطبلاوي الطبلاوي ، فهل انتم منتهون ؟ وعني وعن اشباهي راضون ؟ اقسم بالله العظيم انني ومعي الملايين لا اقر المبالغة في الحزن على مصيبة الامام الحسين الذي يتسبب في اذى للجسد مع معرفتي التامة بحقه وحق آل بيته وصحبه الكرام ، وانني لا اقوى على مشاهدة ولو صورة فتوغرافية واحدة لعملية التطبير التي يمارسها البعض ممن يؤمنون بها ، فهل انتم عني وعن اشباهي راضون ؟ اقسم بالله ومعي الملايين بانني زرت المراقد المشرفة للامام علي وابنيه العظيمين الحسين والعباس عليهم السلام مئات المرات ، لكنني لم ادعُ سوى الله عند قبورهم بل ولعلي حرصت على ان اصلي موجها ظهري للاضرحة لكي لا تصرفني  الاضرحة الفضية عن حضور القلب ، فهل ما زالت تهمة عبادة القبور تلاحقني ؟ اقسم بالله العظيم انني ومعي غالبية الشيعة برىء من سب او لعن الصحابة اجمعين ، فان مثل هذه التهمة لو صحت حقا فان المقام الشامخ للامام علي "عليه السلام" وصديقه الصادق الصدوق ابي ذر الغفاري سيكونان اول من يشملهما هذا السباب ، الذي لا اظن شيعيا على وجه الارض يقبل به ، فهل انا وهؤلاء الملايين مبرؤون من هذه التهمة الجائرة ؟ اقسم انني من النادر ان اصلي على تربة حسينية او اي تربة اخرى واكتفي بالكثير من الاحيان بأي شىء لا يصلح عـُرفا للبس او الاكل ، فها انا برىء من عبادة الاصنام ؟ انني ومعي الملايين من الشيعة المتحفظين على صنيع ام المؤمنين عائشة وخلافها الدموي مع الامام علي ، نعتبر التعرض لازواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس من قريب حرمة رسول الله ، وان من اجل عين هذا النبي العظيم "الف عين تكرمُ" . فهل انتم عنا راضون ؟ اما موضوع التقليد والخمس وولاية الفقيه ، فان نظرة بسيطة ولو غير تخصصية لخلافات الشيعة فيما بينهم حول هذه المواضيع تكشف انها مسائل خلافية تجعل بعضا من الشيعة اقرب الى السنة منهم الى الكثير من الشيعة . وكذلك الامر بالنسبة لمواضيع اخرى . لا اريد ان اكرر سؤال هل انتم عنا راضون حد الملل فيظهر وكانني استجدي رضا الاخر عني ، لكني ساختم هذه السلسلة من هل ؟ هل؟ هل؟ بنقطة اراها مهمة ، ما الذي يضر السني ان الشيعي يلطم صدره ويزور الحسين ويصلي مسبلا يديه ويتوضأ مسحا وليس غسلا ويمشي مئات الكيلومترات في عاشوراء والاربعين ولا يؤمن بشرعية التسلسل الزمني للخلفاء ، طالما ان هذه المعتقدات لاتتعرض للآخر بسوء او اساءة ، وحتى لو افترضنا جدلا انها من وجهة نظركم ذنوب فان ذنبها كما يقولون "على جنبها" . اتمنى على من يرد على هذا السؤال ان يحرص على ان لا يكون جوابه بان هذه الاعمال تضعف من شوكة المسلمين و تشوه من سمعتهم لدى اتباع الديانات الاخرى وتفرقهم طرائق قددا . فانا في الوقت الذي ارى فيه المسلمين هم الاضعف الان والاشوه سمعة من بين معتنقي كل الاديان الاخرى ، فانا على يقين من ان مهاجمة اي مسجد شيعي من قبل متطرفي لسنة في باكستان وانفجار اي سيارة مفخخة في مدينة الصدر ببغداد واستغلال منصب كبير في دولة لتسهيل عمليات الارهاب الجبانة ، لهي ابلغ اثرا في تشويه ما تبقى من سمعة المسلمين وتضعيف امرهم في مشارق الارض ومغاربها من اي شيء آخر ، كما ارى ان الكثير من سوء الظن المتراكم ازاء التشيع هو من تراث الدولة الاموية التي تشرب بافكارها السامة الكثير من المسلمين باللاشعور حتى البعض الذي يضمر العداء لهذه الدولة وتراثها الفاجر . ترى هل سياتي اليوم الذي نرى فيه اختفاء ثقافة الالغاء التام من مجتمعنا ؟ ارى ان هذا المشروع بدأ به المفكر الاسلامي الفلسطيني عدنان ابراهيم الذي اراه يحث الخطى منذ اكثر من عَـقد لخلق اتجاه اسلامي جديد يجمع فيه حسنات المذاهب – من وجهة نظره - ويطرح منه سوآتها – من وجهة نظره - ولا تاخذه في تنفيذه لومة اللائمين الذين تعبأوا ليطفئوا هذا الشعاع بتهديداتهم التي لا ترضى باقل من فصل الاعناق عن الاجساد  وفق الطريقة الاسلامية التي يجيدون. انها صرخة مبحوحة للاصلاح واتمنى لها الا تكون كصرخة الشاعر السوري الذي قال يوما : اَسْمَعْتَ لو طللٌ يُجيبُ مُنادِيا ... فاخترْ لِشِعركَ غيرَ عَصرك راويا.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=13539
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 01 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18