أروي للتاريخ حلول الشّهر الأوّل من شهر رمضان عليّ وأنا وأخوتي السّجناء في زنزانات المعتقل الصّغيرة التي تقدّر بثلاثة أمتار في ثلاثةٍ ، ومن ضمنها دورة المياه التي لا منفذ لها إلّا إلينا ، تزكم أنوفنا برائحتها ليل نهار . وعددنا في كلّ زنزانة يتراوح ثلاثين سجيناً ، وأحيانا يخفف العددُ بسبب أنّهم يعدمون بعضنا فنصبح عشرين أو أقلّ وأكثر. نومُنا من جلوس ؛ لأنّ المكان لايستوعبُ أنْ ننام مضطجعين.
وصادف شهر رمضان المبارك أنّه في صيف العراق القاسي بحرارته ، ولا شيء من الهواء إلّا كوّة صغيرة جدّا ، وكلّنا صائمون ، والسّياط في أثناء التحقيق تلهب ظهورنا ، والجوع يحزّ أحشاءنا, والخوف محيط بنا من كلّ جانب ، يرسم على وجوهنا صور المأساة ، ونحن نقرأ شعارات حزب البعث المكتوبة على زنزاناتنا : «بالروح بالدم نفديك ياصدام»!!! .
نعم الكلّ هنا صائمون ، متهجّدون ذاكرون الله بالتّحميد والاستغفار والتوبة والإنابة ، ولا زلت أتذكر عمّنا «عبد العالي أبا مفيد» رحمه الله ، كان صُلب الإيمان ، راسخ العقيدة ، وهو يحدّثنا عن صمود الأنبياء ، ومواقف الصّالحين ، ويحكي لنا قصص الخالدين ، ويروي لنا عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السّلامُ) قوله لميثم التّمار: «والله لتُقطعنّ يداك ورجلاك ولسانك ولتقطعنّ النخلة التى في الكناسة فتشقّ أربع قطع ، تصلب أنت على رُبعها ، وحجر بن عدى على رُبعها ، ومحمّد بن أكتم على رُبعها ، وخالد بن مسعود على ربعها» .
ويروى لنا شهادة زيد بن عليّ بن الحسين (عَلَيهِ السّلامُ)، قال : أمر والد الحجّاج بصلبه على جذع نخلة عاريا، وبقي مصلوبا لمدّة 4 سنوات ، ثمّ بعدها أخذوا ما تبقى من الجثة المصلوبة وأحرقوه وذرّوا ترابه في مياه الفرات.
نعم كان يرسم لنا بذلك صورا للصّمود والتّضحية ، ثمّ يذكّرنا بالجنة والنّعيم بتلاوة آياتها، كلّ ذلك لأنّ ما نتوقّعه من جلادينا لا يقلّ عمّا لاقاه أولئك الصّالحون ، والجوّ السّائد عندنا كان بأشدّ الحاجة إلى مثل هذه الأحاديث.
ثمّ ينطلق عمّنا «أبو مفيد » بصوته الرّخيم بدعاء الافتتاح ثمّ حديث الكساء ، كلّ ذلك بسريّة تامّة بعد أنْ يهدأ جلادونا ويتعبوا منّا .
في الزّنزانات أكاد أقول : إنّي رأيت كلّ تاريخ العراق المرير ، وأنا شاهد على أقسى صور تاريخ حقبة البعث ، شاهدتُ شباباً تموت جوعا، وجلادين يحفرون أجساد أطهر البشر بسياطهم ، ورأيت علماء دين من النّجف الأشرف كانوا مصداقا لما روي عن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) أنّه قال (بما مفاده) :
«تذكِّركم اللّه رؤيتهم ويزِيد فِي عِلمِكم منطِقهم ، ويرغِّبكم فِي الآخِرةِ عملهم» ، رأيت أساتذة جامعات ، ورأيت مفكّرين ، ورأيت أبناء أسر علمية كريمة وكنت صابراً محتسبا خائفاً، ولكنّي لم أتمالك نفسي فانفجرت بالبكاء حينما رأيت بعيني سماحة السيّد علاء الحكيم يقتاده الجلّادون بعنفٍ وبكلّ هوانٍ ، وشفتاه تتحركّان بذكر الله بالتّسبيح والتّهليل.
وكانوا جلّادين لم تحمل الأرض أقذر منهم ، ولم تطهّر كلّ مياه الدّنيا نجاستهم يقتادون ثلة مؤمنة من أطهر أبناء العراق إلى التعذيب والإعدام !!!
وكان كلّما اكتظّ بنا المكان ، وأضافوا إلى أعدادنا أعداداً أخذوا منّا وجبة ، حتّى عاد عندنا مصطلح «الوجبات» يعني إخراج مجموعة منّا إلى المجهول ، إلى أين يسوقون هؤلاء العبّاد الورعين، الذين هم أطهر أبناء العراق , لا ندري!! ، لا ندري إلى أين يمضون بهم ، وإلى أين تسوقهم الأقدار ، وقد علمنا فيما بعد أنّ البعض منهم دُفن حيّاً ، وآخرين انهالوا عليهم بالرّصاص ثم واروهم الحفر ، وبعضهم مات تحت سياطهم ، و...
وفي ليلة من ليالي هذا الشهر الرّمضاني نادوا بأسماء : الدّكتور مزهر الطّحان ، والاستاذ عبد العظيم من الناصرية , وهاشم عبد الدّراجيّ ، و... و... وعشرات الاسماء. ..
وكان أحد السّجناء وهو المهندس عدنان ، رأيته يضطرب خوفاً ، وكأنه كان على يقين أنّه سيُعدم ، وأنّه عبر تحليله العميق عَرف أنّه سيساق إلى الموت ، صاحوا باسمه ، فقال لي : قاسم ، هذه صمّونتي كنت ادّخرتها لأفطر بها ، هي لك ، أريد أنْ أذهب إلى الله صائما قد نال أجر مَنْ فطّر صائماً ، ناولني تلك الصّمونة اليابسة ، ويداه ترتجفان ، وهو يهتزّ كسعفة يلوي بها ريح الخوف والذهاب إلى المجهول، عانقته وبكيت طويلا ، بكيت على فراقه وعلى شخص كان يشدّ أزري ويصبّرني ، لقد راح منّي ناصري ، ثمّ قلت له : عسى أنْ يكون خروجك لأجل أنْ تلتقي بأهلك ، فقال لي : قاسم ، لا أظنّ ذلك ، ولا زالت كلماته ترنّ بأذني : «لا خويه آني خايف ، ذول ماعدهم رحمه، ما يريدون يطلعونه لأهلنا ، هاي مو طلعة أهل ، يجرّونه مثل الخرفان للذّبح».
لقد شاهد هذا المهندس ثوبي ممّزقاً متعفّنا من الدّماء ، فخلع ثوبه وألبسني إيّاه بيديه ، وقال لي : «أعطني ثوبك المخرّق هذا أتبرك به ، فأنا ذاهب للشّهادة ، ويكفيني مثل هذا الثوب المخرّق، وأمّا ثوبي فأنت أحوج إليه منّي ، ثمّ قال لي : الله معاك ، وأهل بيت العصمة وجدتك الزّهراء معاك ، ولك قاسم ، الله يصبرك ، ولك أنت بعدك طفل».
ما أطهر هذا الرّجل ، لقد كانت دموعه تنساب في هذه اللّحظات التي يساق فيها إلى الموت تنساب لأجلي ، علي لصغر سنّي ، وفقدي لأهلي وتشتت حالي ، وهو يعلم أنّه سائر إلى الموت ، ولا يفصله عن الشّهادة إلاّ لحظات .
دخل عدنان مسرعاً إلى الحمّام وتوضّأ وصلّى ركعتين ، وكان الجلّادون يتنقّلون بين الزّنزانات وقبل أن يصلوا إلى زنزانتنا أكمل صلاته وهو يدعو : «يا ربّ إنْ قدّرت لي الشّهادة فقدّر لي مَنْ يدفنني».
استغربت لهذا الدّعاء ، قلت له : «شنو هذا الدّعاء ، أنت راضٍ بالشّهادة ، وخايف محد يدفنك ، ليش ، أهلك وين» ؟.
قال بعبرةٍ وصرخةٍ واختناقٍ بالبكاء ولحظاتٍ محرجة : « ولك قاسم منين لي أهل ، أهلي كلّهم مسفّرين». وكانت هذه أخر لحظة لي معه في هذه اليوم الرّمضانيّ.
هذا هو العراق وشرفاؤه لا تجفّ دماؤهم ، نثروها أزهارا بدربه ، فهل لهم منه وفاء؟؟؟، وهل يصدّق عقلي أنّ أخوتي ، وأصحاب المحنة عادوا اليوم من محنتهم ليكّرموا جلّادينا!!!!!
كتب بتارخ 12 / 5 / 2019 م
|