• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : نثار الغربة .
                          • الكاتب : بارعة مهدي بديرة .

نثار الغربة

كيف للأب ان يترك اولاده فلذة كبده ويرحل عنهم مهما كانت الاسباب؟‎
كيف له العيش من غير النظر لوجوههم البريئة والاطمئنان عليهم ورعايتهم تحت جناحه؟
اي اب هذا الذي يشرد اطفالا ويهاجر بلا سابق انذار فتضطر زوجته ان تعمل خادمة في مشفى حكومي لتعيل اطفالها
رحل الاب وترك زوجته واطفاله الثلاثة بلا معيل فتارة تأتي اخباره انه بفلسطين وتارة اخرى في المغرب ومرة في لبنان لكن عدة اخبار موثوقة اكدت انه تزوج بالعراق واصبح له عائلة
وبعد رحيل ابيه اراد احد اولاده وهو اصغرهم ان يكمل تعليمه وسط حالة من الفقر والعوز فعمل بائعا متجولا يبيع علب الكبريت وماشابه ويجمع
ثمن الكتب ليستطيع دخول الجامعة وكان قد انتسب لقسم اللغة الانكليزية والمفروض عليه بوقتها اختيار لغتين اضافة لمادته فاختار الفرنسية واللاتينية
ظروفه كانت تضطره الانقطاع طويلا عن المحاضرات لتأمين لوازمه من كتب وماشابه فيحضر دروس المادة الاساسية فقط وحين فرح جدا بتأمين ثمن كتاب اللغة اللاتينية اشتراه وذهب للجامعة ودخل القاعة مزهوا بنفسه فبدأ الدكتور محاضرته بقوله: بما ان هذه اخر محاضرة في الفصل فعلينا استرجاع كل ماسبق من اجل الامتحان
يالحظ الشاب المسكين وصل متأخرا.. لكنه لم ييأس ابدا فبدأ يسجل كل ماقاله الاستاذ واجتهد بنفسه يدرس على ضوء سراج ضعيف الى ان نجح بالمادة نجاحا مبهرا كان افضل ممن حضر الدروس طوال العام وبقي على حاله في العمل والدرس الى ان تخرج من الجامعة بتفوق وحاز على شهادة ليسانس باللغة الانكليزية وآدابها
تزوج وأنجب اولادا ورغم مسؤولياته الكثيرة استطاع ان يتابع تعليمه ويحصل على شهادة ترجمان محلف وألف مجموعة كتب بجهده وتعبه واتقن ببراعة اللهجة الفارسية ويتكلمها بطلاقة.. توفيت والدته رحمها الله ووالده لم يعد بعد يالقسوة هذا الأب.. ‏كان الابن رجلا عصاميا لم يحتج لاحد ابدا بإعانته وانفق على زوجته وبناته من كده وتعبه ومن اجرة دروس خصوصية كان يلقيها بدورات متعددة.. لم يحرم بناته من شيء ابدا
فلقد كان يعوض حرمانه من ابيه بحنانه على بناته..
عرضت عليه فرص كثيرة يخالف بها ضميره فيصبح مليونيرا رفضها بكل ارادة وتصميم
واراد ان يعمل شيئا مفيدا يبقى من بعده ويؤجر عليه بدار الاخرة فاجتهد سنوات وهو يجمع جميع اشعار امير المؤمنين علي بن ابي طالب ع من مصادر متعددة الى ان اصبح لديه ديوان شعر شامل وكان حلمه ان يضع توقيعه على كتاب يحمل بركات امير المؤمنين علي ع وما استطاع نشره ابدا فهذا مكلف جدا لكن الاجر عند الله منتشر
وبقي سؤاله باستمرار اين ذهب أبي؟ من هم اخوتنا؟ اين هم ومن هم؟ وكان يبكي بحرقة كلما تذكر رحيل والده عنهم.. يتمنى ان يكون ابيه قد ترك له اختا تضمه لصدرها تحنو عليه رغم انه اصبح مسنا..‏‎ 
وسؤاله في محله أين هم العائلة الاخرى بعد سنوات طويلة؟ اين الاحفاد؟
اولاد هنا واولاد هناك.. جمع مفرق وشمل مشتت وخاصة بعد وفاة اخويه بفترة متقاربة كبر شعور الوحدة بداخله والاهم حين اصيبت زوجته المجاهدة سابقا بالسرطان الخبيث مما جعل الهم يلازمه فكانت حياته كلها تعب بتعب
‏قررت احدى بناته ان تبحث عن أثار جدها الغائب لتفرح قلب والدها بحياته فدموع الاب تحرق القلب وهي ايضا بحاجة لسند في هذه الدنيا بحاجة لأعمام  وعمات واولاد أعمام .. صعب جدا ان يعيش الانسان بلاعائلة.. لاأعمام لا اخوال لا احد ابدا..
بدأت تبحث ،  كمن اضاع ابرة في كوم قش ، تسأل هنا وتسأل هناك بلا اي نتيجة الى ان تعبت ويأست بعد ان تأذت نفسيا من بعض المواقف اشد الأذى الى ان وصل بها الامر لأن تدعو على جدها ليلا نهارا لتشريد والدها وغربته صغيرا ولغربتها وهي كبيرة ولما اصابها من أذى كبير وتعب فأصبحت وكأنها غريقة بدموعها تحترق من اليأس والألم..  كانت تعز عليها كثيرا دموع والدها وما اصعب النظر لرجل مسن
بهيبته يبكي.. أب يبكي كالطفل امام ابنه الوحيد وبناته.. لكن الله عز وجل عوضه بابن شاب لامثيل له بالطاعة والاخلاق الحميدة.. ومع تعب البحث بلا جدوى
انقطع الأمل والرجاء من ايجاد اي قريب منهم واللقاء بهم ، ليست  الغربة غربة الاهل والاوطان بل الغربة ان يموت بداخلنا الانسان وليست فقط العائلة بالنسب وصلة القربى فهناك اناس اغراب ممكن ان يكونوا لبعضهم عائلة حقيقية بالود والمحبة من غير اي قرابة او نسب يجمعهم.. من غير صلة رحم تربطهم.. ربما هناك رابط يربط البشر يكون اقوى من كل قرابة ونسب..



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=13332
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 01 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28