منذ أن كنت صغيراً وإلى أن كبرت وأنا أسمع هذا الحديث المروي عن النبي محمد (ص)، يتردد في المحافل وعلى ألسنة الناس.

ولكني (وبالمعنى الذي يقصده الناس منه)، لم أصدق به يوماً من الأيام، ولم ينسجم مع فطرتي، ولم يدخل إلى قلبي صغيراً ولا نفذ إلى عقلي كبيراً.

حتى أنني تصورت وللوهلة الأولى أنه حديث موضوع ومختلق من جانب الحكومات لإضفاء قداسة من جانبها على الحس القومي ولربط الناس في بلدانها لتغذية الصراعات السياسية...

إذ ليس من المعقول أن الدين الذي يُعرف الدنيا كلها كجسر وممر ودار إمتحان وإختبار مؤقت وقصير أن يربط الناس بقطعة أرض وماء وتراب!!
الدين الذي يريد أن يرتفع بالإنسان إلى أسمى مستوى ممكن من المعنوية والكمال، لا يعقل أن ينزل به إلى تعلق زائف وإعتبار خادع بإسم الوطن أو غيره!

ولذلك فقد كان الحديث بالنسبة لي لا يخلو من إحتمالين:
إما مختلق 
أو أن له معنى آخر غير ما يقصده الناس في حواراتهم.

اليوم وأنا أقرأ في كتاب (صلاة الخاشعين) للسيد عبد الحسين دستغيب، وهو _من الكتب التربوية المفيدة والنافعة جداً_ وجدت تفسيراً معقولاً ومنطقياً لهذا الحديث، وأيضا منسجماً مع المعاني الدينية، فهو يقول:

(فمن علائم الإيمان النفور من هذا العالم والشوق إلى العالم الآخر الذي هو المستقر الأصلي كما قال(ص): ((حب الوطن من الإيمان)). 
فلو ترسخ حب الوطن وهو الآخرة في القلب لكان عين الإيمان وأما إذا إنعكس وتعلق قلبه بهذه الدنيا فهو علامة ضعف الإيمان)

إذا الوطن في هذا الحديث ليس قطعة الأرض المحددة سياسياً لنا ولغيرنا في عصرنا الحديث.
وإنما الوطن الحقيقي هو المستقر الحقيقي الذي يحن إليه الإنسان ويشتاق إليه وهو مستقر الآخرة.