• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع :  بناء الشخصية وتنميتها في أحاديث الإمام محمد الجواد (عليه السلام) .
                          • الكاتب : د . الشيخ عماد الكاظمي .

 بناء الشخصية وتنميتها في أحاديث الإمام محمد الجواد (عليه السلام)

إنَّ الإنسان بحاجة ماسة إلى نظام ومنهج يستعين به لبناء ذاته وشخصيته، على الرغم من الفطرة السليمة التي ولد عليها، ولكنه بحكم علاقاته المتعددة، وفي أجواء مختلفة يفقد سلامة ونور تلك الفطرة، فالنظام يحاول أنْ يجعل له ما يحصِّنه من ضياع ذلك، وأنْ يسترجع ما تم فقدانه بتعامله مع الآخرين من مبادىء وقيم، لها أبلغ الأثر في شخصيته، وقد ﭐعتنى النظام الإسلامي بذلك كثيرًا، وفي مجالات الحياة المتنوعة، ومَنْ يطلع على تراث النبي وأهل بيته (عليهم السلام) يعلم مدى عمق المنهج الإسلامي في بناء الشخصية الإنسانية.
ونحاول في هذه السطور أنْ نقرأ ذلك في تراث التاسع من أئمة الهدى، وخلفاء الله في أرضه؛ لنرى عظمة ذلك، فقد روي عنه (عليه السلام) أنَّه قال: ((المُؤْمِنُ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْفِيْقٍ مِنَ اللهِ، وَوَاعِظٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَبُوْلٍ مِمَّنْ يَنْصَحُهُ)) ( )، فإنَّ الحديث المبارك يتناول مفردات أربع تستحق الوقوف عندها، والتأمل فيه، وهي (المؤمن، التوفيق، الموعظة، التواضع)، فكُلُّ مفردة منها نحاول أنْ نبيِّن بإيجاز أثرها في الشخصية وبنائها وتنميتها، وخصوصًا الإسلامية؛ لارتباطها بعقيدة الإيمان بالله تعالى، فالإنسان المؤمن عامة هو مَنْ له ﭐرتباط عقائدي بدين من الأديان الإلهية التي جاء بها الأنبياء (عليهم السلام) لتنظيم حياة البشرية، فهو بالتالي قد ﭐستثمر عقله وقلبه وما أُودع فيهما من نور الفطرة الإلهية لعباده، فبعقله تأمَّل في هذه الموجودات العظيمة في السماء والأرض وفي نفسه، وتأمَّل في حقيقتها وعظمتها، فاستدلَّ به على وجود خالق عظيم قادر حكيم لها، فصار يبحث عنه ليصل إليه، فيذعن إليه بعبودية المخلوق للخالق بحكم العقل في وجوب شكر المنعم، ثم تأمَّل في دقة الخلق وعظمته وعدم تخلُّفه عمَّا خُلِقَ له، أذعن بأنَّ الخالق له واحد لا شريك له، وإلا لكان الخلق والإيجاد متفاوت مختلف الإحكام والإتقان بين الشريكين أو الشركاء المتعددين، فأصبحت للمؤمن عقيدة الخالق وتدبيره لمخلوقاته، فضلاً عن الشريعة التي يؤمن بها، فهو على كُلِّ حالٍ له ﭐرتباط بعالَمٍ آخرٍ يعترف له بالخالقية والقوة والحكمة والإبداع، وهذا الاعتراف يجعله أنْ ينظِّمَ علاقته مع خالقه، بتفاوت على مستوى معرفته بالخالق، وصحة عبوديته له، فهو إجمالاً بإيمانه يرى وجود ﭐرتباط بين الخالق والمخلوق، وهذا الارتباط له أثر كبير في سلوك الإنسان وبناء شخصيته المعينة.
إنَّ الإنسان المسلم الذي ﭐرتقى سُلَّمَ الاعتقاد إلى الإيمان وعقيدته التوحيدية بالله تعالى، يكون على منزلة كبيرة في بناء شخصيته، من خلال ذلك الاعتقادِ الذي يترجِمُ الإذعان بالقلب والتصديق به، وقولٍ باللسان بأنَّه مخلوق ينتمي إلى خالق عظيم حكيم قادر، وعملٍ بالأركان وما يعتقده، فكُلُّ عقيدة أو إيمان إنما يدعو إلى المبادىء والمُثُل التي ينبغي أنْ تكون ظاهرة في سلوك الفرد المؤمن، وما في ذلك من بناء شخصية لها توجُّهٌ معيَّنٌ، وليست شخصية عشوائية لا تعرف ما تريد؛ ولذا نرى أنَّ الشريعة المقدسة كان لها ﭐعتناء بالمؤمن في بيان مقامه ومنزلته وما يترتب عليهما، قال تعالى في بيان مقامه: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾( )، فالآية الشريفة تبيِّن مقام المؤمنين ودعاء الملائكة المقربين بالاستغفار لهم، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ( )، فالله تعالى هو الذي يدافع عن المؤمنين وفي ذلك كمال التسديد له، وما فيه من بناء الذات، وتكوين الشخصية الكاملة، أو الساعية لكمالها. 
فالإمام الجواد (عليه السلام) يؤكِّد في حديثه أنَّ المؤمن على منزلته في العقيدة فإنَّه مع ذلك بحاجة إلى مقوِّمات لشخصيته، لتصل إلى كمالها، أو تحافظ على مقامها، فيكون ذا شخصية متزنة، وهناك أمور ثلاثة هو بحاجة إليها لتقويم شخصيته وهي (التوفيق، والموعظة، والتواضع)؛ ليكون مصدر عطاء للآخرين، وقد ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان تلك الشخصية الإيمانية قوله: ((الْمُؤْمِنُ مَنْفَعَةٌ، إِنْ مَاشَيْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ شَاوَرْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ شَارَكْتَهُ نَفَعَكَ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ مَنْفَعَةٌ)). ( )   
  وأحاول أنْ أذكر تلك المفردات الثلاث من خلال وجودها في علاقات ثلاث هي كالآتي:
-  أولاً: علاقة المؤمن بخالقه.
-  ثانيًا: علاقة المؤمن بنفسه.
-  ثالثًا: علاقة المؤمن بالمجتمع.
إنَّ العلاقة الأولى هي التي عَبَّر عنها الإمام (عليه السلام) بقوله (توفيق من الله)، فالتوفيق الإلهي هو التسديد الذي يُسديه الله تعالى لعبده، الذي يتقرَّب إلى مولاه، ويتوكل عليه في أموره وحوائجه، ويتقيه في السر والعلن، فإنَّ الله يقابل ذلك بأنواع النِّعم المادية والمعنوية عليه، وعطاؤه تعالى لا ينفد، ولا يُقَدَّر بقدر معين، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ ( )، فالتوفيق إذن يكون على قدر ﭐرتباط العبد بخالقه، وفي ذلك أثر بالغ في بناء شخصية الإنسان المؤمن الذي يرى خالقه أَوْلى بالتعظيم والثناء والجهاد في سبيله.
وإنَّ العلاقة الثانية هي علاقة الإنسان بنفسه وهو ما أشار إليها بقوله (عليه السلام): (وواعظ من نفسه)، وهي العلاقة القائمة على أساس مجاهدته لنفسه ومحاسبتها، وهذا الجهاد هو أعظم سبل الارتقاء بها نحو الكمال، فكلما جاهد الإنسان نفسه الأمارة بالسوء فإنها تتخلى عن رذائل الأخلاق المذمومة التي لها عواقب وخيمة على شخصية الإنسان في الانحراف والانجرار تجاه المعصية الفردية والنوعية التي يقوم بها، وفي جهاده لنفسه الذي يعد الجهاد الأكبر -كما أشارت إليه الروايات الشريفة- تتحلى نفسه بفضائل الأخلاق ومكارمها، فتتصف النفس بصفات إيجابية كالصدق والإحسان والبر والإنفاق وغيرها، بعد أنْ تتخلى عن صفاتها السلبية كالكذب والإساءة والسوء والبخل وغيرها من صفات، ولا يخفى أثر كُلِّ صفة من الصفات الإيجابية في بناء الشخصية الإنسانية والإسلامية وتنميتها، وما تصبو إليه من كمال وتربية، فالمؤمن إنْ جاهد نفسه وحاسبها كمحاسبة الشريك لشريكه فقد فاز ونجا، وهذا ما يجب علينا أنْ نقوم به، فقد ورد في وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ في كُلِّ يَوْمٍ، فَإنْ عَمِلَ حَسَنًا ٱسْتَزَادَ مِنْهُ، وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئًا ٱسْتَغْفَرَ اللهَ مِنْهُ وَتَابَ إِلَيْهِ)). ( ) 
  والعلاقة الثالثة هي علاقة الإنسان بالمجتمع، والتي أشار إليها بقوله (وقبول ممن ينصحه)، وهذه العلاقة مهمة جدًّا في بناء المجتمع الإسلامي والإنساني، وإنها في الحقيقة قائمة على تواضع الإنسان للآخرين، من دون الاغترار بنفسه، ويرى نفسه أفضل من غيره، ولا يقبل منهم نصيحة أو موعظة، بل يتكبر عليهم لما في نفسه من غرور وعجب، وفي هذا آثار سلبية كبيرة واضحة على الشخصية، وأما الإنسان الذي يتواضع للآخرين فهو يبحث عن كماله في الآخرين، ويبحث عن كمال الآخرين في نفسه، وقد وردت روايات متعددة تحث على ذلك في الموروث الإسلامي من جانب، ومن جانب آخر إنَّ في الحديث إشارة إلى أهمية تقديم النصيحة للآخرين عند الحاجة إليها، من دون تفكير الإنسان بنفسه فقط، وفي كُلِّ ذلك دور كبير في بناء الشخصية.          
فهذا إجمالاً ما حاولت بيانه في قراءة لحديث واحد من أحاديث الإمام محمد الجواد (عليه السلام) وأثره في التنمية البشرية، وبناء الذات، وإعداد الشخصية ضمن المنظور الإسلامي والإنساني، وهناك روايات كثيرة في هذا الباب تحتاج إلى تسليط الضوء عليها في بناء الشخصية وتنميتها. 


د. الشيخ
عماد الكاظمي




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=131549
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 03 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18