• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : المهدوية ومعايير الثقافة .
                          • الكاتب : صالح الطائي .

المهدوية ومعايير الثقافة

لم يَصْدقْ ما تنبأ به المبشر الإذاعي الأمريكي (هارولد كامبينج) الذي يعمل في راديو (فاميلي)  بأن موعد يوم القيامة ونهاية العالم سيكون في أواسط عام 2011 مما اضطره للادعاء أمام الإعلاميين أنه أخطأ بحساباته، وضرب لهم موعدا جديدا في الشهر العاشر من العام نفسه، ولم تتحقق نبوءته الجديدة أيضا. وهذا الرجل المثير للجدل كان قد تنبأ النهاية في عام 1988 ثم في عام 1994 وبعد أن فشلت جميع نبوءاته ولم يتحقق أي منها مصداقا لقوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي يجليها لوقتها} أعلن الرجل اعتذاره وتقاعد عن عمله.
والغريب أن الحياة هناك استمرت على وتيرتها ولم تتأثر بنبوءاته أو تتعطل رغم أن عدد من يؤمن بالعودة الثانية للسيد المسيح بينهم أكثر من عدد الذين يؤمنون بظهور الإمام المهدي بين المسلمين، حيث تبين حسب الاستطلاع الذي أجراه معهد "بيو" لاستطلاعات الرأي، في عام 2006 أن 97% من الشعب الأمريكي يؤمنون بالعودة الثانية للسيد المسيح، أما عدد المؤمنين بظهور الإمام المهدي بين المسلمين فلا يشكل أكثر من نسبة 20% وهم بالعادة أتباع مذهب أهل البيت وبعض أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى.
ومع انه من المفروض بالتداعي الخطير الذي أنتجه سوء التقدير لأكثر من مرة أن يُحدث بين المؤمنين منهم نوعا من الرفض لفكرة العودة واعتبارها نوعا من الاعتباطية أو من أساطير الميثولوجيا الدينية، لكن هذا أيضا لم يحدث، فبقي المؤمنون على إيمانهم والرافضون على رفضهم، بل لم يحدث بين الجانبين خلاف جوهري يرقى لأن يشار إليه بتركيز، أو تهتم به وسائل الإعلام والكنائس والمؤسسات الدينية.
كذلك الذين يؤمنون بالمهدوية من المسلمين لا يدعون أنهم يعرفون موعد ظهور الإمام مطلقا، ويعيبون على من يتحدث بهذا الشأن دائما، ويتهمونه بأنه من الوقاتين، بل إن المذهب الشيعي الذي يؤمن كليا بالظهور وتشكل المهدوية إحدى أهم ركائز عقيدته ينهى قطعيا عن التوقيت، ولا يوجد بينهم من هو على استعداد للحديث عن وقت الظهور لا بشكل تقريبي ولا بشكل يقيني. ولكن مع ذلك تجد الخلاف بين المسلمين المؤمنين والرافضين قد تسيد ساحة الخطاب والفكر وتحول إلى مشاريع تكفيرية تأمر بالقتل والذبح والتفجير، ولا تريد تسوية مهما كان نوعها إلا بالتنازل عن معتقد واعتناق معتقد!
إن الآخرون الذين استطابوا حياة الألفة سواء كانوا من المسيحيين الذين يختلفون بشأن العودة فيما بينهم أو من المسيحيين واليهود الذين يختلفون بشخصية العائد، يرون جميعهم أن الاختلاف بالجزئيات لا يفسد للكليات قضية، المهم أنهم يتفقون في جوهر الفكرة أما تفرعاتها فيمكن تأجيل الخلاف بشأنه إلى وقت عودة السيد المسيح أي أنهم ارجأوا النظر في الجزئيات، وهو برأيي اتفاق يدل على الحكمة والرغبة في لم الشمل وجمع الكلمة، ولاسيما وأنهم يتوقعون أن يكون القرن الحادي والعشرين هو قرن عودة السيد المسيح (عليه السلام).
لكن اتفاقهم هذا لم يعجب بعض المسلمين الرافضين لفكرة المهدوية فقال عنه الدكتور طه حامد الدليمي في كتابه (المهدي المنتظر هذه الخرافة): "والتقت العقيدتان اليهودية والنصرانية على أصل فكرة القادم المخلص عندهم .. وتركوا تحديد شخصيته للزمن، وقالوا: يكفينا الآن الاتفاق على أصل المبدأ فلنعمل على تهيئة الظروف لمجيئه ونترك التفاصيل إلى حينها" وقال عنه الشيخ السعودي عبد الله بن عبد الرحمن الغديان في موقعه: "هذه القاعدة من الوضع الجديد، يعني ما هي من القواعد العلمية، من قواعد الأولين، لأن ذه ممكن يستخدمها اليهود والنصارى والمسلمون، يقولون حنا نتفق على وجود الله، خلونا نتفق على وجود الله، وكل وواحد له دينه، يعني أن حنا نعترف بالأديان الباطلة وهذا ليس صحيح"

ونتيجة هذا الخلاف والتباين أصبح حالنا وحال المعاندين من قومنا وأهلنا المسلمين من حيث قبول أو رفض فكرة المهدوية شبيها بحال المؤيدين والرافضين لفكرة عودة السيد المسيح من أتباع الديانة المسيحية أو من المسيحيين واليهود، وهذا من مصاديق حديث النبي صلى الله عليه وآله: "لتتبعن سنن من قبلكم"، ولكن الاختلاف الجوهري بيننا وبين الآخرين أنهم هذبوا أخلاقهم بتحضرهم واحترموا قوانينهم، لذا تراهم لا يستهزئون بمخالفيهم ولا يكفرونهم ولا يتهجمون عليهم، وإنما يحاورونهم بالعقل والمنطق في حدود ما يبيحه القانون.

ولتوضيح الصورة لأغراض المقارنة نجد انه في عام 2011  بدأت جماعة مسيحية مركزها في أتلانتا الأمريكية (ناشفيل وديترويت وأوماها) وهم أتباع (الرابطة الكاثوليكية)  يتماهون فكريا مع نبوءات (هارولد كامبينج) بنشر ملصقات كبيرة فيها صورة لثلاثة مجوسيين يركبون جمالا ويتجهون إلى أورشليم (القدس) مع جملة (إنه عائد) فاعترض عليهم أعضاء (إتحاد الأمريكيين الملحدين) ليس بواسطة السيارات المفخخة أو العبوات الناسفة أو الفضائيات والمواقع الالكترونية ومنابر الكنائس وجمع التبرعات لنصرة المجاهدين، وإنما قاموا بتعليق ملصقات خارج نفق (لنكولن) في (نيوجرسي) كتِب عليها جملة: (تعلمون أن الميلاد أسطورة- احتفلوا بالعقل) (You know it’s a myth)  أما المؤيدون من جانبهم فلم يستخدموا أيا من الآليات الممنوعة في الرد على مناوئيهم، وإنما ردوا عليهم  بحملة مضادة عنوانها: (تعلمون أنه حقيقة- احتفلوا بالمسيح) وانتهى الحوار بينهم عند هذا الحد ولم يتجاوزوه، وأصر كل منهم على منهجه ومعتقده دون أن يتطاول على من يخالفه، أما نحن المسلمين فلم يفلح ديننا ولا حضارتنا بتهذيب أخلاقنا، ولذا تجد الحوار بيننا معدوما أو ملغوما، والتطاول والتكذيب عندنا فاشيا، والتفجير والقتل مباحا، ولذا يتقدمون ونتأخر، ويترفهون ونتعذب، ويتنعمون ونتقشف، ويناضلون لبناء الأوطان ونثور في عز الشتاء ظنا منا انه ربيع العرب المنتظر. فيا لبؤس من لا يحسن التمييز بين الشتاء وزوابعه وعواصفه وبين الربيع ومرابعه وحقول أزهاره.


وسبب هذه الخيبات أننا بعد خمسة عشر قرنا من عمر الإسلام لم ننجح بعد في اكتشاف نقطة التوازن بين معصومية النص وسطوة الولاء حيث كنا ولا زلنا نرجح هذه العصمة لدعم الجانب الولائي الفئوي على حساب الجانب العقدي الإسلامي العام. وقد نكون معذورين في ذلك بسبب تداعيات المؤثرات السياسية والفكرية، واختلاف المرجعيات وطرائق الاستدلال على ما بين أيدينا من النصوص، هذه التداعيات التي زرعت نوعا من الريبة والشك فيما بيننا أشخاصاً، وبيننا وبين النصوص ذاتها، لدرجة قيام كل طرف منا بالتشكيك بمصداقية ورصانة النصوص التي يرجحها الجانب الآخر، مما جعل علاقتنا ببعضنا سجالية، صراعية، متوترة، وصلت في بعض مراحلها إلى العداء السافر ولاسيما بعد ولادة الثقافات الفئوية التي ابتعد بعضها عن أصول الثقافة الإسلامية كثيرا، والتي حاولت تسخير الثقافية الربانية لتقوية جزئيتها على حساب الجزئيات الأخرى، بل وعلى حساب الكلية الإسلامية ذاتها.

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=13076
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 01 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29