• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ما أتمناه من تخطیط عمراني لمدینة النجف .
                          • الكاتب : مجلة آفاق نجفیة، العدد 1 .

ما أتمناه من تخطیط عمراني لمدینة النجف

 إن الحدیث عن التخطیط العمرانی یعنی الحدیث عن المتغیرات فی الزمان و المکان. فالعمارة تشیر إلی واقع العلاقة بین المتغیر و الثابت، والأول محدد بالثانی و هذا ما نسمیّه بالالتزامات. و تلخص الثوابت بالتالی:
إن الحدیث عن التخطیط العمرانی یعنی الحدیث عن المتغیرات فی الزمان و المکان. فالعمارة تشیر إلی واقع العلاقة بین المتغیر و الثابت، والأول محدد بالثانی و هذا ما نسمیّه بالالتزامات. و تلخص الثوابت بالتالی:
أولاً: انتماء المدینة إلی المسرح الجغرافی، ذی الخصائص المتمیزة مناخیاً و بیئیاً.
ثانیاً: العمق التاریخی، الّذی یهب المدینة طابعها الزمنی، المتولد باستمرار.
ثالثاً: القیم الإسلامیة، بالنسبة للمدینة الإسلامیة.
و فی العراق عامة هناک تخلف فی تخطیط المدن، و مدینة النجف کمدینة عراقیة عانت من جراء ذلک، و شملها ما أسمیه بالسرطان العمرانی، الّذی نما عشوائیاً علی حساب هویتها العمرانیة و الحضاریة، و هی مدینة الإمام علی بن أبی طالب، و بالتالی فهی مدینة العلم و الإسلام.
و بشکل عام، یحتاج مخططو المدن إلی إلمام فی العلم البلدانی، و الجغرافیا و برأیی أن الجغرافیا أهم من التاریخ بالنسبة لفن  العمارة والعمران، فهی تؤکد المقیاس الإنسانی فی البناء. و فی مجال التعرف علی التراث و حضارة الآخرین، من المفروض أن یکون الانطلاق من معرفة الذات، حتی یتم التعامل مع الآخرین و القدرة علی المنافسة، ومن هذا التعامل و التفاعل یتحقّق التنوع فی الوحدة، فالانعزالیة تقود إلی التخلّف والتقوقع علی الذات.
وما یختص مدینة النجف، کان هدم السور، الّذی احاط بالمدینة قروناً عدیدة وأصبح معلماً من معالمها الحضاریة و التاریخیة، خطوة متخلفة، ذلک أنّه ضمّ المدینة بداخله وکأنها متحف کامل، بکل ما فیها من تفاصیل. ومع علمی، أن النجف کانت تعانی من الازدحام، وأن کثافتها السکانیة بتصاعد، وأنها بحاجة إلی رئة تتنفس بها، ولکن هدم السور لم یحل المشکلة، وکان بالإمکان تحقیق تلک الرئة مع الحفاظ علی السور. وإن کان لا بد من ذلک، فمن الأجدر أن یحل سور من شجر النخیل محل ذلک السور التاریخی، و هذه الفرصة ما زالت سانحة، وممکنة التحقیق، والنخلة هی الشجرة المبارکة التی أکرم الله بها الإنسان فی ذلک المکان الخصیب.
إن التوسع العمرانی ینبغی أن یکون توسعاً حیاً نابعاً من عوامل النمو الطبیعیة، ولیس بقرارات مرتجلة، أکثر ما تتمکنه الهدم و البناء العشوائی. فمن مشاکل المدن، والنجف أحدها، طبیعة التغیرات التی حصلت فی تکنولوجیا النقل فالسیارة التی دخلت المدینة العراقیة القدیمة کانت نعمة وبلوی فی آن واحد. لذا کانت الحاجة ماسة إلی وضع خطط علمیة متکاملة لمواجهة الحرکة الآلیة. ولعل ذلک سهل نظریاً، عند الحدیث عن الخطة، لکن الصعوبة عند مواجهة الواقع العملی، وما أعتقده أن ذلک یحتاج إلی خطط طویلة المدی من عقد إلی عقدین؛ لأن الحرکة الآلیة فی تطور مستمر، ولا بد من مواجهتها بتشریعات مناسبة، بعیدة عن التصورات المثالیة و الحلول الارتجالیة أو بعیدة المنال.
أما مدینة النجف فالمفروض أن یتحقق فیها التخطیط انطلاقاً من قدسیتها، و مکانتها الجغرافیة، فهی بوابة العراق إلی الجزیرة العربیة، حیث المقدسات فی الحجاز، مکة المکرمة و المدینة المنورة، و بهذا المعنی تکون النجف بوجود ضریح الإمام علی بن أبی طالب امتداداً لتلک المقدسات، مع استلهام قول الرسول الکریم: (( أنا مدینة العلم و علی بابها))، و ما یمثله هذا الحدیث من وشائج روحیة بین الحجاز و العراق عبر مدینة النجف.
أما المعلم الحضاری الآخر فی النجف، بعد ضریح الإمام علی و سورها التاریخی فهو بحر النجف، و ما له من علاقة بنشوء المدینة تطورها. فلهذا البحر دلالة بیئیة هامة فهو منبسط مائی  علی طرف الصحراء حیث تنتهی النجف إلی الجزیرة العربیة. و بعلاقة النجف بالبحر یتحقق تخطیط آخر للمدینة، للأسف لم یؤخذ بنظر الاعتبار عند تصمیم المدینة. و بخصوص العلاقة بین النجف و الکوفة أن یـؤخذ بنظر الاعتبار الحفاظ علی قصبة النجف، و بعدها المکان النسبی عن الکوفة، فکلا المدینتین لها خصوصیتها الحضاریة و أصولها التاریخیة المختلفة رغم القرب المکانی، و هذا ما هدف له مشروع جامعة الکوفة، فی أن یحقّق عازلاً بین المدینتین.
إنّ التراث الصحراوی، والنجف معنیة به، یشیر إلی ما یُعرف بالواحات الخضراء و هی بمثابة نقاط جذب استیطانیة للإنسان، و من هذا المنطق، أقترح الاستفادة من فکرة تحقیق الواحة فی التطور العمرانی للنجف، أی أن تبنی فی الواحات عمائر مرتفعة، حتی یتحقق التناسب بین الأفقیة و العمودیة، ضمن طراز عمرانی یحافظ علی روح البیئة النجفیة القدیمة من جهة و من جهة أخری یحقق الحداثة والتجدید. أما الفضاء بین تلک العمائر فأقترح أن یملأ بأشجار النخیل. و من وحی الواحات لا بدّ أن یظهر اهتمام کبیر بالآبار الارتوازیة، و هی النواة الأولی فی تأسیس الواحة وسط الصحراء. و من المعلوم أن الواحة ذات منشأ طبیعی فی المناطق الصحراویة،تشیر إلی التوازن البیئی فی العمق الصحراوی القاحل، نماذج تلک الواحات موجودة فی الجزائر و تونس.
ومن مهام التخطیط الأخری فی النجف ضرورة صیانة العناصر المعماریة التقلیدیة فی المدینة. ولکن للأسف الشدید حصلت فی هذه المدینة الدولیة تجاوزات کبیرة، مثل قلع القاشانی و وضع المرمر الباکستانی محله، و یعدّ هذا العمل إهانة صریحة للمدینة و معالمها التاریخیة، و هذا لا یقل إساءة من وضع الأضواء و النیونات الکهربائیة و هی تعلو أقواس أبواب و مداخل الحضرة العلویة کما لا یقل جرمیة من وضع أجهزة التبرید و التکییف بصورة مشوهة للمعالم العمرانیة الممیزة للعتبات المقدسة. و لعل أهم ما یمکن الإشارة ألیه إضافة إلی ما ورد فی مجال التخطیط العمرانی للمدینة هو الاستفادة من فکرة الأبنیة تحت الأرض، التی تساعد کثیراً فی مواجهة حرارة القیض الصحراوی، و ربما لا یخلو بیت نجفی قدیم من السرداب. و یمکن معالجة الحرکة الآلیة فی نقلها إلی الأنفاق و الممرات تحت الأرض، و هذا ما یضمن الحفاظ علی حقوق الإنسان فی المشی بحریة علی سطح الأرض. و فیما یخص الحضرة العلویة، فقد اقترحتُ سابقاً أن یکون هناک فضاء حول الصحن الحیدری خاص بالمشاة، لکن ما تحقق هو شارع للسیارات، و بوجود هذا الشارع شوهت المنطقة المحیطة بالصحن، فقد أقاموا فیها أعمدة کونکریتیة و أقواس مصطنعة زائقة. و هو أمر مناقض لقدسیة المکان و خصائصه العمرانیة و الحضاریة.
و من المقترحات التی تصون المدینة و خلفیتها الحضاریة أن تکون لبلدیة مدینة النجف هیمنة و صلاحیات بعیدة عن الخطط المرکزیة، یمکنها حمایة استعمالات الأرض من العشوائیة و الفوضی، و أن یکون هناک تفاهم و تعاون بین هذه الدائرة و بین الأهالی، و سبق أن اقترحت تأسیس مصرف لهذا الغرض، یشترک فیه الأهالی مع البلدیة لتطویر المدینة، وإلی جانب ذلک أن تشکل جمعیة لحمایة العتبات المقدسة، قُدم المقترح للجهات المعنیة، ولکن لیس هناک استجابة تذکر، لا من قبل الدولة و لا من قبل المراجع الدینیة، لقد أکدت الأحداث ضرورة مثل هذه الجمعیة.
إنّ أی تخطیط عمرانی فی النجف من المفروض أن ینبع من خصوصیتها و قدسیتها و دورها الحضاری و أن لا یفرض التخطیط من قبل مهندس أو معماری أو مخطط، فالمدینة هی التی تخلق المعماری و المخطط و لیس العکس، کما أرجو أن یتحقق ذلک بدراسة متقدمة للبیئة و التراث، و أن تتحقق من خلال التعامل الحی مع السماء و تفاصیلها من شمس و قمر و نجوم. ففی عمارة النجف هناک واجهة واحدة توحیدیة متصلة مع المطلق، و هی المواجهة السماویة.
و إضافة إلی ما ذکرنا أود الإشارة إلی جملة توصیات حول مجمل التخطیط العمرانی لمدینة النجف المقدسة:
أولاً: ینبغی أن یتحقق تطور المدینة منطلقاً من تطور المنطقة ککل، و علی المستوی الوطنی و المحلی و الإقلیمی.
ثانیاً: ضرورة الاهتمام بالتخطیط الاقتصادی للمدینة؛ لأن التطور العمرانی مرتبط بالتطور الاقتصادی إلی أبعد الحدود.
ثالثاً: تطویر و تنظیم الزیارات للمدینة المقدسة علی الصعید الداخلی و الخارجی، و التفکیر بالأسالیب العملیة الفعالة.
رابعاً: الاهتمام بمقبرة النجف، وادی السلام، باعتبارها أحد أهم معالم المدینة العمرانیة و المعماریة و الدینیة.
خامساً: العمل علی تطویر امتداد المدینة بشرایینها و طرقها إلی کربلاء و الکوفة و مدن الفرات الأوسط کافة.
سادساً: نمو المدینة ینبغی أن یکون منتسباً إلیها، فهی مدینة علمیة و دینیة، و هذا یحتاج ألی الاهتمام بالمدارس الدینیة و الجوامع، و أماکن إقامة زوار الحضرة العلویة، و مقبرة وادی السلام.
سابعاً: و من وجهة نظری أنّ النجف مثل مدینة کامبردج العلمیة و التاریخیة،فهی محفوظة و محمیة لا یستطیع أحد أن یغیر فیها ما یُخالف أصالتها العلمیة و الحضاریة، کتغییر اسم منطقة من مناطقها أو شارع من شوارعها، فما زالت تلک المدینة تحتفظ بالطریق الّذی کان نیوتن یسیر  علیه کما هو. فالمطلوب أن تحتفظ النجف بآثارها و تراثها الحضاری، الّذی یحکی قصة و جودها و قصص علمائها و أدبائها، من الّذین عاشوا و درسوا ثمّ ماتوا و دفنوا فی أرضها.
أتخیل المدینة، و کأنها أمامی و أنا بوادیها، و هی فی وضع أتمناه لها، فی أن یدخلها شریان أخضر، و هو شارعها العام المحیط بها، و علی جانبیه أشجار النخیل. أتخیل هذا الشارع الأخضر خالیاً من العشوائیة، منازل و دکاکین، و عندها یتحقق الانتقال الفعلی من الصحراء القاحلة إلی الخضرة. و أن ینتهی الشارع العام المخضر الجوانب إلی بوابة المدینة، التی ینبغی أن تصمم بصورة تبعث الخشوع و الهیبة، و بعدها یدخل الزائر مدینة الإمام علی بن أبی طالب ماراً بأزقتها التقلیدیة و أسواقها القدیمة لیصل إلی الحضرة الحیدریة المقدسة.
و بهذا الانتقال المکانی النوعی من الصحراء إلی الشارع الأخضر، فالبوابة فالأزقة و الدروب القدیمة التی تحکی قصة وجود المدینة، و ما جری علیها فی الأیام الخوالی، فالمرقد العلوی، و بکل ما تحمله هذه المرحلة من تداخل و تکامل حجمی، أری صورة النجف المستقبلیة.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=129229
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 01 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29