• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : مصر ... والسيدة زينب الكبرى (رض ) .
                          • الكاتب : د . احمد قيس .

مصر ... والسيدة زينب الكبرى (رض )

شاء الله سبحانه وما شاء فعل ، أن خلق في الأرض حديقة إيمانية إلهية ، أنوارها محمديّة ، وتربتها فاطمية ، وبذرتها علوية ، أوتادها حسن وحسينية ، ومن بعدهم الذرية ، زهرتها زينبية ، والشريفات العفيفات الهاشميات النجيبات ذرية خير الورى وسيد البشرية ، شذا عطرهن فاح في أرجاء البرية ، لا سيما تلك الزهرة الزهراء الزينبية ، التي تحملت أهوال تلك الرزية،بعقيدة راسخة قرآنية ، حتى لاقت ربها راضية مرضية ، فالسلام عليها وعلى أخويها وعلى أمها وأبيها وجدها خاتم رسل رب العالمين بالسوية ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الأخيار المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين من لدن آدم الى قيام يوم الدين .

لا غُلو إن قلنا أن أهل البيت صلوات الله عليهم المصداق الأبرز والحقيقي لقوله تعالى : (( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء )) سورة إبراهيم الآية 24 . وأنّ من عاداهم وظلمهم من أبرز مصاديق الآية : (( ومثل كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ أجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار )) سورة إبراهيم الآية 26 . ولنا وقفة مع هاتين الآيتين في آخر البحث .

إذن ليس من المستغرب أن تجد الناس أينما كانوا على وجه هذه البسيطة يتفاخرون بوجود غصن من هذه الشجرة المحمدية ، أو زهرة من الحديقة الفاطمية العلوية بين ظهرانيهم ، يحيطونهم بالحب والود والولاء وإن تعددت مشاربهم الفكرية أو مذاهبهم الفقهية .

ويحصل في الكثير من الأحيان وجود أكثر من مكان ينسب إلى أحد أفراد هذه الشجرة الطيبة المباركة المحمدية ، كحال الإمام الحسين (ع) والذي كنّا قد تعرضنا للحديث عنه سابقاً ، أو كحال السيدة زينب (ع) أو الإمام زين العابدين أو السيدة رقية أو السيدة سكينة أو السيدة عائشة رضي الله عنهم أجمعين .

لذا فإن الحديث إن شاء الله سيكون حول موضوع السيدة زينب (رض) وذلك على اعتبار أننا سنتعرض للباقين لاحقاً هذا من جهة ، ومن جهة أخرى مكانة وأهميّة السيدة زينب (رض) إذ أنها تلي أخاها الحسين (رض) في هذا الترتيب ، وللدور الفريد الذي نهضت به عقيلة الطالبيين بعد واقعة كربلاء وما أسهمت فيه من صيانة وحفظ للدين الحنيف ، إذ لولا دعاء الحسين وصرخة زينب لانحرف الإسلام والمسلمون ، وضاعت جهود النبي (ص) وأهل بيته والصحابة الأخيار ، لذا كثيراً ما يقال على لسان العلماء : أن الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء . ومعلوم الدور الجبّار الذي قامت به السيدة زينب (رض) وسيرد في السياق ما يشرح بعض ذلك . إلاّ أن الذي يهمنا في هذه المقالة مناقشة مسألة وجود أكثر من مشهد أو مكان ينسب للسيدة زينب (رض) : في الشام وفي القاهرة وفي المدينة المنورة .

فما هي حقيقة هذه المسألة بشكل علمي وموضوعي ؟.

إعلم أخي وعزيزي أن للعلماء من كافة المذاهب الإسلامية في هذا الأمر ثلاثة آراء :

الرأي الأول : أنها رضي الله عنها لم تخرج من المدينة بعد عودتها إليها وتوفت ودفنت في البقيع .

الرأي الثاني : أنها خرجت من المدينة تلقاء دمشق وتحديداً منطقة راوية من ريف دمشق على إثر مجاعة حصلت بالمدينة وتوفيت هناك ودفنت حيث مقامها معروف ومشخّص .

الرأي الثالث : أنها خرجت من المدينة باتجاه مصر نتيجة لطلب والي يزيد على المدينة آنذاك لأن وجودها بالمدينة كان يثير الأحزان ويقلّب الأمور على حكم يزيد وعلى واليه على المدينة في ذاك الوقت .

وأعلم عزيزي القارىء أننا اعتمدنا في مناقشة هذه الآراء الثلاثة على مجموعة لا بأس بها من المصادر العلمية والتي اعتمد عليها أصحاب هذه الآراء.

كما أننا حاولنا قدر المستطاع مقاربة هذا الموضوع بشكل علمي وموضوعي وبعيداً عن المشاعر التي نكنّها لآل البيت عموماً وللسيدة زينب (رض) خصوصاً . إلا أننا لا ندعي العصمة أو الإحاطة التامة والكاملة بجوانب الموضوع ، شأننا بذلك شأن كل الذين اشتغلوا بالتاريخ وخاصة المواضيع التي يكتنفها الغموض منه .

وعليه فإننا سنبدأ باستعراض الرأي الأول وما يرد فيه مع إيراد ملاحظاتنا في المكان المناسب .

الرأي الأول : يعتمد أصحاب هذا الرأي على جملة من الأدلة التي تفضي الى القول أنها رضوان الله عليها لم تخرج من المدينة وتوفيت ودفنت في البقيع ، ومن أهم هذه الأدلة :

أ- إعتماد الأصل العملي القائل بالإستصحاب ، ويعمل عادة بهذا الأصل بعد العلم والقطع بحصول أمرٍ ما ، ثم شككنا بطروء شيئ جديد عليه ، والقاعدة تقول بأن القطع والعلم لا ينقطع أو يتبدل بالشك بل لا بد له من علم قطعي آخر ، وهذا ما لم يحدث في مسألة خروجها مجدداً من المدينة وعليه فإنهم قالوا بضرورة إستصحاب بقائها في المدينة .

ب- التأكيد على عدم حصول مجاعة في المدينة المنورة بين العام 61 و 64 هجرية بالحد الأدنى ، بل على العكس من ذلك إذ لا يذكر التاريخ أصلاً حصول مجاعة في المدنية المنورة ، وكل ما ذكره هو حصول هتك لحرمتها وحرمة أبنائها والمعروفة هذه الواقعة (( بواقعة الحرّة )) والتي استمرت لمدة ثلاثة أيّام وذلك في أواخرعام 63 هـ / 683 م بحسب البلاذري ج 4 ، أو ياقوت الحموي في معجم البلدان ج 5 ، أو ابن الأثير أو الطبري وغيرهم من المؤرخين . وبالتالي عدم صحة القول بحصول مجاعة اضطرت معها السيدة زينب (رض) للخروج من المدينة بهذا السبب ، وخاصة أن معظم المؤرخين قد أوردوا أن وفاة السيدة زينب كان في أواخر العام 62 هجرية .

ج- القول بأن وجود قبر عبد الله بن جعفر زوج السيدة زينب هو في المدينة ، حيث توفي عام 80 للهجرة وبالتالي عدم صحة خروجها من المدينة ، ووفاته فيها دليل على ذلك كما في (عمدة الطالب). وأيضاً ما قاله صاحب كتاب (( الخطط التوفيقية )) علي مبارك من أنها رضوان الله عليها قد توفيت ودفنت في المدينة المنورة أي في البقيع . وهذا ما ذهب إليه أيضاً أحمد خليل جمعة في كتابه ( نساء أهل البيت في ضوء القرآن والحديث ) . أنظر الصورة رقم 1 .

كانت هذه أهم مرتكزات أصحاب هذا الرأي مع تنوع مشاربهم الفكرية والمذهبية ، حيث عُدّ السيد محسن الأمين منهم وذلك بحسب ما أورده في (( أعيان الشيعة )) ج 33 ، ص 208 . وهو ما أكدّه أيضاً محمد حسين الجلالي في كتابه (( مزارات أهل البيت (ع) )) ص 218 وما بعدها .

إلا أن هذا الرأي لا يسلم من الخدش بمرتكزاته كلها للأسباب التالية :

- أولاً : لجهة الإستصحاب ، فإن إجماع جمهور كبير من المسلمين بلغ حد التواتر ومن اختلاف المذاهب الإسلامية يخرج هذه المسألة من دائرة الأصل العملي الى دائرة الظن المعتبر والمنزّل منزلة العلم ، وبالتالي وعلى الأقل رجحان خروجها من المدينة .

ثانياً : إن القائلين بخروجها من المدينة لم يحصروا سبب خروجها بحصول المجاعة إن صح حصولها ، وهي غير صحيحة بحسب المؤرخين ، وهذا ما نذهب إليه بحسب مراجعتنا للعديد من المصادر .

بل أوردوا سبباً آخر وهو في غاية الوجاهة سنتعرض له في السياق .

ثالثاً : إن وجود قبر عبدالله بن جعفر في البقيع لا يؤكد ولا ينفي خروجها من المدينة ، إذ يمكن أنه وبعد وفاة السيدة زينب خارج المدينة عاد واستقرّ بها ، وفيها كانت وفاته عام 80 هجرية .كما أنّ من ذهب وتبنّى هذا الرأي من العلماء فإنهم غير معصومين ، وبالتالي فإن قولهم هذا يحتمل الصواب والخطأ ولا يوجب القطع واليقين .

الرأي الثاني : ويعتمد أيضاً أصحاب هذا الرأي على جملة من الأدلة التاريخية والتي تفضي الى القول بأن السيدة زينب عليها السلام خرجت من المدينة الى ريف دمشق حيث توفيت ودفنت هناك . وأصحاب هذا الرأي يلتقون مع أصحاب الرأي الثالث لجهة خروجها رضوان الله عليها من المدينة ، إلاّ أنهم اختلفوا في الوجهة . وعليه فما هي مرتكزات وأدلة أصحاب هذا الرأي ؟ وللجواب على ذلك يمكن إجمال أدلتهم بالنقاط التالية :

أ- الغليان الشعبي والنقمة العارمة داخل المدينة على السلطة الأموية الممثلة بيزيد ووليه على المدينة عمر بن سعيد الأشدق ، نتيجة ممارساتهم القمعية لأبناء الصحابة والأنصار وبعض الفئات من المهاجرين وقريش والتي تمثلت بشكل من أشكال التقييد للحرية الشخصية لهم ، وأيضاً نتيجة للضغط الإقتصادي الممارس على أهل المدينة من خلال سيطرة الأمويين على أراضي المدينة واستملاكها  بأثمان بخسة وهو ما عرف لاحقاً بمسألة (( الصوافي )) ، ليأتي مقتل الحسين (رض) وآل بيته وأصحابه ليشكل عنصراً إضافياً وشرارة في إلهاب الموقف ضد السلطة الأموية .

الى هذه البيئة الملتهبة نقمة على السلطة  عادت السيدة زينب (رض) الى المدينة ، ومن لحظة دخولها ووقوفها على قبر النبي (ص) ونعيها أخيها الحسين بالقول : يا جداه إني ناعية إليك أخي الحسين .

شكّل ذلك بداية التحرك الشعبي الساخط على السلطة الأموية وواليها على المدينة الذي أخذ يراسل يزيد ويستنجد به خوفاً على ولايته من غضبة الناس وخصوصاً مع وجود السيدة زينب التي كانت ترثي أخاها الحسين (رض) وتنوح عليه هي والهاشميات ونساء الأنصار في كل مناسبة . وهذا ما نقله وأكده كل من : السمهودي في كتابه وفاء الوفاء ج 3 ص 68 ، والطبري في تاريخه ج 4 ص 672 ، والدكتورة سعاد ماهر محمد في ( مساجد مصر وأولياؤها الصالحون ) ج 1 ص 96 ، والدكتور ابراهيم بيضون في كتابه ( من دولة عمر الى دولة عبد الملك ) ص 190 ، وغيرهم الكثير الكثير.

ويتضح هذا المعنى بشكل أفضل من خلال ما نقله السيد محسن الأمين في ( المجالس السنية ) ص 190 : أنه روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (رض) أنه قال : ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ولا رئي في دارهاشمي دخان خمس سنين حتى قتل عبيد الله بن زياد .

وأيضاً عن فاطمة بنت علي أمير المؤمنين (رض) أنها قالت : ما تحنأت امرأة منا ولا أجالت في عينها مرودا ولا امتشطت حتى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد .

والمراد من ما تقدم إظهار مدى نقمة الناس في المدينة على الأمويين والدور الإضافي الذي قامت به عقيلة الطالبين السيدة زينب بعد عودتها من ركب السبي ، كذلك نقمة بني هاشم على وجه الخصوص . لذلك أمر يزيد واليه على المدينة بإخراجها منها الى أي بلد شاءت ما عدا مكة ، فامتنعت وقالت : (( قتل - أي يزيد - خيرنا ، وساقنا كما تساق الأنعام ، وحملنا على الأقتاب ، والله لا أخرج ، وان أهرقت دماؤنا )) . ويقال أن السيدة زينب بنت عقيل انبرت إليها وكلمتها بلطف مع مجموعة من نساء بني هاشم وقالت لها : (( يا بنت عماه ، قد صدقنا الله وعده ، وأورثنا الأرض نتبوّأ منها حيث نشاء فطيبي نفساً ، وقرّي عيناً ، وسيجزي الله الظالمين ، إرحلي الى بلد آمن )) . ولقد أورد مضمون هذا الكلام كل من : يحيى العبيدلي في كتابه (( السيدة زينب وأخبار الزينبيات )) ، وباقر شريف القرشي بنقله عن ( إسعاف الراغبيين ص 196 ) للشمراني وأيضاً عن ( الإتحاف بحب الأشراف ص 93 ) وذلك في كتابه (( السيدة زينب بطلة التاريخ )) ، والدكتورة سعاد ماهر محمد في (( مساجد مصر )) ، ومحمد محمد عامر في كتابه (( السيدة زينب عقيلة بني هاشم)) والدكتور صلاح عدس في كتابه (( آل بيت النبي )) ص 110 ، ومحمد حسين الحسيني الجلالي في (( مزارات أهل البيت (ع) )) ص 220 ، وغيرهم الكثير مما لا يسعنا إحصاؤه في هذه العجالة .

وعليه ، فإن كل ما تقدم ذكره يؤكد أو على الأقل يرجّح خروجها من المدينة بغض النظر عن الجهة المنشودة والذي وقع فيه وحوله الإختلاف بين أصحاب الرأي الثاني والثالث كما سيتبين معنا.

ب- عدم وجود قبر معروف ينسب الى السيدة زينب (رض) في البقيع حتى قبل أحداث أعوام 1808 م و 1815 ، ففي هذه الأعوام قام الوهابيون بدعم من بريطانيا بالإستيلاء على المدينة ومكة وقاموا بتدمير كل المشاهد والقباب المبنية على الأضرحة في البقيع في المدينة ومقابر قريش في مكة بحسب ما ذكره جون لويس بوركهاردت في كتابه (( البدو والوهابيون )) ص 206 و207 ، وكنّا قد ذكرنا هذا الأمر بشيئ من التفصيل في كتابنا (( التوسل من منظار القرآن والسنّة والعقل )). وهذا الأمر يؤكد أنه لو كان لها ضريح تمّ هدمه في هذه الأحداث فهل كان ليخفى على الهاشميين أو ذويها أو محبي أهل البيت ؟ مع العلم أنه رغم ما قام به الوهابيون من تدمير للقباب والمشاهد والأضرحة لآل البيت والصحابة والعلماء رضي الله عنهم أجمعين ، إلاّ أنه ولتاريخ اليوم معظم هذه الأضرحة يعرفها معظم المسلمين ويزورونها رغم تسويتها بالتراب . أنظر الصور رقم 1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 .

ج- الروايات المستفيضة عن عدد كبير من المؤرخين حول وجود قبر ينسب للسيدة زينب (رض)  في الشام وتحديداً في منطقة راوية من ريف دمشق ، كابن الجبير في رحلته الى الشام وعند كلامه عن دمشق ، وياقوت الحموي في معجم البلدان عند حديثة عن راوية ، وابن عساكر عند ذكر مساجد دمشق ، وأهم هذه الروايات ما قاله البراقي في كتابه (( المراقد )) بنقله عن الحاج مصطفى كبه عام 1302 هـ نقله عن السيد سليم متولي شؤون الوقف آنذاك ومن ضمنها المرقد الذي كانت تعلوه قبة،الحادثة التالية : أنه في العام المذكور أي 1302 هـ سقطت القبة على الضريح،ولما كشف التراب عن قبرها، وإذا بصخرة على القبر عظيمة من المرمر طولها قامة رجل عليها كتابة قديمة لم يتمكنوا من قراءتها ، فأخبروا الوالي عن ذلك،وأشير عليه بالإستعانة برجل طاعن بالسن يقيم بنواحي الشام على اعتبار أنه عالم بالسير والتواريخ والألسن ، فحصل ذلك وعرضوا عليه الصخرة وما عليها من كتابة ، فما قدر أن يقرأ منها غير السطرين الأولين وهما : (( هذا قبر زينب بنت علي بن أبي طالب بنت فاطمة الزهراء توفيت في هذا المكان وأقبرت في رجوعها الثاني )) . ولقد تم إيراد هذه الحادثة في كتاب ( مزارات أهل البيت (ع) وتأريخها ) للسيد محمد حسين الجلالي ص 221 ، ويذكر أيضاً أنه في العام 1334 هـ تم إهداء الصندوق المحيط بالضريح الشريف من إيران ، ووضع عليه في احتفال خاص اشترك فيه المسلمون من لبنان وسوريا وتليت فيه كلمة للسيد عبد الحسين شرف الدين وذلك في 20 شعبان 1334 هـ .

د- عمارة وتوسعة المشهد المنسوب للسيدة زينب في منطقة راوية من ريف دمشق بين عام 1920 و 1930 م وذلك بإشراف السيد محسن الأمين العاملي صاحب موسوعة (( أعيان الشيعة )) وغيرها الكثير ، وهو يعتبر من أبرز العلماء الإمامية في مطلع القرن العشرين ، ومعرفتنا بهذا الأمر كانت شبه مباشرة ، بحيث أنها نقلت إلينا من خلال ابن السيد محسن الأمين ، وهو المؤرخ الكبير صاحب أكبر موسوعة إسلامية في العصر الحديث والتي تعرف (( بدائرة المعارف الإسلامية الشيعية )) وهو الأستاذ المباشر لنا في مادة التاريخ السيد حسن الأمين . إذ أننا كنا نحضر الى منزله الكائن في منطقة البربير في بيروت مع مجموعة من الطلبة وبشكل إسبوعي ولمدة عامين للإستفادة من علمه الوفير ، ومنحنا في النهاية إجازة منه في رواية التاريخ وذلك في أواخر العام 2001 م وتحديداً في 22 رمضان 1422 هـ . كما يمكن ملاحظة ذلك في الصور المرفقة مع الموضوع رقم 8 .

وملخص ما نقله إلينا وذلك في أثناء الدرس ، وتحديداً في جلسة 10 / 12 / 2001 م في معرض ردّه على سؤالنا عن السيدة زينب (رض) في الشام وعمارة مشهدها ، فكان من جوابه ما يلي : (( يعود الفضل في العمارة الحديثة لهذا المقام أولاً لله سبحانه ولجهود الوالد - أي السيد محسن الأمين ، وللحاج محمد مهدي البهبهاني ، الذي قدم الى زيارة الوالد وقال له سأعطيك عناوين تجار سجاد إيرانيين وغيرهم من أجل أن تطلب إليهم المساهمة في عمارة المشهد الزينبي وتوسعته وخاصة أنه كان صغيراً .

وبالفعل قام والدي بمراسلة هؤلاء التجار ، وبعد فترة من الزمن لا تتعدى بضعة شهور ، وصل لوالدي مبلغاً من المال بواسطة ( آل مكتبي ) وهم من تجار السجاد ، وبلغ هذا المال ما مقداره نحو ثلاثون ألف ليرة لبنانية وكان هذا المبلغ يعتبر طائلاً آنذاك . ولم يمض إسبوع على وصول المبلغ الأول حتى وصل مبلغ آخر من المال وهكذا دواليك . حينها باشر والدي بالعمل لتشييد مقام السيدة زينب (ع) ولأجل ذلك قام والدي بتشكيل لجنة لهذا المشروع ، وكان أمين الصندوق فيها الحاج محمد مهدي البهبهاني . وتكريماً لذكرى هذا الرجل المؤمن الحاج محمد مهدي البهبهاني ، والذي توفي على حياة والدي ، انشأ له الوالد غرفة خاصة في مدخل المقام حيث دفن فيها مع زوجته الفاضلة أيضاً )) . أنظر الصورة رقم 9 و 10 و 11 و 12 و 13 و 14 .

إن كل ما تقدم من أدلة بحسب أصحاب الرأي الثاني والقائل بوجودها في راوية من ريف دمشق صحيح بنسبة كبيرة لكنه لا يسلم من الخدش ، وسنتكلم عن ذلك بعد إستعراضنا لرأي الفريق الثالث.

الرأي الثالث : وأصحاب هذا الرأي يقولون بوجود السيدة زينب (رض) في مصر والقاهرة تحديداً وفي الميدان والحي المنسوب إليها ، ويعتمدون في ذلك على جملة من المرتكزات والأدلة وهي التالية :

أ- أتفق أصحاب هذا الرأي مع أصحاب الرأي الثاني بكل ما جاء حول أحداث المدينة وخروج السيدة زينب منها ، إلا أنهم اختلفوا معهم لجهة الوجهة أو المقصد الذي ارتحلت إليه السيدة زينب رضوان الله عليها ، فإنهم قالوا بأنها توجهت الى مصر ، وذلك بنصوص وتعابير مختلفة ولكن يمكن إجمالها على الشكل التالي : بعد حديث مخدرات آل هاشم مع السيدة زينب وتلطفهن معها في المدينة وافقت على الإرتحال الى مصر لتتخذها داراً لإقامتها وذلك لما سمعته عن أهلها وعن محبتهم لآل البيت النبوي الكريم ، ولما سمعته بما حدثتها به زوج النبي أم المؤمنين ( أم سلمة ) رضي الله عنها ، من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى قبل انتقاله الى الرفيق الأعلى بأهل مصر فقال : (( إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً ، فإن لهم ذمة ورحما)) وفي رواية أخرى أنه قال : (( إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط ، فإذا فتحتموها فأحسنوا الى أهلها فإن لهم ذمة ورحما )) أو قال : (( ذمة وصهرا )) كل ذلك بحسب ما رواه مسلم في صحيحه .

وقد صحب السيدة زينب في مجيئها الى مصر من ذرية أهل البيت (ع) كل من : السيدة فاطمة ابنة الإمام الحسين (رض) والسيدة سكينة ابنة الإمام الحسين (رض) أيضاً .

وبالسند المرفوع الى رقية بنت عامر الفهري ، قالت : كنت ممن استقبل زينب بنت علي لما قدمت الى مصر بعد المصيبة ، فتقدم إليها مسلمة بن مخلد الأنصاري ، وعبدالله بن الحرث ، وأبو عميرة المزني ، فعزاها مسلمة وبكى ، فبكت وبكى الحاضرون وقالت : (( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون )) .

ويقول علي الشلبي : وكان مسلمة بن مخلد الأنصاري والي مصر ، قد توجه ومعه جماعة من أصحابه ورهط كبير من أعيان مصر وعلمائها ووجهائها وتجارها ، ليكونوا في شرف إستقبال السيدة زينب رضي الله تعالى عنها ، عندما تطأ قدماها الشريفتان أرض الكنانة ، فاستقبلوها جميعاً إستقبالاً حافلاً يليق بمقامها الكريم عند قرية على طريق مصر الشام ، شرقي مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية . وقد وافق دخول السيدة الطاهرة مصر بزوغ هلال شعبان سنة احدى وستين هجرية ، وكان قد مضى على استشهاد شقيقها الإمام الحسين (ع) ستة أشهر وأيام . ولقد أنشد أحد الشعراء لإختيارها مصر داراً للإقامة بالقول :

لما رجعت من الشام ليثرب                                                 من بعد فاجعة الإمام الحسين

طلبوا إليك الظعن للبلد الذي                                                   تستوطنيه خارج الحرمين

فاخترت مصر فرحبت بك وأنثنت                                         تهتز من شرف على الكونين

ويضيف الشلبي بالقول : وقد أنزلها الوالي هي ومن معها في داره بالحمراء القصوى تروحاً لها ، إذ كانت تشكو ضعفاً من أثر ما مرّ بها . فنزلت بتلك الدار معززة مكرمة ، وبقيت موضع إجلال المصريين وتقديرهم ، حيث كانوا يفدون الى منزلها الكريم متلمسين بركتها ودعواتها ، مستمعين الى ما ترويه من الأحاديث النبوية الشريفة .

وبقيت العقيلة بتلك الدار ، أقل من عام بقليل ، وكانت طوال مدة إقامتها لا ترى إلا عابدة  متبتلة متهجدة صوامة قوامة  تالية لآي الذكر الحكيم .

وقد انتقلت رضوان الله عليها عشية يوم الأحد 14 رجب عام 62 من الهجرة ، فمهدت لها الأرض الطاهرة مرقداً ليناً في مخدعها من دار مسلمة بن مخلد الأنصاري ، حيث أقامت وحيث اختارت ان تلقى ربها الكريم ليكون مضجعها الأخير .

ب- الإهتمام القديم بعمارة المشهد دليل على صحة وجودها بحيث أصبح مقامها حيث تم دفنها فيه ، مزاراً مباركاً يفد إليه المسلمون من كل حدب وصوب ، ويتبركون به ويسألون ربهم فيه صالح الدعوات ، وفي مقدمتهم العلماء والفقهاء ومن جملة من كان يزورها : كافور الأخشيدي ، وأحمد بن طولون ، والظافر بنصر الله الفاطمي الذي كان يأتي الى المقام حاسراً رأسه وراجلاً وكان يتصدق عند القبر الشريف على الفقراء ، واقتدى به من بعد ملوك مصر وأمراؤها .

كما أجريت على المرقد الشريف عدة عمارات وإصلاحات وتوسعة من قبل المؤمنين والملوك والوزراء وغيرهم أمثال : أمير مصر ونقيب الأشراف فخر الدين ثعلب الجعفري الزينبي ، الأمير علي باشا والي مصر من قبل السلطان خان ، الأمير عبدالرحمن كتخدا ، والوزير يوسف باشا ، وجد الأسرة العلوية محمد علي باشا الكبير ، وسعيد باشا ، والخديوي محمد توفيق باشا .

وكتب على باب المقام هذا البيت من الشعر :

يا زائريها قفوا بالباب وابتهلوا                                          بنت الرسول لهذا القطر مصباح

كما كتبت هذه الأبيات على أبواب القبة الشريفة :

قف وتوسل بباب بنت علي                                                     بخضوع وسل إله السماء

تحظ بالعز والقبول وارخ                                                  باب أخت الحسين باب العلاء

كذلك في عام 1964 وبعهد الرئيس جمال عبد الناصر تم وضع اللوحة التذكارية لتوسعة مسجد السيدة زينب (رض) ، وفي عام 1969 م أضافت وزارة الأوقاف بمساحة المقام والمسجد حيث بلغت الضعف من المساحة الأولى ، وما تزال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والأزهر الشريف يتوليان الإهتمام بالصيانة والتحديث لهذا الصرح المحمدي الأصيل : أو كما قال الدكتور صلاح عدس في كتابه ( آل البيت ) : ما يزال ضريح السيدة زينب قائماً ، ومسجد السيدة زينب قائماً يقصده الملايين للصلاة والدعاء والتبرّك ، فأين قبر يزيد بن معاوية أين؟؟ بل من يشتري الآن مني ملك بني أمية بدرهمين ... أنظر الصور رقم 15 و 16 و 17 و 18 و 19 و 20 و 21 و 22 و 23 .

إن كل ما تقدم من أدلة بحسب أصحاب الرأي الثالث والقائل بوجودها في مصر ، هي أدلة قديمة وقوية إلا أنها أيضاً لا تسلم من الخدش لأسباب سنشرحها في السياق ، ولكن أهمية هذا الرأي تكمن في قدمه وتوثيقه من قبل طائفة كبرى من المؤرخين ، كيحيى العبيدلي في ( السيدة زينب وأخبار الزينبيات ) ، وياقوت الحموي في ( معجم البلدان ) عند حديثه عن القاهرة ، والكوهيني الأندلسي الذي دخل مصر في عهد المعز لدين الله الفاطمي ، وابن الجبير في رحلته الى القاهرة ، ( ولواقح الأنوار ) للشمراني، وكل من اشتغل بالتاريخ منذ العهد الفاطمي وصولاً الى العصر الحديث من أمثال : الدكتورة سعاد ماهر محمد ، وأهمية عمل الدكتورة سعاد أنه صدر عام 1971 م في عهد جمال عبد الناصر الذي أمر بتوسعة المسجد كما أشرنا ، وتوليها عمادة التحقيق العلمي في وزارة الأوقاف والأزهر لحين وفاتها ، وبالتالي أصبح هذا الكتاب الضخم بمجلداته الخمس يشكل مرجعاً علمياً بجدارة ، وأيضاً علي أحمد الشلبي الذي قدم له كتابه ( ابنة الزهراء بطلة الفداء ) الدكتور عبد الحليم محمود وزير الأوقاف وشؤون الأزهر ، والدكتور صلاح عدس ومحمد محمد عامر وغيرهم الكثير ولا مجال لذكرهم لعدم الإطالة والإكتفاء بما مرّ لأنه يوضح المقصود والمطلوب .

مناقشـــــــــة لــلآراء الثــــلاثـــــــة :

أ- بخصوص الرأي الأول والقائل بعدم خروجها من المدينة المنورة فإنه قد تقدم مناقشته في محله ، ورغم أنه رأياً وجيهاً إلا أن الآراء الأخرى ( الثاني والثالث ) أوجه ، لذا فإن المناقشة ستكون بين الرأيين المذكورين .

وقبل أن نبدأ المناقشة لا بد من معرفة أمرٍ في غاية الأهمية وقد ذكره الشيخ المفيد في كتابه ( الإرشاد ) ، والطبرسي في كتابه ( أعلام الورى بأعلام الهدى ) ، وكل من استقى منهما لاحقاً حول عدد بنات الإمام علي اللواتي حملن إسم زينب .

فللإمام علي عليه السلام ثلاث بنات حملن إسم زينب ، إثنتان من السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام وهن :

1- زينب الكبرى ومن أسمائها العقيلة ، الحوراء ، أم هاشم . وزوجها عبدالله بن جعفر بن أبي طالب .

2- زينب الصغرى ومن أسمائها أمّ كلثوم والتي يقال أن النبي (ص) هو الذي أطلق عليها هذا الإسم نسبة للشبه بينها وبين زينب خالتها .

أما الثالثة والتي تم ذكر اسمها وعدّها من بنات أمير المؤمنين فهي وإن كانت ابنته حقاً وتم التأكيد على ذلك من خلال إيراد إسمها ضمن لائحة أبناء الإمام من الذكور والإناث إلا أنهم لم يذكروا إسم والدتها . بل قالوا فقط : لأمهات شتى . بمعنى أن الإمام علي بعد وفاة السيدة الزهراء (ع) تزوج بعدة نساء وأنجب منهن ، وواحدة من هؤلاء النسوة والدة زينب الصغرى ، وعليه تكون الثالثة.

3- زينب الصغرى . وزوجها محمد بن عقيل بن أبي طالب .

ب- الرأي الثاني : ما له من مرجحات وما عليه من ملاحظات .

إن لهذا الرأي جملة من نقاط القوة التي تؤيده وتدعمه ، كما أن عليه بعض الملاحظات التي يمكن أن تخدشه وتضعفه ، فمن الأمور التي تدعمه وتقوّيه :

1- عدم ورود ذكر السيدة زينب (رض) في النصوص الواردة عن الإمام زين العابدين (رض) طوال مدة إقامته في المدينة بعد العودة من ركب السبي مع عماته ، وخاصة أن وفاة السيدة زينب (رض) كان بحسب الروايات التاريخية في نهاية 62 للهجرة في حين أن وفاة الإمام زين العابدين كانت في 95 للهجرة ما يعني أن وفاتها كانت على حياته فلو كانت في المدينة وتوفيت هناك لكان وصل إلينا شيئ من أخبار نعيها وتشييعها من قبل الإمام زين العابدين (رض) ، وهذا ما لم يحصل ولم يرد - بحسب إطلاعنا - ما يعني بأنها رضوان الله عليها كانت خارج المدينة وهذا ما يؤيد الرأي الثاني والثالث لجهة أصل خروجها من المدينة .

2- أما لجهة توجهها الى الشام ومنطقة راوية تحديداً ، فإنه لا يستقيم إلا وفق التحليل التالي ، وهذا التحليل خاص بنا ولم ننقله أو نجده عند أحد قبل الآن ، وهو ينص على أن أصل خروجها من المدينة كان نتيجة الإضطرابات التي كانت سائدة في المدينة ، والدور الذي قامت به السيدة زينب بعد رجوعها الى المدينة ، ما دفع والي المدينة عمر بن سعيد الأشدق بالإستعانة بيزيد خوفاً من النقمة العارمة والثورة وخاصة أن طلائع هذه الثورة قد بدأت تلوح في الأفق ، لذا طلب يزيد إخراجها من المدينة .

وعادة الطغاة وخاصة بعد إرتكابهم الجرائم المروعة ، إبقاء خصومهم أو من يشكل تهديداً ولو معنوياً عليهم تحت أعينهم وتحت نفوذهم حتى لا يتيحوا لهم التحرك بحرية وهو ما يعرف باللغة المعاصرة (( بالإقامة الجبرية )) وعليه ، يمكن فهم وتبرير عودتها الى الشام برفقة زوجها عبدالله ابن جعفر الى هذه القرية التي يمتلك فيها بستاناً أو عقاراً باللغة الحديثة ، الأمر الذي تكون فيه السيدة زينب في الإقامة الجبرية في منطقة ليس لها فيها موالين أو حاضنة شعبية وتحت أعين السلطة الأموية .

وهذا الكلام الذي تقدم وإن كان ليس له دليل تاريخي يعضده ، إلا أنه يشكل بالحد الأدنى التفسير المنطقي الوحيد وخاصة بعد ثبوت عدم حصول مجاعة في المدينة أدّت الى خروجها منها .

أمّا الملاحظات على الرأي الثاني فهي :

1- تضارب الروايات حول هوية زينب الموجودة في راوية  من ريف دمشق ، حيث يذهب عدد لا بأس به من المؤرخين الى ذلك وعلى رأسهم السيد محسن الأمين الذي قال في أعيان الشيعة ج 33 ص 208 : (( فقد وهم كل من زعم أن القبر الذي في قرية راوية منسوب الى زينب الكبرى ، وسبب هذا التوهم أن من سمع أن في راوية قبر انتسب الى السيدة زينب سبق الى ذهنه زينب الكبرى لتبادر الذهن الى الفرد الأكمل ، فلما لم يجد أثراً يدل على ذلك لجأ الى استنباط العلل )) .

ويقول أيضاً في كتابه (مفتاح الجنّات ) ج 2 ص 211 ، وذلك عند ذكره للزيارات وما يستحب الدعاء به عند المشاهد المنسوبة الى آل البيت في الشام وتحت عنوان : زيارة المشهد المنسوب الى السيدة زينب الصغرى المكناة بأم كلثوم بنت أمير المؤمنين (ع) ما نصّه : (( وهو بقرية راوية على فرسخ من دمشق ، وتعرف بقبر الست فتقول وأنت مستقبل القبلة : السلام عليك يا بنت رسول الله .....)) .

2- وأيضاً ابن جبير في رحلته التي كانت في أوائل المائة السابعة عند الكلام على دمشق ما لفظه : ( ومن مشاهد أهل البيت عليهم السلام مشهد أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب ويقال لها زينب الصغرى ، وأم كلثوم كنية أوقعها عليها النبي (ص) لشبهها بأم كلثوم (رض) والله أعلم بذلك ....)).

3- وأيضاً ما نقله السيد محمد حسين الجلالي من كتاب ( هامش المراقد ) ج 3 ص 33 ، من أن هناك صورة نقش على المرقد جاء فيها : (( قبر السيدة الجليلة ..............أم كلثوم زينب الكبرى بنت أسد الله الغالب الإمام الجليل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه )) ، ووثق هذا الأمر بشهادة القاضي آنذاك ، مصطفى بن مصطفى أفندي في آخر ربيع الأول سنة 768 هـ .

ومن الجدير بالذكر هنا ، أنه لا يوجد تعارض في موقف السيد محسن الأمين لجهة قوله بأن الموجودة في راوية هي زينب أم كلثوم وبين قيامه بمشروع بناء وتوسعة المشهد الزينبي ، لأن كلتا الأختين ابنتا علي والزهراء ، وكلتاهما قدمتا للإسلام تضحيات كبرى لا مجال لذكرها الآن وخاصة السيدة زينب أم كلثوم .

ج- الرأي الثالث : ما له من مرجحات وما عليه من ملاحظات .

أيضاً فإن لهذا الرأي جملة من نقاط القوة التي تؤيده وتدعمه ، كما أن عليه بعض الملاحظات التي يمكن أن تخدشه وتضعفه ، فمن الأمور التي تدعمه وتقويه :

1- الشهرة التاريخية العميقة التي يتمتع بها هذا المشهد في القاهرة بخلاف الموجود في الشام .

فالأول ذكره العبيدلي المتوفي عام 277 والكوهيني الأندلسي الذي دخل مصر في العهد الفاطمي وغيرهم الكثير ، وهذا ما يضفي نوعاً من الوثاقة التاريخية حول المشهد في مصر ، بالوقت الذي نجد أن المشهد المنسوب للسيدة زينب (رض) في دمشق ظهر بالروايات التاريخية إنطلاقاً من القرن السادس مع ياقوت الحموي ، والعمارة الحقيقية والأولى له كانت في مطلع القرن العشرين بمساعي السيد محسن الأمين كما سبق ذكره .

2- الإحتمال المنطقي والقائل : أنه وبعد الطلب إليها الخروج مكرهة الى أي مكان ما عدا مكة ، أن تكون رضوان الله عليها قد اختارت مصر للأسباب التالية :

1- لأن والي مصر آنذاك مسلمة بن مخلد الأنصاري ، والمعلوم تاريخياً أن الذين عرفوا بالأنصار ومنهم مخلد وابنه مسلمة كانوا طوال تاريخهم الى جانب أهل البيت ، ويخبرنا التاريخ بأنهم قد عوقبوا لأجل ذلك أكثر من مرة وفي أكثر من مرحلة تاريخية ، لذا احتمال إختيارها مصر فإنه إختيار مسبوق بعلم وجود حاضنة شعبية موالية ومحبة لأهل البيت (ع) .

وهذا ما يفسر الإستقبال الشعبي الحاشد للسيدة زينب عند وصولها الى مصر بحسب أصحاب هذا الرأي .

2- وجود من يُذكّرها بأهلها ولو كانوا أمواتاً وشهداء كمحمد بن أبي بكر رضوان الله عليه الذي استشهد في مصر بشكل مروّع ، وله مقام معروف ، ومحمد هذا كان ربيب الإمام علي حيث تربى في بيته بعد وفاة والده الخليفة الأول أبي بكر الصديق ، وهو بمثابة الأخ للسيدة زينب (رض) . وأيضاً وجود قبر ومقام عضيد الإمام علي ( مالك الأشتر ) الذي استشهد أيضاً في مصر من خلال دس السم له . ناهيك عن أنّ مصر أرض الأنبياء على مر التاريخ .

3- تبنّي السيد محمد حسين الجلالي في موسوعته المسماة (( مزارات أهل البيت (ع) وتأريخها )) ص 220 ، مقولة أن السيدة زينب الكبرى هي الموجودة بالقاهرة . ومن المعلوم أن السيد الجلالي هو من علماء الإمامية .

أما الملاحظات على الرأي الثالث فهي :

1- ينقل عن المؤرخ المقريزي قوله : المشهد الزينبي في مصر هو لزينب بنت أحمد بنت جعفر بن الحنفية بن علي بن أبي طالب . أي أنها ليست زينب الكبرى بل لزينب أخرى من ذرية علي بن أبي طالب .

وينقل أيضاً أنه أي ( المشهد الزينبي ) في القاهرة هو لزينب بنت يحيى المتوج بن حسن الأنور بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب .

2- ما نقل عن المؤرخ علي مبارك في ( الخطط التوفيقية ) ج 5 ص 9 ، قوله : لم أر في كتب التاريخ أن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما ، جاءت الى مصر في الحياة أو بعد الممات .

3- وينقل عن أحمد حافظ الحديدي عن كتاب له بعنوان ( دراسات في مدينة القاهرة ) يقول فيه : ((إن السيدة زينب ليست مدفونة في مدينة القاهرة )) . ويعلل هذا القول وينسبها الى شائعة راجت في نهاية العصر المملوكي .

4- ما نقله أحد المشايخ في الأزهر عن أحمد زكي باشا بأن هذا الضريح لم يكن له وجود ولا ذكر في عصور التاريخ الإسلامي الى ما قبل فترة حكم محمد باشا بسنوات معدودة .

5- صدور كتاب لمحمود المراكبي بعنوان ( القول الصريح عن حقيقة الضريح ) حيث يقدم ويستعرض فيه جملة من الأدلة على بطلان نسبة الضريح في المشهد الزينبي للسيدة زينب الكبرى رضوان الله عليها .

وبالطبع فإن المتأمل المتأني والموضوعي في معظم الملاحظات التي وردت على الرأي الثاني والثالث لجهة خدشها وإضعافها يجدها بدورها أنها نفسها لا تسلم من الخدش والوهن .

وعليه وبناءً على كل ما تقدم ، ما هي الخلاصة التي يمكن أن نصل إليها والعمل بمقتضاها ؟

الخـــــلاصــــة العــــــامــــــة :

قبل الخلاصة هنالك مسألة في غاية الدلالة لا بد من التوقف عندها والإشارة إليها ، ألا وهي : (( ينقل المؤرخون من كافة المذاهب الإسلامية ، أن السيدة زينب واجهت يزيد في مجلسه بخطبة بليغة ما زال يتردد صداها على مدى الأزمنة ، ومن جملة ما جاء بهذه الخطبة  : (( ..... فكد كيدك واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا .....)) وقولها (( فوالله لا تمحو ذكرنا )) هو قسم بالله العظيم ، وهي الصادقة بنت الصادقين ، ومسألة وجود أكثر من مكان ينسب للسيدة زينب في أرجاء المعمورة لهو خير شاهد على أن الله سبحانه وتعالى قد أبرّ بقسمها ، ورفع ذكرها ، بخلاف أعدائها .

لـــــــــــــــــــــــــــذلـــــــــــــــــــــــــك :

برأينا العلمي والشخصي ، والذي ينطلق من عقيدتنا الإسلامية المحمدية والقرآنية أنه : يجب عدم ترك زيارة السيدة زينب العقيلة رضوان الله تعالى عليها في البقيع أو في الشام أو في مصر . أو من أي مكان يمكن للمسلم أن يزور ويسلم على هذه الكوكبة الطاهرة ، أعني بذلك النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعترته وذريته ، وأصحابه المنتجبين رضوان الله عليهم أجمعين.

فالسلام عليك يا سيدتي ويا مولاتي يا زينب ، والسلام عليك أينما كنتِ وفي أي أرضٍ دفنتِ ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعاً في الدنيا زيارتك وفي الآخرة شفاعتك إنه على كل شيئ قدير وهو أرحم الراحمين .

وقبل الختام : كنّا قد أشرنا في بداية البحث الى الآيتين 24/ و26 من سورة إبراهيم وقلنا حينها أن أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين هم من أبرز مصاديق الآية 24 من سورة إبراهيم التي يقول فيها تعالى : (( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً ....)) في حين أن من نصب لهم العداء والكراهية من أبرز مصاديق الآية 26 من سورة إبراهيم أيضاً والتي يقول فيها تعالى : (( مثل كلمةٍ خبيثةٍ .....)) وكنّا قد وعدنا بالتوقف عند هاتين الآيتين في ختام البحث ، وها نحن نفعل بحمد الله. الذي استوقفنا في هاتين الآيتين هو التشكيل القرآني أو ( الشكل ) فوق ( كلمةً طيبةً ) وتحت ( كلمةٍ خبيثةٍ ) وبعد مراجعتنا لعشرة تفاسير معتبرة لدى المذاهب الإسلامية كافة ، لم نجد من أشار الى هذه النكتة . وحتى لا نتهم بالتفسير بالرأي أو العاطفة والهوى ، سنشير الى ما تبادر إلينا ونتركه بدون شرح أو تعليق .

أن الكلمة الطيبة مرفوع أبداً ذكرها     ،     وأن الكلمة الخبيثة متردية دائماً وساقطة ومجتثة .




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=127824
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 12 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29