• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة(2018) .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة(2018)

 أصبح الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة تقليدا منذ كرسته اليونسكو في إعلانها الذي بموجبه أصبح يوم الثالث من شهر نوفمبر مناسبة لتخليد ذكراه. ومنذ 2002 تاريخ أول احتفال بهذا اليوم حتى اليوم هناك انتظارات مما يمكن أن تقدمه الفلسفة باعتبارها رئيسة علوم المجتمع والإنسان إلى البشرية والعالم..ما هي تلك الانتظارات وماذا في إمكان الفلسفة أن تفعله في عالم يستبدّ به العود الأبدي إلى مأساويته، إلى سيزيف، التدحرج الحتمي والأبدي..لعنة الوجود..تهييئ الذهن البشري لأخطر أشكال العدمية..تكمن في نظري المشكلة في السؤال عن أي فلسفة تتجه انتظاراتنا؟ لقد اخترقت الفلسفة لعنة البلقنة، وبات لكل خيار فلسفته. 

تعيش الفلسفة اليوم في دوامة العدمية..قلقها مفتعل..مفاهيم سائلة، وجهات نظر بنكهة السياسة..متى كانت الفلسفة تُساس..الفلسفة أكبر من أطرها المستحدثة من حيث أنّ جوهرها الشجاعة من أجل الوجود بتعبير نيتشه الناقم على الميتافيزقا الغربية..هناك انتظارات للفلسفة نفسها من عالم لا يوفّر البيئة المناسبة لقيام فلسفة حقيقية..نحن أمام مفارقة..من ينتظر من؟
كانت الفلسفة حركة في قلب الواقع..ارتقاء بالحدث إلى حيز التجريد والتأمّل..حركة فكرية قلقة لتغيير العالم..لكن الفلسفة اليوم لا تفكر في تغيير العالم بقدر ما تسعى لمداهنته
أو تسويغ التّفاهة..
من اليونسكو تخرج كل هذه الانتظارات..الفلسفة التي سافر بها سقراط في السوق وعانقت محاوراته الهامش بشجاعة ونبل، هي نفسها الفلسفة التي ستواجه حالة الخصاء حين تحضنها المؤسّسة..تختمر الفلسفة في ذهن الفيلسوف، تمارس غوايتها في العتمة، تتجاوز كلّ الحدود، تدرك أنّ مهمّتها أوسع من عروض المؤسسة..
ينتظر النظام الدولي من الفلسفة أن تنقده من عجزه المزمن عن تحقيق سلام واستقرار الأسرة الدولية، لكن الفلسفة هي نفسها في عصرنا الإمبريالي لم تعد حرّة..ثمّة مساحة تتيحها الديمقراطية لنحت المفاهيم التي سيتمّ إخصاؤها بفعل شيوع الشعبوية وتراجع الخيال وسيلان المفاهيم..اليونسكو مؤسسة مأزومة ثقافيا وهي غير قادرة على الإنصات لنبض الثقافات، إنها في أحسن الأوضاع تحدد لكل ثقافة خاصية..تكفر بإمكانية أن يولد المنعطف الكبير من الهامش..إنّ اليونسكو تحضن التمركز الفلسفي الذي يعيق عالميته..
ليس للفلسفة حتى في المركز سلطة تضارع سلطة الرأسمال..كيف ستباشر الفلسفة مهمة التغيير وهي مرتهنة للرأسمال وإدارته..
الكلمة الفصل اليوم في الغرب والشرق للرأسمال المادّي، بينما تحاول الفلسفة أن تناضل خارج الأرقام والبيانات..ولأنها مزعجة فهي تواجه الإقصاء..في أوربا خرجت الفلسفة من الصالون ودخلت الهامش، تمردت على المؤسسة نفسها باسم التجاوز وما بعد الحداثة..انتصارا للهامش وما تستبعده الحداثة في النقاش العمومي، لكن لنتحدث عن الفلسفة: واقعها وآفاقها عربيا عموما ومغربيا على وجه الخصوص.
ذكرنا مرار بخطورة الخلط بين ما يصلح نصّا للفلسفة وما يصلح نصّا لتاريخها، وما يجري حتى الآن هو مجرد تأريخ لها كررناه ولا مجال لإعادته وإن تلقفه البعض من دون اكتراث..لا شكّ أنّ هذا التاريخ لم يكتمل، وهو ضروري وشرطها الرئيس، ولا أحد يملك أن يزايد على مؤرخيها الكبار من طينة عبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا في عموم مدارسها وفلاسفتها أو خصوص تياراتها كالوضعانية مع زكي نجيب محمود أو هيغل مع امام عبد الفتاح امام ورعيل كبير ممن أغنى المكتبة العربية وأدخلها عمليا في دورة النصوص الفلسفية الحديثة والمعاصرة..الترجمات التي تربت عليها أجيال وبعضهم سافر وأتقن الدرس الفلسفي في أكثر بؤره في أوربا دون أن يجدوا في مكاسب الترجمة العربية أي نقيصة أو لعنة تدعوا للمحق، تعقيد الترجمة إلى حدّ البلوغ بأمرها إلى الاستحالة وإلى حكاية الترجمة البابلية كما تحدث بنيامين وتوسع دريدا هو تمثّل يشوّش على الحاجة إلى هذه الترجمة.. أقول تمثل لأنه يحيلنا إلى فرية اتهام بعض الغربيين لابن سينا والفارابي وغيرهما بأنهما لم يطلعا إلا على ترجمات ولم يقفوا على النص الأصلي..وحين عاقر ابن رشد المشائية اعتنى به هؤلاء الفلاسفة باعتباره منقذا للأرسطية من السنوية، بينما خلاف القدامى كان حول الفهم، فابن رشد نفسه كان يجهل اليونانية...وربما في مقطع مناهضة الترجمة العربية للفلسفة شكل من الاستهانة بالاقتدار والملكة اللغوية مهما كان هناك من حالات استثنائية فالحكم الكلّي مغالطة وإضعاف للفلسفة حين لا نقدّم بديلا أفضل..لا زال هناك الكثير مما ينتظر الترجمة في المجال العربي، فبقياس ما يترجم من الفلسفة الغربية للغات الأخرى يفوق من يترجم إلى العربية. الشروط التعجيزية وغير العقلانية للترجمة تشويش دونه خرط القتاد..من تزعجه الترجمة ويراها تعجيزية فليقم بهذه المهمّة بدل لعن الظلام بحقد..غير أنّ الأمل موجود لا سيما مع النشاط الذي تم استئنافه اليوم من قبل جيل من الشباب جادّ ومجتهد لتغطية حاجة المكتبة العربية وتكريسا للمتابعة..
يغلب على الممارسة الفلسفية في المجال العربي الأيديولوجيا، وإن كانت هذه الأخيرة حقيقة لا مفرّ منها إلاّ أنّ آفتها هنا أنها تسابق الفلسفة وتحتلّ مدخلاتها لا مخرجاتها، وفي مثل هذه الحالة يصعب تحقيق قول فلسفي حقيقي. سنواجه هشاشة في المحتوى وصناعة المفاهيم..نتساءل: كم مفهوم فلسفي تفدمه الممارسة الفلسفية العربية، وهل يا ترى توجد فلسفة عربية اليوم؟ سندخل في مزايدات كثيرة وسنجعل اللّغة وآلاعيب الألفاظ تعوّض صناعة المفهوم..
هناك نخب تحتل القول الفلسفي تمارس كل ما أمكنها من القهر لعرقلة استمرار القول الفلسفي في بيئة يتعزز فيها التواصل ويتحرر فيها العقل من الحقد..ويبدو أن الفلسفة لم تعد ممارسة مرحة أو تفكّرا في الأمل..قامت الفلسفة في المجال العربي بمنح الحقد صورة الفلسفة..
صحيح ان الفلسفة كما أكد البعض عي صناعة المفاهيم، غير أن صناعة المفاهيم ليست خداعا يستقوي بتدوير زوايا اللغة والألفاظ..صناعة المفاهيم هي من التبيين وأيضا التبيّن..هي صناعة للمصطلح وإدارة للمفهوم..وإذا هي سعت لتكريس مضمون كان الوصول إليه أيسر بالإنشاء تصبح كلفا فلسفيا قد يصل حدّ التّفاهة والتبسيط..وكلاهما: التفاهة والتبسيط مضرّان بالفلسفة..هذا ما يجري في بعض التجارب التي لا زالت تغالط بتمحّنها اللّفظي بعد أن انكشف عنها غطاء اللغة..سقطنا في الهذيان..الهذيان الذي لن يغني عنه كل ادعاء فلسفي أو منطقيّ مغشوش..الفلسفة كما قلنا هي انتصار على التفاهة والتبسيط والحقد ..
في المغرب كنّا ولا زلنا نتحدّث عن مشاريع لا عن فلسفة..سبقت المشاريع امتلاك ناصية التفلسف باعتباره موقف من العالم ومن الحقيقة..مشاريع صراعية تنمّي على الحقد الأيديولوجي وتجعل المهمة صعبة على الفلسفة..وتصبح الفلسفة ضعيفة حين لا تأخذ بأسباب المشروع وتخوض في ذلك بأدوات تروييض الأيديولوجيا..
في المغرب وحده تعانق الفلسفة ابن تيمية الذي كفّر نحلتها..ويمجّد داخل كبرى نصوصها بوقاحة..من ينقد الفلسفة من المزاج التيمي ومن أكبر مغالطة تتهدد الممارسة الفلسفية وهو تطويع المفاهيم وحرفها عن مقاصدها لتصبح بفعل المقارنات المغالطة آلية من آليات تساوي الأدلّة واستحالة العلم وهي آفة تنخر الممارسة الفلسفية حيث بات الرأي هو الهدف لا الحقيقة..وبين الرأي والحقيقة مسار فلسفي ومعيار للعلم يظلّ هو الفيصل بين ما ترى وما يوجد.
تعاني الفلسفة هنا من وعكة صحيّة..من الاختراق.. ومن قلب الموازين..إنّ تعقيد المضمون غير تعقيد اللغة..والفلسفة قبل أن تكون تبيينا هي تأمّل يرقى بالمضمون خارج كليشهات النظر الموجود..لقد فهم البعض أنّ الفلسفة هي إعادة ترميم الموجود اللاّفلسفي بلغة الفلسفة بعناد ملاوغاتي عادة ما ينتهي بتقرير عن الإيغو وبهذيان لن تحله الفلسفة بقدر ما يحله كرسيّ الصّابر..باتت الفلسفة رهينة لهذا الإيغو المرضي المتورّم والهادف إلى استئصال الحركة النقدية بدعوى أنها طعون..تعقيد الإيغو ينتج أفكارا تبسيطية بلغة متلوّية ممحونة..أي حاجة للتبيين حين يكتمل البيان؟ وهل قدر الفلسفة هنا أن تظلّ رهينة لهارب بعقدته منذ رمى بنفسه من النافذة فرارا بجلده؟ وهل سنظّل نخفي الموقف اللاّأخلاقي المزمن بمزايدات أخلاقوية لتحريف منطق الأشياء؟..إنّنا لا نعيش ردّة على المستوى الفلسفي بل نعيش بالأحرى أكبر أشكال الخداع..
الفلسفة شجاعة، والفيلسوف كالشاعر تظهر ملكاته واختياراته في سنّ الشّباب..فلكي تكون لديك كتابة الكهول لا بدّ أن تكون استوفيت كتابة الشباب..هل هي مراهقة متأخرة تلك التي تظهرها نصوص تفيض كآبة وتحشرنا في شباك اللغة دون أن نصل إلى المضمون؟
لكن ما يجري حتى اليوم أن الجبن يقضم من الفلسفة ويجعلها جدلا يخفي اعوراره في مستوى من الحجاج يتكرر بلا انقطاع..الجبن والفلسفة عدوّان، لأنّ صناعة المفاهيم هي عملية شجاعة..حين ننصت للمتفلسف الجبان فإنّ العالم سيتحوّل إلى جبن، والفروسية اغترار، والانتصار هزيمة، وسنقع في مصيدة المتفلسف الجبان الهارب بعقدة القفز من النافذة..ولا بدّ أن يبدأ تحرير الفلسفة من هذه المغالطة..من مغالطة الهارب بعقدته..المزايد على الفلسفة بتمحّن ملاوغاتي..من الطاعون التيمي الرابط والمرابط على الجسم الفلسفي بحركات بهلوانية طفالية..المرض النفسي الذي يريد الملاوغ أن يزرعه في النّاشيئة لكي لا يتجرّؤوا على النّص..
ومع ذلك هناك أمل..والأمل في الشباب لا في الموتى والأحناط المتفلسفة أو المختفية في لعبة الفلسفة..يمكننا أن نمارس الفلسفة بصمت، وبالإشارة..اللّغة التي منحها الفلاسفة لا سيما الألمان تلك الأهمية مثل فيتجنشتين مثلا تتناقض مع فعل التمحّن باللغة وتناقض فعل الكلف والتّلوّي اللغوي، لأنها رامت الاقتصاد في البيان والتبيين، علينا أن ننقذ الفلسفة من الكآبة..
ادريس هاني:19/11/2018




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=127087
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 11 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28