بدأت حكاية الربيع العربي بإضرام الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده ، صباح يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010 ، فقد عزت عليه نفسه إثر صفعة تلقاها من الشرطية "فادية حمدي" ، وسط حشد شعبي لإعتراضه على منعها ومصادرتها مصدر الرزق الوحيد له !
كان رد "البوعزيزي" على جرح كرامته هو إنهاء حياته ، بسبب إستشراء سوء الإدارة وفساد السلطة في جسد الدولة وجميع مرافقها ، إضافة إلى شح الحريات المزمن .
أحضر الشاب المتعلم وبائع الخضار عدته وتقدم خطوات من مبنى المحافظة ليكون أمام باب المبنى مباشرةً ، صب البانزين على نفسه وأشعل النار ، فتوهج جسده ، وقدم حياته قرباناً للثورة !
كان الأمر خاطفاً وسريعاً ، ففارق الحياة وسط حيرة المجتمع التونسي بشكل عام ، إنتشر الخبر إنتشار النار في الهشيم ، وشاع الخبر بسرعة ، وتناقلته وكالات الأنباء العالمية ومحطات التلفاز ، وهنا جاء دور وسائل الإتصالات الحديثة منها التويتر والفيسبوك واليوتيوب ، إلى تفعيل الأمر والمساهمة في توسيع رقعة إنتشاره !
كل شيء قبل هذا التاريخ بدا هادئاً واعتيادياً ، لكن النار كانت تضطرم تحت الرماد ، فما إن حركتها ريح شديدة ، حتى اشتعلت ملتهمة كل ما حولها من أوهام القوة ، وجبروت الإستبداد والرفاه الزائف !
قبل تلك الأحداث كانت الشرطة والإستخبارات السرية بالمرصاد لكل من يتفوه بكلمة ضد الرئيس أو حاشيته أو يعارض النظام ، كما كان القمع وشح الحريات والفساد المالي والإداري مستشرياً لدرجة مريعة !
في شروط علم الثورات كانت تلك لحظة ثورية بإمتياز ، لو تأخر اقتناصها لكان من الممكن أن تتبدد وتضيع فرصة تاريخية ، ولو جرى استعجالها قبل ذلك لكان يمكن أن تذوي وتذبل وتضيع !
وهنا كانت البراعة التي تجسدت في الإتساق التاريخي ، يوم اتحدت الظروف الموضوعية المواتيه بظروف ذاتيه مناسبة ، مع توفر أداة هي "الشباب" واستعداد لا محدود للتضحية .
لعل في ذلك يكمن الفارق بي اللحظة الثورية "أي الناضجة" بعد إحراق البوعزيزي نفسه وبين إحراق ثلاثة وثلاثون شاباً عربياً أنفسهم وإضرام النار في أجسادهم ، لكن اللحظة الثورية في بلدانهم ظلت مستعصية ، حتى وإن كان هناك تشابهاً في الأوضاع السياسية والظروف الإجتماعية والقهر والحرمان وشح الحريات ، لكن اللحظة الثورية لن تتكرر ولن تستنسخ إلى أن تحين مواعيدها ، يومئذ سيكون لكل حادث حديث .
كانت ثورة بإمتياز .. قيادة شبابية ، سميت بالربيع الأخضر ومن ثم سميت بالربيع العربي إلى أن إكتملت أركانها بمغادرة الحكم الفردي الإستبدادي في 4 يناير 2011 ، كانت بإصرار الشباب بالسير في الطريق اللا عودة عن ... الحرية !
شباب بعمر الورد .. يشكل كل واحد منهم على طريقته الخاصة ، جمرة غضب واعتراض ضد الظلم والفساد وهدر الكرامة ، وإذا كانوا قد تقدموا الصفوف بصدور عارية ، فلأنهم أرادوا حياة جديدة بعد سنوات من العتمة واختلال علاقة الحاكم بالمحكوم .
أراد هؤلاء الشباب صناعة ربيع عربي أخضر ، فكانوا قادة الثورة وسواعدها ووقودها ، متسلحين بمعرفة وعلم جديدين ، بفعل الثورة الهائلة في تكنولوجيا المعلومات والإعلام والإتصالات ، لقد فاقت الثورات العربية كل التصورات ، إزاء الشباب وعلاقته بالقضايا العامة وشعوره بالمسؤولية وتأثره بالمظاهر السلبية للعولمة ، وإذا به يحدث المفاجأة وتأتي هذه المرة من تونس البلد الأكثر رفاهاً وتعليماً ومدنية في العالم العربي !
وهي بحد ذاتها ظاهرة جديدة في علم الثورات ، لا بد من التوقف لدراستها واستخلاص الدروس والعبر منها ..!
من يتجاهل تلك العبر .. ويحاول قمع حرية الشباب في وسائل التواصل الإجتماعي فإن الربيع الأخضر قادم .. لا محالة !
والله المستعان ..
|