• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : المعيشة الضنكا... هنا أم هناك؟! .
                          • الكاتب : عبدالاله الشبيبي .

المعيشة الضنكا... هنا أم هناك؟!

قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾.
قد توصد أحياناً كلّ أبواب الحياة بوجه الإنسان، فكلّما أقدم على عمل يجد الأبواب المغلقة، وقد تنعكس الصورة فأينما اتّجه يرى الأبواب مفتّحة في وجهه، وقد تهيأت له مقدّمات العمل، ولا يواجه عقبات في طريقه، فيعبّر عن هذه الحالة بسعة العيش ورغده، وعن الأُولى بضيق المعيشة وشظفها، والمراد من قوله تعالى: ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾.
وقد يكون ضيق العيش ناتجاً أحياناً من قلّة المورد، وقد يكون المرء كثير المال موفور الثراء. إلاّ أنّ البخل والحرص والطمع يضيق عليه معاشه، فلا يميل إلى فتح باب داره للآخرين لمشاركته نعيمه، بل ولا يميل إلى الإنفاق على نفسه أيضاً. المصدر: تفسير الأمثل.
وأمّا العيش فقد أفاد الراغب بأنَّ العيش: الحياة المختصّة بالحيوان، والإنسان حيوانٌ ناطقٌ، فيقصد الحيوان بالمعنى المنطقي، والعيش على هذا المعنى أخصّ من الحياة؛ لأنَّ الحياة تُقال في الحيوان وفي الباري تعالى وفي المَلَك أيضاً.
وللتوضيح نقول: إنَّ الحياة على خلاف العيش؛ فإنَّه يصدق على الحيوان خاصة، والإنسان حيوانٌ بالمعنى الذي يشمل الإنسان دون الباري والمَلَك، فلا يقال: عيش الباري وعيش الملك، على تأملٍ سوف يأتي وجهه.
ثُمَ قال: ويشتقّ منه المعيشة لما يتعيّش به من قبيل: المال أو الطعام. قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾، ﴿لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ‏﴾. وقال في أهل الجنة: ﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾. وهنا يتعجّب‏ الراغب من وجود معيشةٍ في الجنّة، فنقل قول النبي (ص): لا عيش إلّا عيش الآخرة.
إنَّ العيش يُطلق على أمرين متلازمين غالباً وعرفاً إلى حدّ ما هما: الحياة في الدنيا والحركة والتصرّف الناشي‏ء من هذه الحياة.
فهما كالعلّة والمعلول في تساوي وجودهما الخارجي، وبيان العلّة: أنَّ الإنسان حيٌّ يحسّ ويتنفّس، والمعلول إشارةٌ إلى التصرّفات الناشئة من الحياة.
ومن هنا قال الراغب: العيش: الحياة المختصّة بالحيوان، وهو أخصّ من الحياة؛ لأنَّ الحياة تُقال في الحيوان وفي الباري تعالى وفي المَلَك. وعليه فالراغب فهم من الحياة أنَّها الحياة الدنيا على وجه الأرض، ومن هنا تعجّب من كون الجنّة عيشةً راضيةً.
والظاهر: أنَّ تقييد العيش في هذه الدنيا بلا موجبٍ ما دام كلٌّ من المعنيين السابقين متحقّقاً، أي: الحياة والتصرّف الناشئ من الحياة، وهذا هو العيش. وأمّا التصرّف الاقتصادي والمادي فهو حصّةٌ من حصص العيش، وعليه يصدق على الملائكة العيش، مع أنَّ الراغب نفى ذلك. المصدر: منة المنان، ج‏5، ص489.
وقد قال العلامة الطبرسي في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ أي ومن أعرض عن القرآن وعن الدلائل التي أنزلها الله تعالى لعباده صدف عنها ولم ينظر فيها ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أي عيشاً ضيقاً عن مجاهد وقتادة والجبائي وهو أن يقتر الله عليه الرزق عقوبة له على إعراضه فإن وسع عليه فإنه يضيق عليه المعيشة بأن يمسكه ولا ينفقه على نفسه وإن أنفقه فإن الحرص على الجمع وزيادة الطلب يضيق المعيشة عليه وقيل هو عذاب القبر عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري والسدي ورواه أبو هريرة مرفوعاً وقيل هو طعام الضريع والزقوم في جهنم لأن مآله إليها وإن كان في سعة من الدنيا عن الحسن وابن زيد وقيل معناه أن يكون عيشه منغصاً بأن ينفق إنفاق من لا يوقن بالخلف عن ابن عباس وقيل هو الحرام في الدنيا الذي يؤدي إلى النار عن عكرمة والضحاك وقيل عيشاً ضيقاً في الدنيا لقصرها وسائر ما يشوبها ويكدرها وإنما العيش الرغد في الجنة عن أبي مسلم ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ أي أعمى البصر عن ابن عباس وقيل يعني أما والضنك الضيق الصعب يقال منزل ضنك وعيش ضنك لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث لأن أصله المصدر قال وإذا هم نزلوا بضنك فانزل. المصدر: تفسير مجمع البيان.
والمراد بذكره تعالى أما المعنى المصدري فقوله: ذكري من إضافة المصدر إلى مفعوله أو القرآن أو مطلق الكتب السماوية كما يؤيده قوله الآتي: ﴿أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾. أو الدعوة الحقة وتسميتها ذكراً لأن لازم أتباعها والأخذ بها ذكره تعالى.
وقوله: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أي ضيقة وذلك أن من نسي ربه وانقطع عن ذكره لم يبق له إلا أن يتعلق بالدنيا ويجعلها مطلوبة الوحيد الذي يسعى له ويهتم بإصلاح معيشته والتوسع فيها والتمتع منها، والمعيشة التي أوتيها لا تسعه سواء كانت قليلة أو كثيرة لأنه كلما حصل منها واقتناها لم يرض نفسه بها وانتزعت إلى تحصيل ما هو أزيد وأوسع من غير أن يقف منها على حد فهو دائما في ضيق صدر وحنق مما وجد متعلق القلب بما وراءه مع ما يهجم عليه من الهم والغم والحزن والقلق والاضطراب والخوف بنزول النوازل وعروض العوارض من موت ومرض وعاهة وحسد حاسد وكيد كائد وخيبة سعي وفراق حبيب. المصدر: تفسير الميزان.
وعليه فإنّ العامل الأساس هو الإعراض عن ذكر الله، فإنّ ذكر الله يبعث على اطمئنان الروح والتقوى والشهامة، ونسيانه مبعث الاضطراب والخوف والقلق.
عندما ينسى الإنسان مسؤولياته بعد أن ينسى ذكر الله، فإنّه سيغرق في خضمّ الشهوات والحرص والطمع، ومن الوضوح بمكان أنّ نصيبه سيكون المعيشة الضنك، فلا قناعة تملأ عينه، ولا اهتمام بالمعنويات تغني روحه، ولا أخلاق تمنعه أمام طغيان الشهوات.
وأساساً فانّ ضيق الحياة ينشأ في الغالب من النقائص المعنوية وانعدام الغنى الروحي.. ينشأ من عدم الاطمئنان إلى المستقبل، والخوف من نفاد الإمكانيات الموجودة، والعلاقة المفرطة بعالم المادّة، بينما نجد أنّ الإنسان الذي يؤمن بالله، وتعلّق قلبه بذاته المقدّسة، يعيش بعيداً عن كلّ هذه الاضطرابات، وفي مأمن منها. المصدر: تفسير الأمثل.
فغاية إعراض الإنسان عن ذكر ربّه، وانكبابه على الدنيا، يبتغي به سعادة الحياة وراحة النفس ولذّة الروح، أن يعذّب بين أطباق هذه الفتن التي يراها نعماً، ويكفر بربّه بالخروج عن زيّ العبودية، كما قالت الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾، وهو الإملاء والاستدراج اللذان ذكرهما الله في قوله ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾. المصدر: التقوى في القرآن.
لكنك إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على اختلاف جهاتها وتشتت أطرافها وأنحائها ووحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر وجدتها بحسب الحقيقة والباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى والجهل به فالعارف بمقام ربه إذا نظر إلى نفسه وكذلك إلى الحياة الدنيا الجامعة لأقسام الكدورات وأنواع الآلام وضروب المكارة من موت وحياة، وصحة وسقم، سعة وإقتار، وراحة وتعب، ووجدان وفقدان. المصدر: تفسير الميزان.
وقيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر وشقاء الحياة البرزخية بناء على أن كثيرا من المعرضين عن ذكر الله ربما نالوا من المعيشة أوسعها وألقت إليهم أمور الدنيا بأزمتها فهم في عيشة وسيعة سعيدة.
وعن أبى بصير عن أبى عبدالله عليه السلام في قول الله عزوجل: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾، قال: يعنى ولاية أمير المؤمنين عليه السلام قلت: ونحشره يوم القيامة أعمى؟ قال: يعنى أعمى البصر في الآخرة أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، قال: وهو متحير في القيمة يقول: لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها قال الآيات الأئمة وكذلك اليوم تنسى يعنى تركتها وكذلك اليوم تترك في النار كما تركت الأئمة عليهم السلام، فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم.
ولهذا أنّ الإنسان لا مفرّ له إلاّ بالتوجّه إليه تعالى، لانّ ذكره هو الذي يريح القلب، وينجيه من القلق والاضطراب، لانّ الإنسان لا همّ له في حياته الدنيا إلاّ الفوز بالسعادة والنعمة، ولا خوف له إلاّ أن تحيط به النقمة والشقاء. وأمّا المنحرف عن أصله، الذي لا يبصر ولا يفقه، فهو مصروف عن الذكر، محروم عن الطمأنينة والسكون، قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
ونعلم أنّ ذكر الله ومعرفة أسمائه وصفاته المقدسة، هو منبع لكلّ الكمالات، بل هو عَين الكمال، فذِكره سبب لتربيه وترشيد الفضائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان، والصّعود به إلى آفاق معنويّة سامية، في عالم التّخَلّق بالأسماء والصّفات الإلهيّة، وهذا الخُلق هو مصدر الأعمال الصَّالحة، وهو السّبب في الانفتاح على الحياة السعيدة وتطهيرها، وبالعكس، فإنّ الإعراض عن ذكر الله تعالى، يبعده عن مصدر النّور الإلهي، ويقترب به من الخُلق الشّيطاني والجوّ الظّلماني، ممّا يؤدي بالإنسان إلى أن يعيش ضنك العيش، وينحدر في مُنزلق النّهاية المأساويّة في حركة الحياة، وهذه هي آيةٌ أخرى تبيّن بصراحة، علاقة الإيمان والأخلاق مع الحياة الفردية والاجتماعية للبشر. المصدر: الأخلاق في القرآن، ج1، ص37.
وعلى حدّ تعبير بعض المفسّرين: إنّ الأفراد غير المؤمنين، يغلب عليهم الحِرص الشّديد في اُمور الدنيا، وعندهم عطشٌ مادي لا ينفذ، وخوف من زوال النّعمة، ولأجل ذلك يغلب عليهم البخل، والصّفات الذّميمة الأخرى التي تضعهم في نار محرقة من الآلام الروحيّة والضّغوط النفسية، وعندما يعيشون العمى في الآخرة; فإنّما هو بسبب العمى في هذه الدنيا عن السير في طريق الحقّ والسّعادة، وغرقهم في ظلمات الشّهوات الماديّة.
وعليه كما يقول الشيخ جوادي آملي ليس الضيق في عالم البرزخ فقط بل هو في الدنيا في ضيق، الذين لديهم إمكانات مادية كثيرة، ولكن ليس لديهم حظ من الدين هم في عذاب إلهي حقيقة، فهم في عذاب دوماً من أجل طلب المفقود والحفاظ على الموجود، يسعون لحفظ المال الذي حصلوا عليه، والقبض على الذي لم بناء على هذا فأهل الدنيا هم في ضغط في كل المراحل الثلاث، في الدنيا مقيدون، في البرزخ في ضيق القبر، في جهنم مكانهم ضيق، وأهل الآخرة في فسحة ووسعه في العوالم الثلاثة، الذين يعيشون بـ ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ مفتوحة لهم الدنيا ويعيشون في راحة كاملة، وقبورهم أيضاً روضة من رياض الجنة.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=120677
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 06 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29