• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : مألوفات... لم يألفْها الناس! .
                          • الكاتب : عماد يونس فغالي .

مألوفات... لم يألفْها الناس!

منذ زمن نازك الملائكة وعبد الوهّاب البيّاتي وبدر شاكر السيّاب، والشعر في مسلكٍ من حداثة. تطوّره تفلّتٌ من منظومةٍ حكمت الفكرَ الأدبيّ بوزنٍ وقافية، حدّدا المفهوم الشعريّ، ليتكوّنَ الهويّة الحصريّة للقصيدة العربيّة وشاعر لغة الضاد!

تفلُّتٌ أخذ يمتدّ ويتمدّد في مفهوم الحداثة، ليملكَ سعيدًا في مساحةٍ كم توسّعت! وفي هذا المسار، محطّاتٌ مرّ بها النظْم، لتبقى الصورة الشعريّة على امتداد السياق، في المدى العربيّ بلادًا وزمانًا!

لكنّ حفاظًا على الشعر "العاموديّ" أو الكلاسيكيّ في اعتماد الأوزان الخليليّة، بقي ملَكةً، وقفًا على قادرين من أئمّةٍ، روَوا شعرَهم نظمَ بدعةٍ شعريّة، تمكّنوا من توفير العناصر الجماليّة في القالب الشعريّ الضيّق التفاعيل.

لمّا جئتُ "شرفات... وقصائد"، لم آتِ غربةً لا أدركها. في الواقع، جئتُ من حرَمٍ شعريٍّ أدبيّ استهواني في نتاجٍ سابق لريمون شبلي، إلى ارتشافاتٍ من جمال شرفات، كم يتوق متذوّق إلى جلسةٍ في رحاب قصائدها! قصائدُ اعتمدت أوزانًا خليليّة، تليق بها المنابر، في مهابتها الجليلة، الرابضة في معابد إعلاءات الشأن الإنسانيّ، للشخصيّات المقولة في تلك الأبيات!

وإن تراخى الوزن في قصائدَ، فإلى منظومةٍ، تسمّت "التفعيلة". كتب ريمون شبلي القصيدة العاموديّة على الوزن الخليليّ الواحد، فكان كلاسيكيًّا. لكنّ تميّزًا في "شرفات... وقصائد"، أخرجه إلى فرادةٍ لا تشبه حتى حاله، في مكاناتٍ أخرى: داخلَ القصيدة الواحدة، الوزنُ الخليليّ والتفعيلة. قارب في فرادته الشاعرَ العراقيّ بدر شاكر السيّاب، فمسح قصيدته بجماليّة خاصّة تشهد له خلاّقًا، رسم في مألوفات، ما لم يألفْه الناس! طبعًا، تبقى هذه "الهويّة" الجديدة المستحدَثة، رهنَ قراءات النقّاد وآرائهم، فتلج عالمَ الشعر، آخذةً مكانها فيه، أو تنحى إلى مساحات الانتظار! 

هاكم ما أقول في قصيدة "من ذا يغنّي؟":

يقف الزمانُ هنيهةً عند المساء                             أم "زوق" تغويه ويحلو لي اللقاء؟"

تبختري بثوبكِ الممشوق

يا بلدة السلامِ يا "زوق"...

ليعود إلى البحر الكامل:

الله يا شعرُ، ائتلقْ، طِبْ وانفتحْ                           ضوءًا على دنيا ورؤيا أنبياء!

في هذه، لم يُبقِ ريمون شبلي ذاته في قوقعة الكلاسيكيّة، ولم يخرجْ كمِن فانوسٍ سحريّ، لكنّه طعّم الوزن الخليليّ للقصيدة التقليديّة، بتركيبةٍ تفعيليّة شبه جديدة، وذلك في القصيدة الواحدة. ليتبدّى لي، أنا على الأقلّ، فنّانًا يعتمد، لا الوزنَ وحسْب، بل الإيقاعَ هذه المرّة، لتكون قصيدتُه نشيدًا يغنّيه ولو إلقاءً!

في القالب الخليليّ، تمكّن شاعرنا أن يحفظ جماليا صورته بلاغةَ فنّان، فيرسو بيراعه في ميناء الملهمين! في قصيدة "ورد وفلسفة"، التي كرّم بها الأديبَ إيلي مارون خليل، قولةٌ شعريّة:

يُغني الوجودَ ويبني في الخلودِ له                           ولاسمكَ الحيّ، ركنًا يشبه الشهُبا

"ولاسمكَ الحيّ"، أي ولاسمكَ إيلي، في إشارةٍ إلى مار الياس الحيّ.

يتابع قصيدته فيصل إلى البيت القائل: "قرأتُكَ ابنَ من استكفى بخورنةٍ..."

في دلالةٍ إلى المكرّم، وهو ابنُ كاهنٍ أكفى نفسه بالكهنوت. 

في قصيدة "عرس الشعر"، ومنذ العنوان، احتفالٌ بالشعر، مهرجان. يقول:

"عرسُ الربيع تغنّي الأرضُ بهجتَها..."

فتستحيلُ الطبيعةُ "بمن" فيها من عناصر، كفي احتفال، تزدهي بالألوان والأصوات الطائرة، تُنشد الفرح بالحياة وتشيع الانشراحَ في القلوب!

طبعًا، هذا غيضٌ من فيض، يؤكّد تمتّعَ الشاعر بالحسّ الصوَريّ الذي يُضفي على القصيدة، بتنوّع نمطها الأدبيّ، نفحةَ الإبداع الذي يرقى بالقارئ إلى تذوّق لذيذ الأدب والفكر السامي!

"شرفاتٌ... وقصائد!"

شرفاتٌ على مفترق الدروب من حياة ناسٍ صرفوا عمرَهم عطاءً وبذلاً! شرفاتٌ على محطّاتٍ من ثقافةٍ، رفعت جماعاتٍ ووحدانًا، إلى مصافٍ من إنسانٍ في ملئه! شرفاتٌ على واحاتٍ اجتماعيّة أوسعت لأشخاص، تعبيراتٍ وتفاعلات، أهدوا في تلاقياتهم من مخزونٍ ملأ مساحاتِ تواجدهم، عطرَ مروراتهم فضائلَ وقيمًا!

لكلّ هذه الشرفات، على علوّها، قصائدُ من نبعةٍ صافية، تنثر فوحَ نسيماتٍ عبيريّة، تسقي عذبَ شعرٍ من هدي أحبّاء، لهم في قلب الشاعر مكانات! رقيقُ مشاعره سكْبٌ في أبيات، زيّن بها زوايا شرفاتهم، حيث حلا له أن يلتقيهم في ميناءاتٍ تتلألأ بألقهم!

شكرًا ريمون شبلي، لهذه الواحة الخصبة بوفور الفنّ الشعريّ الأصيل، الذي تدفقُ به بحرَ أدبنا، طامعين دومًا بمزيد!




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=118161
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 04 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19