لا يبدو على الفتاة ما ينبيء بوضوح عن أسباب ذلك الوجوم ، الذي ترك بصماته على ملامحها. لكن الأُم توعزه إلى القلق الذي هيمن على قلبها من مضي الأعوام وهي قعيدة البيت . كان هذا ــ وكأن الأم تعالج الأمر بذلك ــ ما يستدعيها دون إرادتها :أن تواصل إطلالتها المعتادة على الشارع المقفر. متطلعة عبره ، متسائلة وهي لا تجهل الأسباب : أين ذهبت الناس ؟...
كم كان هذا الزقاق يوجع الرأس بصخبه وعراكه ؟ كم كانت الحياة ، و كأنها أول ما بدأت في المدينة نشأت هنا؟ فلماذا تقفر حركة الزقاق يوماً بعد يوم ؟
وها ان عينيها تعتادان على أبواب البيوت التي يكتنفها الصمت ، ولم يعد هناك في أطراف الليل ما كان يتزاحم من ضجيج أو قهقهات . ربما أصبح من غير المألوف أن تتردد ضحكة طائشة .
ما كانت الأم تعني هدفا بحد ذاته . و الآخرون تروّضوا على التعايش مع هذه الحقيقة و استسلم لها الجميع دون أن يستغربها ممارسوها . سوى أولئك الذين ، أذا وافاهم الحظ وعادوا من غياب هم بالتأكيد سيتفاجؤن بهذه الرتابة و الإذعان لتقبلها .
بعد استدعاء جارها الشاب محمد من غرفته آنذاك ، الذي لم يمض على سكنه فيها.. زمن طويل ، إذ قال له الذين اقتادوه :
ــ ستعود بعد عشر دقائق .
لا تدري أم سليمة أين اختفى ؟ وأي رجال اصطحبوه . فقد ختم الاستدعاء بهدوء . ثم ساد الصمت عن مصيره . وكأن نزلاء المنزل لم يروا ولم يسمعوا .
وحيث طال غيابُه ، ألقت صاحبة المنزل بحاجياته خارجا . بعد خلو الشارع، فاصطحبت أم سليمة تلك الأشياء معها ، ألتي تطل غرفته قبالة شرفتها و احتفظت بكتبه و فراشه و المذياع و حاجيات أُخر . وقد استخفّت الأم باستدعائه ، مقارنة بالنزيل الذي كان يشغل نفس الغرفة من قبل ، حيث اقتحموها و بعثروا حاجياته ، واقتادوه إلى حيث لا يعلم أحد . وتوقعت خطأ : أن محمداً ستكون قضيّته هيّنة و أنه سيعود . بيد أن الآخرين في المنزل يدركون : أن الغيابين لا يختلفان ، فالاستدعاء بحد ذاته ليس هيّنا . أما من الذي استدعى هذا و ذاك .. فلا حاجة لإجهاد الذهن بمثل هذه الأمور .
* * *
بعد غيابه .. طالما تمعنت البنت بكتبه ، وصورته الملصقة بوثائقه الثبوتية ، و التي بدا فيها أحدث سنّا ، تناولت تلك القصاصة التي تركها بين طيّات كتاب بعنوان (ليل طويل) ، كان ينوي أن يُهديها الكتاب ، و فيه قصاصة ورق دبّجها من اجلها . تلك القصاصة التي شغلت اهتمامها ، و كررت قراءتها مرّات عديدة ، ولتستعيد التمعن بصورته كلما وجدت وقتاً ملائماً . مع هذا هو لا يغادر ذهنها . فكلماته العذبة و المؤلمة لقلبها توضح :انه كان ــ كما توقعت ــ يرصدها فعلاً ، عبر شقوق درفتي النافذة .
كم عذّبتها تلك الذكر ى التي تتكرر على بالها ليلاً و نهاراً .
و قبيل رحيله المجهول ، دعته الام عمداً ذات ليلة لاحتساء قدح من الشاي ، بقصد التعرف على اسمه . ثم حاولت أن توحي إليه لكي يكون على حذر . غير أنه تحاشى عمداً أن يكون قد أدرك ما غمزته من أمر .
لم يكن سوى لائذا عند هذا الزقاق المنزوي ، حرصا منه أن يبتعد و يحافظ على حياته لكي لا يكون مصيره كحال أخيه الذي اختفى ، دون أن يتجرّءوا على الاستفسار عنه .
ويوم أن وطأ هذه الغرفة لأول مرة ، فوجئ بحالتها المزرية من رطوبة و صليل ورائحة العتق ، متطلعا إلى النافذة التي ينبغي عليه أن يزيح ما تراكم على حافتها من غبار . كما عثر على أشياء متناثرة ، إستقرأ عبرها عن ساكنها السابق . كانت أشياؤه حذاء وأدوات حلاقة وصحف متناثرة ومرآة وفراش مرمى في الزاوية بغير اعتناء ووسادة قُذفت بعيداً وأشياء أخرى مبعثرة ،أوحت هذه الدلائل : إن أمرا عنيفا قد حل هنا . ربما هذا مجرد حدس عكسته الأمور المحيطة بكل شيء ، لكنه وارد . هذا ما أوحى إليه قلبه . وما أثار قلقه ، تلك النظرات الموحية من ساكني المنزل ، ألمستغربة أو المتوجسة من شيء مجهول . والتي تتحاشاه ، تلك النظرات الجافلة المصوّبة نحوه . فقد استنتجها وعليه أن يدرك خفاياها . وأن يرتاب ليزداد حذرا واحترازا .
هكذا يبدو محمد الذي هو في عقده الثاني و نيف . وهو حديث العــهد بهذا المسكن . و سليمة الخيّاطة أدركت ذلك بوضوح . وآلة الخياطة التي انحرف عملها بعد غيابه الطويل ، من بذلات العرائس و الملابس الزاهية توقف صوتها المليء بالنشاط المطرب و تحول إلى صوت خشن ثقيل الوقع . و انصرفت إلى خياطة الحقائب و الملابس السوداء .
في بادئ الأمر، عند سكنه.. كانت الأم هي التي أخبرتها بمفاجأة هذا النزيل . وراقبت المرأتان تلك النافذة ، بعد أن سادها الصمت . حتى أن الشاب الجديد تحاشى أن يشرّع لوحتيها التي سأمت س سأمتسأسسمت هذا الانكفاء .
الأم و ابنتها راقبتا من شرفتهما : أن ما يحدث هو ما ينبئ عن حركة تتولد و تتوضح خلف النافذة .. وأن ثمة صريرا يؤدي إلى تململ الدرفتين لكي يتزحزحا قليلا..كأنهما يغتصبان ذلك دون حق..وأن يتكشف بوضوح : أن النزيل الجديد ،يمْثل خلف ما يجري من حركة . ثم يزاح ما تراكم من الغبار الذي تجمّع هناك ، منذ زمن ثقل عبؤه عليها . وجعل ذلك الصرير يتوجع و يطلق تأوّهاته ، ليُعلن عن مخاض مألوم . أو أن النزيل الذي لم يمثل قبالتهما بعد، قد أقحم نفسه بالميل إلى تجديد الهواء . الذي تكدس انحباسه داخل الغرفة المهجورة . وهو فعلاً يتحسس بكون سكنه هنا ، يستدعيه أن يفعل شيئا أشبه بالشنيع ، بكونه ينوي أن يشرّع النافذة ، حتى يخفف من وطأة إحساسه ، الذي جعله يشعر بعبء ثقيل ، أو هكذا يتصور ، لكي يزيح معالم ألركود الذي زاد من توحش مكانه . وأن يروّض الفراغ المهيمن بوطأته . ثم يوفر ما هو ضروري من حاجيات . وقد اختار على مضض حاشية النافذة ، كونها تصلح موقعا اضطرارياً ــ عند اقتضاء الحاجة ــ للكتب و جهاز الراديو و المرآة وأدوات الحلاقة و المشط وفرشاة الأسنان.ثم يثبّت مصباحاً يتدلى من أعلى النافذة. وقد فوجئ كما فوجئت المرأتان عندما شرّع النافذة بالمثول وجها لوجه وتطلّعهم باهتمام لبعضهم . لكن سرعان ما أسدلت الفتاة ستارتها بينما مكثت الأ م في محلّها كأن المفاجأة مرحّبٌ فيها . في حين جفل الشاب و لاذ جانبا .
* * *
أوحى انفراج الشرفة إلى شغف تلقائي لاستقبال إشراقة الشمس في كل صباح شتائي ، حتى ركونها إلى الخارج و رحيلها رحيلا أليفا و بغير جفاء.
في الشرفة النابضة بالحياة و الدفء ، ثمة مرآة لخزان فائض عن الحاجة ، شغل الواجهة المقابلة للنافذة ، التي بدأت تتثاءب متواجدة بتحفز. لكي تستدرج الشمس استدراجا ودودا و تستوعبها . ثم تتدفق سطوعا ودفئاً ، كأنّها تتباهى بما أجزلته . فينعكس ذلك باتجاه النافذة المغلقة على وجع البرد .في وقت عَذّبَها الصليل للدفء دون جدوى . فأمعن ذلك التدفق على اختراق حصن الصليل الرابض بعناد و جثا خلف الظلفتين .
أوحى إليه هذا كأنهما يشتركان بتأمّل ما يحدث حيث يتألّق المصباح وتتلاشى المسافة بينهما، وتولد الألفة بينه و بين حياة وديعة ، يقترب فيها الاطمئنان و دفء امرأة ،مثل هذه الفتاة المؤطرة بكل ما يحن إليه و يتمنّاه ،والتي يطل الصباح وقد فاضت شرفتها بسطوع الشمس . كان انبهار الشمس يستدعي من فتاة دأبت أن تحاكي أيّامها بضغط رقيق على لوحة تحريك ماكنة الخياطة باستسلام كامل لإلفة محببة مع هذا الفيض من الضياء . فأزاحت الستارة لينسكب دفق الشمس على جدائلها و جفنيها و جيدها . . و اعتادت شفتاها تزامنا مع أُغنية تسربت عبر النافذة من حاكي النزيل ، حابية على تلك الشفتين اللتين لا يبدو أن أرهقهما عشير ، أو أذبل اكتنازهما . فما زالتا تتآخيان مع زغب نسوي رقيق ، وصوت مديني رقيق .فتنصرف ألعينان إلى تينك الظلفتين وتظلان ترمقان انغلاقهما بإمعان. وتردد الشفتان بانسجام مع أغنية هي بالكاد تسمع .
تمنّت الفتاة أن يتحرر الصوت من كابحه ، لكنه تردد بوضوح ، فتداعت الأغنية عبر حنجرة مطربها كأنه يستجير . كانت الفتاة توقف عجلة الخياطة وتنصرف إلى تلقي ما انبعث بوضوح فتصاعدت الأغنية ، وتدفقت الشمس بوهج غير اعتياد ي ، كما لو أنّها قد أغراها غزل الأغنية ، فبيتت أمرا مع مرآة الشرفة لتجمع كل جهدها و تنعكس على نحو أخرق ، باتجاه النافذة التي صيّرها الصمت و البرد أكثر توحشا .
تستيقظ النافذة بانبعاث صريرها لكي تنفرج قليلا و تنثال الأشعة المكتسبة فوق السرير الناقع بالبرد ، وقد اعتاد محمد أن يعيش وحيدا مع صقيع الفراش الذي لم تشرق عليه شمس من تلقاء ذاتها .
وكان انعكاسها بمرآة لا تفي بشيء، فاعتاد على غطاء هو أشبه بقبو يلوذ فيه ،معتادا أن يتكيّف مع أجواء مسكنه. ثم بعد أن تلين عظامه و أعصابه ، يشرع باجترار ذكرياته المندثرة ، المليئة بالإخفاق من قدرته على الاقتران بجسد آخر . فليله فارسه البرد وسلاحه المهيمن الصمت . ليس سوى ذلك الانعكاس الذي أخفق مما تجود فيه الشرفة من طيف شمس معكوس عبر المرآة .في صباح .. أغدق على شرفة الفتاة بالارتخاء ، حيث تتسعّر طاقة النشاط بما ينبعث من صخب آلة الخياطة وانشغالها بحرارة العمل . يقتبس الشاب من تلك الحرارة الدائبة ليشغل باله بما يربطه مع الدفء المستعار الكاذب الذي لا يتحسس نشاطه على جسده ، سوى ما يسمع وما يرى دون أي حال أفضل .
كان وجهه يتجمد عبر الليل ، ويوجع البرد أصابع قدميه ، فينبعث لديه ، بكون كل هذا الإحساس، هو مجرد خداع لا يجدي . فيتزحزح لتمتد يده إلى زر النور و يطفئه ، ثم يغلق الحاكي و يدثر رأسه لتكتمل الإجابة بما يقنع الفتاة : أن كل شيء قد انطوى و بهت . ويبدأ الكرى يثقل جفونها .
ما يخفف من وحشة الشاب :أن هناك في المساء مصباحاً يتألّق على جبهة شرفتها يغتسل بالمطر ويقتل الشعور لديه بالظلام الذي خلّفته الحرب و تعاقب فواجع الموت.وكان يسلّيه ذلك التألق المشاكس لهمي المطر ، فيكتسب المقدرة على التألق ، وإبداء الشعور بتماثل الدفء وسط الانهمار .
يرقب ما يتأجج من انثيالات تثير لديه شبقا من الشوق للحياة الهانئة الرافلة فيها الشرفة . وما تثيره حركة آلة الخياطة من مشاعر مذهلة . كذلك شعر الفتاة التي أسرفت بتركه يتخلّى عن عفّته ، فيفعل الشغل فعلته فيه ، ويفضح كذب تكاسله ، حين انسيابه بلا مبالاة على كتفيها ، و يدان ورديّتان تشربتا بسمرة أرهفت لونها .
أطل عليه كل ذلك عبر شقوق ألنافذة، وقد تداعت تلك الأغنية التي تذكره بقلب يتوجع .
* * *
في كل ليلة و صباح تمكث الأم تتحرى هي وابنتها ، لعلّ تلك الأغنية تعيد تسللها من النافذة وتُلطّف الصمت أمام الشرفة الناضحة بالحياة . فطالما أقنعت نفسها بأن ما يتراقص من ضوء يرتجف خلف النافذة ، هو ناشئ من حركته المقرورة . راقبت سليمة هذا وهي تضغط على دوّاســــة الخياطة .
تواظب على متابعة ما يجري و هي تحصي ما يتذبذب من ضوء مصباح ملاذه . دائبة على مواصلة مراقبتها عبر مرآة الداخل ، التي تعامدت لتحتضن بكل شوق فضاء نافذته فتوحي كأنها تخترق جثوم البرد هناك . وتحفّزه أن يجاهر بتلك الأغنية لتشد الخيط الذي يربطه مع ابتهاجها و دلالها .
قالت الأم لفتاتها:
ــ أنها أغنية حزينة . أنها تثير الحنين . أعجب كيف يتحمل هذا الشاب الرهيف كل هذا الصليل .أنا لا أدري لماذا يقضي شتاءه وحيداً و بدون دفْ ، كان يجدر فيه أن يــجد حلاً لذلك .
فانبعث ما يتداعى في ذهن الفتاة : إنها تتمنى لو أن الأمور بيدها لأغدقت من شمسها على مخدعه ، بما يكفي أن يكون فراشه و غطاؤه دافئين . لكن .. حينما تعلو الشمس لا تتعامد إلاّ بما تفيض فيه شرفتها . و تتخطى نافذته ، دون أن تطيف سوى شعاع ضنين من ثرائها . وكان الدفء الذي ترفل فيه طيلة الضحى يستدعيها أن تخفف مما ترتديه من ثياب ، وتنشغل قدماها ، وتستلقي جدائلها على قطعة الخياط ، وتروح عيناها تتربصان بما يتوقع من حركة خلف نافذته .ٍ
وعندما يقترب الليل ، ترصد الفتاة انبعاث ضياء الغرفة أو صوت الحاكي المنبعث منها ، يمتلئ ذهنها بما يتخيّل لها ،كونه يلصق وجهه على أحدى فجوات لوحي النافذة ، لاختلاس النظر إلى ذلك العالم الصغير الذي يبهره ، ويستدعي أن تتألق فيه هي . فتتحرى عما تتوقعه و تتأمله عبر مرآة تتشوّف فيها العرائس و السيدات اللواتي يتعاملن معها .حيث تصوغ لهن ما يبهر رجالهن .
إنها مسافة ضيّقة جدا ،تكاد أن تحصي أنفاسه لقربها . و ربما يكاد هو أن يشاهد النمش من على جيدها . بل أنها توهم نفسها: أن تلك الأنفاس تقترب من جيدها. و أن لمسات من أصابعه الناقعة بالبرد توجعها .
تأملت باهتمام ما أنشأته مخيّلتها، فربما هو يرقب مفاتن انحناءتها، ومواظبتها على تحريك آلة الخياطة . وراقبت .. ان تراقصاً لحركته . ربما هي آخر استيقاظة ليودعها و يطفئ النور ،وتصمت الأغنية .وتساءلت : هل أن الظلام يوفر له فرصة أكثر أمان ليرقبها بوضوح؟
ربما يؤكد ذلك من أن النــــــافذة تأرجحت درفتاها ، و أن أذنيها التقطتا ما يشبه ســــحب المقبض .لكن هذا ما خشيت أن لا يكون سوى حدس ليس إلا .ّفهناك مُتّسع وقت تطمع فيه .
كانت تفرغ توّا من خياطة بذلة عرس كاملة هيّأت نفسها و ارتدتها ، مثلت أمام المرآة ، بدت البذلة متوائمة مع قوامها .وبعد طول تأمل رجلت شعرها ، ثم أرخت الخمار على وجهها ، فتراءى لها تألّقه . وقد أغدق عليها بانطباع : أنها أحدث عمرا .و بأنها في أوانها لتقبل حياة زوجية ملحة . وتخيّلت عبر المرآة : أن يــدا تمتد وترفع الخمار .
تحرّى نظرها عبر المرآة ، حيث تترصدها الــنافذة، أمام عتمة خجولة شفافة ، يتداعى من خلالها : أنها رصدت بوضوح تلك العتمة ، كما لو كان ينجلي ما تخفيه عن الشاب من حركة لما تمارسه . وقد استدعى منها أن تتحفظ وتتصرف بأكثر رقة وكياسة ، فأسبلت جفونها و استدارت إلى الخلف لتمعن نظرها متحرية ، ثاقبة تلك العتمة لإصرار حدسها : إن النافذة تخفي خلفها ما تخفيه . وأوجع قلبها : بكون محمد قد تسرب برد الليل الجاثم على عظامه ، وهو يتصالب هناك ، ليرقب ما يتدفق من شباب على جسدها وامتثاله لحياة زوجية أجهرت بالكامل عبر ليلة حري بها ، أن تسرف بانغمار بالغ ، لكي يتأرجح ليلها و يستظل ببهاء هي منشغلة عنه .فانثال ملحاحا كما لو كان حريا بتداعياته ليشغل الليل و النافذة . و لكي يتحوّل هذا الظلام الصامت قبل هذا.. إلى فرصة تستدعي الانغمار فيه ، بذوبان زوجي تتدفق الحياة المتوهجة عبر صمته ، فيثار لكي يتململ و يرمش باهداب سوداء دافئة .
* * *
عقد و نيف تكدرت عبره و جوه ورسمت الأظافر فيه على الخدود ملامح سمراء للخدوش الدامية. وانكماش الشفتين إلى أسفل، طالما ينعكس الإحساس لدى العجوز، التي تصالبت ذراعاها على صدرها على نحو ينث يأسا و كمدا . تطلعت عبر الزقاق.. كلما خاطت سليمة ثوبا اسود عنى لها ذلك بفقدان أحد أبناء الزقاق.
تطلعت الأم عبر الطريق التي كادت أن تقفر، دون هدف واضح .ومن بعيد لا ح للمرأة التي سأمت الركود ، الرجل الذي ينعطف عبر بداية الزقاق.وقد بدت لها ملامح نقلاته تنزّ كهولة ،حفّزت ذاكرتها:أن تتعرّف على صاحبها. كان الرجل يقترب كأنه يبحث عن دليل . هل في مجيئه خبر محزن ؟ فيقترب متهيبا ولكنه جادّ في بحثه .
* * *
نلك الأيام التي غيّبت تطلع محمد لعالم الهدوء و السكينة . وحرمته من حلم لذيذ استحوذ على لياليه ، مجرد حلم ،الذي أفل عنه وبات شاغله: أن تحلّ بين ذراعيه . لولا تلك ألليلة التي غيّبته وحلّ نزيلا لدى هذا الارتهان، فبقي يجتر ذكرياتها التي نقصت سمفونيتها . ولم يبق منها سوى ذلك الشغف الجنوني في العودة سليما، ليمارس عالمه المنتزع .حتى لو كان بقـــايا أطلال مما افتقده ، من اكتمال نعمة الحب و تكوين العائلة. اُمنية : أن يعود إلى أهله و يتفقد مصيرهم . و يعرج على شقة سليمة التي تذكره بتلك الليلة عندما استدعته الأم لتناول ألشاي و (الكليجه )التي صنعته أنامل سليمة ، لقاءات الأم عند إيابه إلى مسكنه آنذاك . كان يدرك ــ أو يأمل ــ أن الأمور تسير في طريق يستكمل فيه حلمه السعيد . وطيلة غيابه ، شغلت الفتاة جزءاً مهما من أمانيه ، لكي ينطلق إلى العالم الواسع الذي يتحرّق إليه ، طيلة زجّه هناك ، أن يشبع شوقه لوالدته ووالده ــ اللذان ربما افتقدا مصيره ــ و يفاتحهما بزواجه منها .أشياء بقيت تشغل باله . و كوّن عبرها عالماً متكاملاً من الآمال الزاهية الألوان . في عالمه الصغير المغلق هناك. عالـــــــــــم الغزوات الناقصة الإنجاز .
كلما تطل على باله تلك الليالي المفتقده ، فإنه يستدرج تلك اللحظات عن مجرى حياة كانت صاخبة مضاءة على مسافة هيّنه : هي نافذة يطل من خلالها على شرفة لوّعته وأوجعته من سهر اغتال اكتمالها عامل الخجل . فبقي لا يملك سوى ليلة حفل الشاي. وكلمات مقتضبة من سلام و انتظارات الأم ، و بلاغات العيون و همهمة الشفتين و شفرات القلب ، في جلسة جرت وجهاً لوجه . ثم..مراقبة ذلك الطيف من خلف الستارة . ما أوصل قلبه إلى عزف منفرد لمعظم لياليه و صباحاته المبكرة .
* * *
تمعنت العجوز بنقلاتٍ يخطوها رجلٌ تجاوز العقد الثالث ، عبر الزقاق الذي بات كأنه غير مـألوف و قد اندثرت معالمه السابقة بالكامل .
لاحت له نافذة الغرفة التي كان يقطنها وقد تدلّت منها لافتة تعلمه ، أن شاغلها الحالي صانع حقائب سفر . تابعت العجوز تطلعه للشرفة المشغولة بالأشياء البالية ، وبان ذهوله كأنه صعق و استلب حلنه. و اختفى ذلك الرونق والليالي المنوّرة التي اصطادت قلبه وتساءل :
ــ ما هذه القطع السوداء المقيتة المتدلية من شرفتها و ماذا يعني ذلك؟
تراجعت العجوز إلى الداخل لتطل معها فجأة سليمة التي لاح على ملامحها الذبول . وقد اختفت منها رقّة الوجه وارتسمت محلّها غضون سافرة. فهمست مع نفسها و قلبها يضطرب :
ـ إنه هو
لاحظ أن طيف ابتسامة تشق طريقها على محيّاها الذي امتقع أكثر .ربّما لوقع المفاجأة .هبطت العجوز لملاقاته ،و لتسأله وهو يقترب :
ــ ألست محمدا؟
لم يكن أقل ارتباكا ،ولا امتقاعا . قبلته العجوز و سحبته معها إلى البيت .كانت الفتاة التي تسلق إليها في الأعلى قد حيّته و يدها على فمها كأنّها تخفي امتقاعها . قالت الأم مواسية :
ــ ما هذا الشيب الذي لا يناسب عمرك ؟
هذا ما كان ..أنه يأسف لما كان، فيفاجئ الفتاة بهذه الحال ، التي هي حلمه الذي لا يجارى .هي شاغله في السجن، مثل أمله في العودة إلى أهله .
قالت الأم :
ــ ما الذي ذكّرك فـــــينا ؟
قال بكمد واضح وهو برقب ابتسامة الفتاة المليئة بالعتاب:
ــ وهل نسيتكما يوما ؟ هاأنتما تريان أني عدت من ساحات الموت. عندما عدت إلى مدينتي ، لم أجد عائلتي . بل وجدت عائلة أخرى تحل محلّها . وما قاله الجيران: أن عائلتي قد غُيّبت ، لكن إلى أين ؟ لا أحد يعلم . وقد حذّرني أناس طيّبون : أن لا أمكث في مدينتي . وقد علمت أن الدار قد بيعت .
بعد أن تهامست الأم مع ابنتها قالت وهي تتلافى أن تخوض فيما يُؤلم :
ــ حسنا يا ولدي .. باستطاعتك أن تعتبرنا أهلك . غرفتك شغلت كما ترى . وحاجياتك محفوظة عندنا . فإذا رغبت لدينا غرفة يمكنك أن تشغلها .
أحس هو بالارتياح ،وبدا يميل إلى الهدوء والتروّي . فالعقبة الكأداء قد زالت ، والفتاة التي بدت أناملها خشنة ،جراء نوع العمل الجديد ، قد ألقت بذراعيها في حضنها كأنّها قد تحررت من عبْ ثقيل أرهق فؤادها وبان عليها طيف من الارتواء .
* * *
بعد العشاء الذي جرى الاعتناء قيه ،لكونه قد حلّ بعد غياب طويل ،يلفه الغموض و اليأس ،كان يبدو مجهدا . وفضّل أن لا يذكر لهما ما لاقاه من عذاب و آلام ، والأعوام التي أرهقته في اعتقاله دون ذنب ،أنه بحاجة أن يستريح من همومه تلك . وان يعرف ما يؤول له مصيره .أيتاح له فعلا مجال للمكوث قريبا منها؟
وجد سريره مهيئا في الغرفة ألتي جرت أضاءتها . وحاجياته وكتبه التي رتّبتها الفتاة بعناية على منضدة صغيرة . فوجئ بكل هذا . ثم بدأ يبحث عن الكتاب الذي طوى بين صفحاته تلك القصاصة فلم يجدها . في الصباح استيقظ متأخرا . فهو لم يبكر في نومه . هكذا اعتاد أذا تغيّر مكانه .لاحت له الشرفة تغمرها الشمس ،وقد أزيلت منها الأشياء التي تكدّست بإهمال . عاد لها رونقها الذي طالما شغل ذاكرته بالأحلام الجميلة .
فاجأته سليمة بثوب شبيه بالذي تغنّى به في قصاصة الورق ، وتمنى أن يشاهدها فيه. قالت بعد تحيّة ألصباح :
ــ هل نمت جيّدا ؟
قال:
ــ لقد تأخرت في نومي لأني نمت متأخرا .
غادرت سليمة بعد إذنه . ظل ينصت لما يدور خلف الباب. كان يسمع الأم توجه البنت، بحديث هامس. كان الهمس يدور حوله و يدفع الفتاة أن تكون أكثر جرأة لمجاملته.
استثقلت الفتاة الأمر . فدخلت الأم وقالت :
ــ سيكون ألحمام جاهزاً . و تستطيع أن تغتسل و تغيّر ملابسك بهذه متى ما رغبت .
و إذ غادرت الأم على عجل ، وقفت سليمة أمامه باسمة ، كأن عمرها قد تراجع عن ليلة البارحة، وامتدّت يدها اليمنى لتزيح الستارة جانباً بأنامل بدت متعبة لكي ينغمرا معاً بضياء الشمس ثم يلوح ظلاّهما متعانقين . فيقول لها كأنه يرجوها :
ــ أترغبين أن تجلسي ؟
قالت باسمة :
ــ كيفما ترغب ؟
فتنحّى ليترك لها متسعاً ...
/10/20058 |