• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : شمس و ملاذ بارد .
                          • الكاتب : موسى غافل الشطري .

شمس و ملاذ بارد

لا يبدو على الفتاة ما ينبيء بوضوح عن أسباب ذلك الوجوم ، الذي ترك بصماته على ملامحها. لكن الأُم توعزه إلى القلق الذي هيمن على قلبها من مضي الأعوام وهي  قعيدة البيت . كان هذا ــ وكأن الأم تعالج الأمر بذلك ــ  ما يستدعيها دون إرادتها :أن تواصل إطلالتها المعتادة على الشارع المقفر. متطلعة عبره ، متسائلة وهي لا تجهل الأسباب :  أين ذهبت الناس ؟...

كم كان هذا الزقاق يوجع الرأس بصخبه وعراكه ؟ كم كانت الحياة ، و كأنها أول ما بدأت في المدينة نشأت هنا؟ فلماذا تقفر حركة الزقاق يوماً بعد يوم ؟

وها ان عينيها تعتادان على أبواب البيوت التي يكتنفها الصمت ، ولم يعد هناك في أطراف الليل ما كان يتزاحم من ضجيج أو قهقهات . ربما أصبح من غير المألوف أن تتردد ضحكة طائشة .

ما كانت الأم تعني هدفا بحد ذاته . و الآخرون تروّضوا على التعايش  مع هذه الحقيقة و استسلم لها الجميع دون أن يستغربها ممارسوها . سوى أولئك الذين ،  أذا وافاهم الحظ وعادوا من غياب هم بالتأكيد سيتفاجؤن بهذه الرتابة و الإذعان لتقبلها .

    بعد استدعاء جارها الشاب محمد من غرفته آنذاك ، الذي لم يمض على سكنه فيها.. زمن طويل  ، إذ قال له الذين اقتادوه :

ــ ستعود بعد عشر دقائق .

    لا تدري أم سليمة أين اختفى ؟ وأي رجال اصطحبوه  . فقد ختم الاستدعاء بهدوء . ثم ساد الصمت عن مصيره . وكأن نزلاء المنزل لم يروا ولم يسمعوا .

وحيث  طال غيابُه ، ألقت صاحبة المنزل بحاجياته خارجا .  بعد خلو الشارع،    فاصطحبت أم سليمة تلك الأشياء معها ، ألتي تطل غرفته قبالة شرفتها  و احتفظت بكتبه و فراشه و المذياع و حاجيات أُخر . وقد استخفّت الأم باستدعائه ، مقارنة بالنزيل الذي كان يشغل نفس الغرفة من قبل ، حيث اقتحموها و بعثروا حاجياته  ، واقتادوه إلى حيث لا يعلم أحد  .  وتوقعت خطأ : أن  محمداً ستكون قضيّته هيّنة و أنه سيعود .  بيد أن الآخرين في المنزل يدركون : أن الغيابين لا يختلفان ، فالاستدعاء بحد ذاته ليس هيّنا  . أما من الذي استدعى هذا و ذاك .. فلا حاجة لإجهاد الذهن بمثل هذه الأمور .

*       *       *

بعد غيابه ..  طالما تمعنت البنت بكتبه ، وصورته الملصقة بوثائقه الثبوتية ، و التي بدا فيها أحدث سنّا ، تناولت تلك القصاصة التي تركها بين طيّات كتاب بعنوان (ليل طويل) ، كان ينوي أن يُهديها الكتاب ، و فيه قصاصة ورق دبّجها من اجلها  . تلك القصاصة التي شغلت اهتمامها ،  و كررت قراءتها مرّات عديدة ، ولتستعيد التمعن بصورته كلما وجدت وقتاً ملائماً . مع هذا هو لا يغادر ذهنها . فكلماته العذبة و المؤلمة لقلبها توضح :انه كان ــ كما توقعت ــ يرصدها فعلاً ، عبر شقوق درفتي النافذة  .

كم عذّبتها تلك الذكر ى التي تتكرر على بالها ليلاً و نهاراً .

و قبيل رحيله المجهول ، دعته الام عمداً ذات ليلة  لاحتساء قدح من الشاي ، بقصد التعرف على اسمه  . ثم حاولت أن توحي إليه لكي يكون على حذر  . غير أنه تحاشى عمداً أن يكون قد أدرك ما غمزته من أمر .

لم يكن سوى لائذا عند  هذا الزقاق المنزوي ، حرصا منه أن يبتعد و يحافظ على حياته  لكي لا يكون مصيره  كحال  أخيه الذي  اختفى ،  دون أن يتجرّءوا على الاستفسار عنه  .

    ويوم أن وطأ هذه الغرفة لأول مرة ، فوجئ بحالتها المزرية من رطوبة و صليل ورائحة العتق ،  متطلعا إلى النافذة التي ينبغي عليه أن يزيح ما تراكم على حافتها من غبار  . كما عثر على أشياء متناثرة ، إستقرأ عبرها عن ساكنها السابق  . كانت أشياؤه حذاء  وأدوات حلاقة وصحف متناثرة ومرآة وفراش مرمى في الزاوية بغير اعتناء ووسادة قُذفت بعيداً وأشياء أخرى مبعثرة ،أوحت هذه الدلائل : إن أمرا عنيفا قد  حل هنا . ربما هذا مجرد حدس عكسته الأمور المحيطة  بكل شيء ، لكنه وارد .     هذا ما أوحى إليه قلبه . وما أثار  قلقه ، تلك النظرات الموحية من ساكني المنزل ، ألمستغربة  أو المتوجسة من  شيء مجهول  . والتي تتحاشاه ، تلك النظرات الجافلة المصوّبة نحوه  .  فقد استنتجها وعليه أن يدرك خفاياها . وأن يرتاب ليزداد حذرا واحترازا .

     هكذا يبدو محمد الذي هو في عقده الثاني و نيف . وهو حديث العــهد بهذا المسكن . و سليمة الخيّاطة أدركت ذلك بوضوح  . وآلة الخياطة التي انحرف عملها بعد غيابه الطويل ، من بذلات العرائس و الملابس الزاهية توقف صوتها المليء   بالنشاط المطرب و تحول إلى صوت خشن ثقيل الوقع . و انصرفت إلى خياطة الحقائب و الملابس السوداء .        

    في بادئ الأمر، عند سكنه.. كانت الأم هي التي أخبرتها بمفاجأة هذا النزيل . وراقبت المرأتان تلك النافذة ، بعد أن سادها الصمت  . حتى  أن  الشاب الجديد  تحاشى  أن  يشرّع  لوحتيها  التي سأمت س سأمتسأسسمت هذا الانكفاء .

    الأم و ابنتها راقبتا من شرفتهما : أن ما يحدث هو ما ينبئ عن حركة تتولد و تتوضح خلف النافذة .. وأن  ثمة صريرا يؤدي إلى تململ الدرفتين لكي يتزحزحا قليلا..كأنهما يغتصبان ذلك دون حق..وأن يتكشف بوضوح : أن النزيل الجديد ،يمْثل خلف ما يجري من حركة . ثم يزاح ما تراكم من الغبار الذي تجمّع هناك ، منذ زمن ثقل عبؤه عليها  . وجعل ذلك الصرير يتوجع و يطلق تأوّهاته ، ليُعلن عن   مخاض مألوم . أو أن النزيل الذي لم يمثل قبالتهما بعد، قد أقحم نفسه بالميل إلى  تجديد الهواء . الذي تكدس انحباسه  داخل الغرفة المهجورة . وهو فعلاً يتحسس بكون سكنه هنا ، يستدعيه أن يفعل شيئا أشبه بالشنيع ، بكونه ينوي أن يشرّع النافذة ، حتى يخفف من وطأة إحساسه ، الذي جعله يشعر بعبء ثقيل ، أو هكذا يتصور ، لكي يزيح معالم ألركود الذي زاد من توحش مكانه . وأن يروّض الفراغ المهيمن بوطأته . ثم يوفر ما هو ضروري من حاجيات  . وقد اختار على مضض  حاشية النافذة ، كونها  تصلح موقعا اضطرارياً ــ عند اقتضاء الحاجة ــ  للكتب و جهاز الراديو و المرآة وأدوات الحلاقة و المشط وفرشاة الأسنان.ثم يثبّت مصباحاً يتدلى من أعلى النافذة. وقد فوجئ كما فوجئت المرأتان عندما شرّع النافذة بالمثول وجها لوجه وتطلّعهم باهتمام لبعضهم . لكن سرعان ما أسدلت الفتاة ستارتها بينما مكثت الأ م في محلّها كأن المفاجأة مرحّبٌ فيها . في حين جفل الشاب و لاذ جانبا .

*            *            *

     أوحى انفراج الشرفة إلى شغف تلقائي لاستقبال إشراقة الشمس في كل صباح شتائي ، حتى ركونها إلى الخارج  و رحيلها رحيلا  أليفا  و بغير جفاء.

     في الشرفة  النابضة  بالحياة  و الدفء ، ثمة مرآة لخزان فائض عن الحاجة ، شغل الواجهة المقابلة للنافذة ، التي بدأت تتثاءب متواجدة بتحفز.  لكي تستدرج الشمس استدراجا ودودا و تستوعبها  . ثم تتدفق سطوعا ودفئاً ، كأنّها تتباهى بما أجزلته  . فينعكس ذلك باتجاه النافذة المغلقة على وجع البرد .في وقت عَذّبَها الصليل للدفء دون جدوى . فأمعن ذلك التدفق على اختراق حصن الصليل الرابض بعناد و جثا خلف الظلفتين  .

    أوحى إليه هذا كأنهما يشتركان بتأمّل ما يحدث حيث يتألّق المصباح وتتلاشى المسافة بينهما، وتولد الألفة بينه و بين حياة وديعة ، يقترب فيها الاطمئنان و دفء امرأة ،مثل هذه الفتاة المؤطرة بكل ما يحن إليه و يتمنّاه ،والتي يطل الصباح وقد فاضت شرفتها بسطوع الشمس  . كان انبهار الشمس يستدعي من فتاة دأبت أن تحاكي أيّامها بضغط رقيق على لوحة تحريك ماكنة الخياطة باستسلام كامل لإلفة محببة مع هذا الفيض من الضياء  . فأزاحت الستارة لينسكب دفق الشمس على جدائلها و جفنيها و جيدها  . . و اعتادت شفتاها تزامنا مع أُغنية تسربت عبر النافذة  من  حاكي  النزيل  ، حابية على  تلك  الشفتين  اللتين لا يبدو  أن أرهقهما عشير ، أو أذبل اكتنازهما  . فما زالتا تتآخيان مع زغب نسوي رقيق ، وصوت مديني رقيق  .فتنصرف ألعينان إلى تينك الظلفتين وتظلان ترمقان انغلاقهما بإمعان. وتردد الشفتان بانسجام مع أغنية هي بالكاد تسمع  .

    تمنّت الفتاة أن يتحرر الصوت من كابحه ، لكنه تردد بوضوح ، فتداعت الأغنية عبر حنجرة مطربها كأنه يستجير  . كانت الفتاة توقف عجلة الخياطة وتنصرف إلى تلقي ما انبعث بوضوح فتصاعدت الأغنية ، وتدفقت الشمس بوهج غير اعتياد ي ، كما لو أنّها قد أغراها غزل الأغنية ، فبيتت أمرا مع مرآة الشرفة لتجمع كل جهدها و تنعكس على نحو أخرق ، باتجاه النافذة التي صيّرها الصمت و البرد أكثر توحشا  .

    تستيقظ النافذة بانبعاث صريرها لكي تنفرج   قليلا و  تنثال الأشعة المكتسبة فوق السرير  الناقع بالبرد ، وقد اعتاد محمد أن يعيش وحيدا مع صقيع الفراش الذي لم تشرق عليه شمس من تلقاء ذاتها  .

    وكان انعكاسها بمرآة لا تفي بشيء، فاعتاد على غطاء هو أشبه بقبو يلوذ فيه   ،معتادا أن يتكيّف مع أجواء مسكنه. ثم بعد أن تلين عظامه و أعصابه ، يشرع باجترار ذكرياته المندثرة ، المليئة بالإخفاق من قدرته على الاقتران بجسد آخر . فليله فارسه البرد وسلاحه المهيمن الصمت  . ليس سوى ذلك الانعكاس الذي أخفق مما تجود فيه الشرفة من طيف شمس معكوس عبر المرآة .في صباح .. أغدق على  شرفة الفتاة بالارتخاء ، حيث تتسعّر طاقة النشاط بما ينبعث من صخب آلة الخياطة وانشغالها بحرارة العمل  . يقتبس الشاب من تلك الحرارة الدائبة ليشغل باله بما يربطه مع الدفء المستعار الكاذب الذي لا يتحسس نشاطه على جسده ، سوى ما يسمع وما يرى دون أي حال أفضل  .

    كان وجهه  يتجمد عبر الليل ، ويوجع البرد أصابع قدميه ، فينبعث لديه ، بكون كل هذا الإحساس، هو مجرد خداع لا يجدي  . فيتزحزح لتمتد يده إلى زر النور و يطفئه ، ثم يغلق الحاكي و يدثر رأسه لتكتمل الإجابة بما يقنع الفتاة : أن كل شيء قد انطوى و بهت  . ويبدأ الكرى يثقل جفونها  .

     ما يخفف من وحشة الشاب :أن هناك في المساء مصباحاً يتألّق على جبهة شرفتها يغتسل بالمطر ويقتل الشعور لديه بالظلام الذي خلّفته الحرب و تعاقب فواجع الموت.وكان يسلّيه ذلك التألق المشاكس لهمي المطر ، فيكتسب المقدرة على التألق ، وإبداء الشعور بتماثل الدفء وسط الانهمار  .

    يرقب ما يتأجج من انثيالات تثير لديه شبقا من الشوق للحياة الهانئة الرافلة فيها الشرفة  . وما تثيره حركة آلة الخياطة من مشاعر مذهلة  . كذلك شعر الفتاة التي أسرفت بتركه يتخلّى عن عفّته ، فيفعل الشغل فعلته فيه ، ويفضح كذب تكاسله ، حين انسيابه بلا مبالاة على كتفيها ، و يدان ورديّتان تشربتا بسمرة أرهفت لونها .

     أطل عليه كل ذلك عبر شقوق ألنافذة، وقد تداعت تلك الأغنية التي تذكره بقلب يتوجع .

 

*          *        *

 

في كل ليلة و صباح تمكث الأم تتحرى هي وابنتها ، لعلّ تلك الأغنية تعيد تسللها من النافذة وتُلطّف الصمت أمام الشرفة الناضحة  بالحياة  . فطالما أقنعت نفسها بأن ما يتراقص من ضوء يرتجف خلف النافذة ، هو ناشئ من حركته المقرورة  . راقبت سليمة هذا وهي تضغط على دوّاســــة الخياطة  .

   تواظب على متابعة ما يجري و هي تحصي ما يتذبذب من ضوء مصباح ملاذه  . دائبة على مواصلة مراقبتها عبر مرآة الداخل ، التي تعامدت لتحتضن بكل شوق فضاء نافذته  فتوحي كأنها تخترق  جثوم البرد هناك .  وتحفّزه أن يجاهر بتلك الأغنية لتشد الخيط الذي يربطه مع ابتهاجها و دلالها .

قالت الأم لفتاتها:

 ــ أنها أغنية حزينة  . أنها تثير الحنين  . أعجب كيف يتحمل هذا الشاب الرهيف كل هذا الصليل .أنا لا أدري لماذا يقضي شتاءه وحيداً و بدون دفْ ،  كان يجدر فيه أن يــجد حلاً لذلك . 

  فانبعث ما يتداعى في ذهن الفتاة : إنها تتمنى لو أن الأمور بيدها لأغدقت من شمسها على مخدعه ، بما يكفي أن يكون فراشه و غطاؤه دافئين . لكن .. حينما تعلو الشمس لا تتعامد إلاّ بما تفيض فيه شرفتها . و تتخطى نافذته ، دون أن تطيف سوى شعاع ضنين من ثرائها  . وكان الدفء الذي ترفل فيه طيلة الضحى يستدعيها أن تخفف مما ترتديه من ثياب ، وتنشغل قدماها ، وتستلقي جدائلها على قطعة الخياط ، وتروح عيناها تتربصان بما يتوقع  من حركة خلف نافذته  .ٍ

     وعندما يقترب الليل ، ترصد الفتاة  انبعاث ضياء الغرفة أو صوت الحاكي المنبعث منها  ،  يمتلئ ذهنها بما يتخيّل لها ،كونه يلصق وجهه على أحدى فجوات لوحي النافذة ، لاختلاس النظر إلى ذلك العالم الصغير الذي يبهره ، ويستدعي أن تتألق فيه هي . فتتحرى  عما تتوقعه و تتأمله عبر مرآة تتشوّف فيها العرائس و السيدات اللواتي يتعاملن معها .حيث تصوغ لهن ما يبهر رجالهن  .

     إنها مسافة ضيّقة جدا ،تكاد أن تحصي أنفاسه لقربها . و ربما يكاد هو أن يشاهد النمش من على جيدها  . بل أنها توهم نفسها: أن تلك الأنفاس  تقترب  من  جيدها. و أن لمسات  من أصابعه الناقعة بالبرد توجعها .

تأملت باهتمام ما أنشأته مخيّلتها، فربما  هو يرقب مفاتن انحناءتها، ومواظبتها على تحريك آلة الخياطة  . وراقبت .. ان  تراقصاً لحركته  . ربما هي آخر استيقاظة  ليودعها و يطفئ النور ،وتصمت الأغنية .وتساءلت : هل أن الظلام يوفر له فرصة أكثر أمان ليرقبها بوضوح؟

 ربما يؤكد ذلك  من أن النــــــافذة تأرجحت درفتاها ، و أن أذنيها التقطتا ما يشبه ســــحب المقبض .لكن هذا ما خشيت أن لا يكون سوى حدس ليس إلا .ّفهناك مُتّسع وقت تطمع فيه .

كانت تفرغ توّا من خياطة بذلة عرس كاملة   هيّأت نفسها و ارتدتها ، مثلت أمام المرآة ، بدت البذلة متوائمة مع قوامها  .وبعد طول تأمل رجلت شعرها ، ثم أرخت الخمار على وجهها ، فتراءى لها تألّقه  . وقد أغدق عليها بانطباع : أنها أحدث عمرا  .و بأنها في أوانها لتقبل حياة زوجية ملحة  . وتخيّلت عبر المرآة : أن يــدا تمتد وترفع الخمار  .

    تحرّى نظرها عبر المرآة ، حيث تترصدها الــنافذة، أمام عتمة خجولة شفافة ، يتداعى من خلالها : أنها رصدت بوضوح تلك العتمة  ،  كما لو كان ينجلي ما تخفيه عن الشاب من حركة لما تمارسه  . وقد استدعى منها أن تتحفظ وتتصرف بأكثر رقة وكياسة ، فأسبلت جفونها و استدارت إلى الخلف لتمعن نظرها متحرية ، ثاقبة تلك العتمة لإصرار حدسها : إن النافذة تخفي خلفها  ما تخفيه . وأوجع قلبها : بكون محمد قد تسرب برد الليل الجاثم على عظامه ، وهو يتصالب هناك ، ليرقب ما يتدفق من شباب على جسدها وامتثاله لحياة زوجية أجهرت بالكامل عبر ليلة حري بها ، أن تسرف بانغمار بالغ ، لكي يتأرجح ليلها و يستظل ببهاء هي منشغلة عنه  .فانثال  ملحاحا كما لو كان حريا بتداعياته ليشغل الليل و النافذة   . و لكي يتحوّل هذا الظلام الصامت قبل هذا.. إلى فرصة تستدعي الانغمار فيه ، بذوبان زوجي تتدفق الحياة المتوهجة عبر صمته ، فيثار لكي يتململ و يرمش باهداب سوداء دافئة  .

*   *   *

                 عقد و نيف تكدرت عبره و جوه ورسمت الأظافر فيه  على الخدود ملامح سمراء  للخدوش الدامية. وانكماش الشفتين إلى أسفل، طالما ينعكس الإحساس لدى العجوز، التي تصالبت ذراعاها على صدرها على نحو ينث يأسا و كمدا . تطلعت عبر الزقاق.. كلما خاطت سليمة ثوبا اسود عنى لها ذلك بفقدان أحد أبناء الزقاق.

 تطلعت الأم عبر الطريق  التي كادت أن تقفر، دون هدف واضح .ومن بعيد لا ح للمرأة التي سأمت الركود ،  الرجل الذي  ينعطف عبر بداية الزقاق.وقد بدت لها ملامح نقلاته تنزّ كهولة  ،حفّزت ذاكرتها:أن تتعرّف على صاحبها. كان الرجل يقترب كأنه يبحث عن دليل . هل في مجيئه خبر محزن ؟ فيقترب متهيبا ولكنه جادّ في بحثه .

 

*      *      *

 

 نلك الأيام التي غيّبت تطلع محمد لعالم الهدوء و السكينة  . وحرمته من حلم لذيذ استحوذ على لياليه  ، مجرد حلم ،الذي أفل عنه وبات شاغله: أن تحلّ بين ذراعيه . لولا تلك ألليلة التي غيّبته وحلّ نزيلا لدى هذا الارتهان، فبقي يجتر ذكرياتها التي نقصت سمفونيتها  . ولم يبق منها سوى ذلك الشغف الجنوني في العودة سليما، ليمارس عالمه المنتزع   .حتى لو كان  بقـــايا أطلال مما افتقده ، من اكتمال نعمة الحب و تكوين العائلة. اُمنية : أن يعود إلى أهله و يتفقد مصيرهم . و  يعرج على شقة سليمة التي تذكره بتلك الليلة عندما استدعته الأم لتناول ألشاي و (الكليجه )التي صنعته أنامل سليمة ، لقاءات الأم عند إيابه إلى مسكنه آنذاك  . كان يدرك ــ أو يأمل ــ أن الأمور تسير في طريق يستكمل فيه حلمه السعيد  . وطيلة غيابه ، شغلت الفتاة جزءاً مهما من أمانيه ، لكي ينطلق إلى العالم الواسع الذي يتحرّق إليه ، طيلة زجّه هناك ، أن يشبع شوقه لوالدته ووالده ــ اللذان ربما افتقدا مصيره ــ و يفاتحهما بزواجه منها  .أشياء بقيت تشغل باله . و كوّن عبرها عالماً متكاملاً من الآمال الزاهية الألوان .  في عالمه الصغير المغلق هناك. عالـــــــــــم الغزوات الناقصة الإنجاز  .

كلما تطل على باله تلك الليالي المفتقده ، فإنه يستدرج تلك اللحظات عن مجرى حياة كانت صاخبة  مضاءة على مسافة هيّنه  : هي نافذة يطل من خلالها على شرفة لوّعته وأوجعته من سهر اغتال اكتمالها عامل الخجل . فبقي لا يملك سوى ليلة حفل الشاي. وكلمات مقتضبة من سلام و انتظارات الأم ، و بلاغات العيون و همهمة الشفتين و شفرات القلب ، في جلسة جرت وجهاً لوجه . ثم..مراقبة ذلك الطيف من خلف الستارة  . ما أوصل قلبه إلى عزف منفرد لمعظم لياليه و صباحاته  المبكرة  .

 

*       *      *

تمعنت العجوز بنقلاتٍ  يخطوها رجلٌ تجاوز العقد الثالث ،  عبر الزقاق الذي بات كأنه غير مـألوف  و قد اندثرت معالمه السابقة بالكامل .

لاحت له  نافذة الغرفة التي كان يقطنها وقد تدلّت منها لافتة تعلمه ، أن شاغلها الحالي صانع حقائب سفر . تابعت العجوز تطلعه للشرفة المشغولة بالأشياء البالية ، وبان ذهوله كأنه صعق و استلب حلنه.                                                                                                                                                                        و اختفى ذلك الرونق   والليالي المنوّرة التي اصطادت قلبه وتساءل :

 ــ  ما هذه القطع السوداء المقيتة المتدلية من شرفتها و ماذا يعني ذلك؟

 تراجعت العجوز إلى الداخل لتطل معها فجأة سليمة التي لاح على ملامحها الذبول  . وقد اختفت منها رقّة الوجه وارتسمت محلّها غضون سافرة. فهمست مع نفسها و قلبها يضطرب :

ـ إنه هو

لاحظ أن طيف ابتسامة تشق طريقها على محيّاها الذي امتقع أكثر .ربّما لوقع المفاجأة .هبطت العجوز لملاقاته ،و لتسأله وهو يقترب :

 ــ ألست محمدا؟

 لم يكن أقل ارتباكا ،ولا امتقاعا  . قبلته العجوز و سحبته معها إلى البيت  .كانت الفتاة التي تسلق إليها في الأعلى قد حيّته و يدها على فمها كأنّها تخفي امتقاعها  .             قالت الأم مواسية :

ــ ما هذا الشيب الذي لا يناسب عمرك ؟

 هذا ما كان  ..أنه يأسف لما كان، فيفاجئ الفتاة بهذه الحال ، التي هي حلمه الذي لا يجارى .هي شاغله في السجن، مثل أمله في العودة إلى أهله .

قالت الأم :

ــ ما الذي ذكّرك فـــــينا ؟

قال بكمد واضح وهو برقب ابتسامة الفتاة المليئة بالعتاب:

 ــ وهل نسيتكما يوما ؟ هاأنتما تريان أني عدت من ساحات الموت. عندما عدت إلى مدينتي ، لم أجد عائلتي . بل وجدت عائلة أخرى تحل محلّها . وما قاله الجيران: أن عائلتي قد غُيّبت ، لكن إلى أين ؟ لا أحد يعلم . وقد حذّرني أناس طيّبون : أن لا أمكث في مدينتي . وقد علمت أن الدار قد بيعت .

 بعد أن تهامست الأم مع ابنتها قالت وهي تتلافى أن تخوض فيما يُؤلم :

 ــ حسنا يا ولدي .. باستطاعتك أن تعتبرنا أهلك . غرفتك شغلت كما ترى . وحاجياتك محفوظة عندنا . فإذا رغبت لدينا غرفة يمكنك أن تشغلها .

  أحس هو بالارتياح ،وبدا يميل إلى الهدوء والتروّي . فالعقبة الكأداء قد زالت ، والفتاة التي بدت أناملها خشنة ،جراء نوع العمل الجديد ، قد ألقت بذراعيها في حضنها كأنّها قد تحررت من عبْ ثقيل أرهق فؤادها وبان عليها طيف من الارتواء  .

 

*        *       *

 بعد العشاء الذي جرى الاعتناء قيه ،لكونه قد حلّ بعد غياب طويل ،يلفه الغموض و اليأس ،كان يبدو مجهدا . وفضّل أن لا يذكر لهما ما لاقاه من عذاب و آلام ، والأعوام التي أرهقته في اعتقاله دون ذنب ،أنه بحاجة أن يستريح من همومه تلك . وان يعرف ما يؤول له مصيره  .أيتاح له فعلا مجال للمكوث قريبا منها؟

وجد سريره مهيئا في الغرفة ألتي جرت أضاءتها  . وحاجياته  وكتبه التي رتّبتها الفتاة بعناية على منضدة صغيرة  . فوجئ بكل هذا . ثم بدأ يبحث عن الكتاب الذي طوى بين صفحاته تلك القصاصة فلم يجدها  . في الصباح استيقظ متأخرا  . فهو لم يبكر في نومه  . هكذا اعتاد أذا تغيّر مكانه  .لاحت له الشرفة تغمرها الشمس ،وقد أزيلت منها الأشياء  التي  تكدّست  بإهمال . عاد لها رونقها الذي  طالما شغل  ذاكرته  بالأحلام الجميلة  .

 فاجأته سليمة بثوب شبيه بالذي تغنّى به في قصاصة الورق ، وتمنى أن يشاهدها فيه.  قالت بعد تحيّة ألصباح :
 ــ هل نمت جيّدا ؟

 قال:

ــ لقد تأخرت في نومي لأني نمت متأخرا .

 غادرت سليمة بعد إذنه . ظل ينصت لما يدور خلف الباب. كان يسمع الأم توجه البنت، بحديث هامس. كان الهمس يدور حوله و يدفع الفتاة أن تكون أكثر جرأة لمجاملته.

 استثقلت الفتاة الأمر . فدخلت الأم وقالت :

ــ سيكون ألحمام جاهزاً . و تستطيع أن تغتسل و تغيّر ملابسك بهذه متى ما رغبت .

و إذ غادرت الأم على عجل ، وقفت سليمة أمامه باسمة ، كأن عمرها قد تراجع عن ليلة البارحة، وامتدّت يدها اليمنى لتزيح الستارة جانباً بأنامل بدت متعبة لكي ينغمرا معاً بضياء الشمس ثم يلوح ظلاّهما متعانقين . فيقول لها كأنه يرجوها :
 ــ أترغبين أن تجلسي ؟
 قالت باسمة :
ــ كيفما ترغب ؟

 فتنحّى ليترك لها متسعاً ...
/10/20058




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=11696
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 11 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19