لأجل أن يتّضح الحال في هذه المسألة التي استغل الحديثَ عنها بعضُ المعوّقين فكرياً ، لا بدّ أن نتحدّثَ عن بعض الأُسس العامّة توطئةً لإدراك الحقيقة في هذه المسألة ..
🔰 المبدأ الأساس للتشريعات
هل إنّ التشريعات - السماويّة أو الأرضيّة - حين تقنين الأحكام ، تنظر إلى المصالح والمفاسد ، أو إلى المنافع والمضار ؟!
و #بعبارةٍ_أُخرى
حينما يريد المشرّع أن يسنَّ حكماً أو قانوناً ، فلا بدّ أنْ يضع نصبَ عينيه أساساً ليبني عليه تلك الأحكام ويجعله المدار لتشريعاته .
وعليه ... فهل الأساس للتشريعات هو المصلحة والمفسدة ؟ فما كان فيه مصلحة يُجيزه ، وإن كانَ فيه ضررٌ على الفرد ( كالزكاة ) ، وما كان فيه مفسدة يُحرّمه ، وإن كان فيه نفعٌ للفرد ( كالربا ) .
أو أنّ الأساس هو النفع والضرر ؟ فما كان فيه منفعة ... أجازه ، وما كان فيه ضررٌ ... حرّمهُ !!
و #الصحيح ... إنّ الأساس في التشريعات والقوانين هو ملاحظة المصلحة ، للحكم بالجواز (وإن كان هناك ضرر) و ملاحظة المفسدة للحكم بالتحريم ( وإن كان هناك نفع ) .
لذلك أوجب الله تعالى الزكاة لما فيها من مصلحة المجتمع وإن كان فيها ضررٌ ظاهريٌ وهو نقصان المال .
وحرّم الربا لما فيه من المفسدة على المجتمع وإن كان فيه نفعُ زيادةِ المال(١)
إذا اتضح ما تقدّم ... سيتّضح معه أمرٌ آخر ، وهو إنَّ الأحكام والقوانين جاءت لملاحظة مصلحة المجموع ( المجتمع ) لا لملاحظة مصلحة الجميع (كل فرد فرد) ، إذ لا يمكن لأي قانون أن يراعي مصلحة كل فردٍ فرد ، لا لقصور في المشرّع ، بل لأنّ الطبائع والظروف للأفراد متفاوتة ومختلفة .
و #من_هنا
فإنّ الحكم بصحة عقد تزويج الصغيرة - مع ملاحظة الحرص الفطري للولي على ابنته ، وتحكيم عقله - يكون بنظر الشرع بمصلحة النوع ، وإنْ تضرّرت فلانة أو فلانة بسوء تصرّف الولي ، أو لظرفها الخاص .
🔰 قصور العقل البشري عن إدراك المبادئ الحقيقية للأحكام الشرعية
وليكن معلوماً أنّ الأحكام الشرعية ( الوجوب والحرمة والاستحباب .. الخ ) لم تأتِ عبثاً ، بل هي ناتجة عن عللٍ جعلت من الواجب واجباً ومن الحرام حراماً وهكذا .. وتسمّى هذه العلل ب ( مبادئ الحكم ) .
والمبادئ الحقيقيّة للأحكام الشرعة غالباً ما تكون مجهولة لدى غير المعصوم ، وما ورد في علل الشرائع لا يعدو كونه من حِكَم الأحكام لا علَلِها الحقيقيّة .
فنحن نجهل العلّة الحقيقية لكون عدد رمي الجمار في الحج سبع حصيات لا أكثر ولا أقل ، ومع كون هذا الحكم بسيطاً في نظر البعض ، فإننا نجهل علّته ، فكيف بالأحكام الكبرى ؟!
والنتيجة ، إنّ علل (مبادئ) الأحكام الشرعية التي على أساسها كان الواجب واجباً والحرام حراماً .. وهكذا .. مجهولة لدى المكلّفين .
#وعليه ..
فحين تجهل العلّة الحقيقية التي دعت الشرع إلى الحكم بجواز عقد الزواج من الصغيرة هذا لا يعني عدم حقّانيّة هذا الحكم ، بل يعني قصور عقلك عن إدراك العلل .
🔰 الإباحة تقتضي إيكال تحديد مصلحة البنت لوليّها العاقل
لا يعني - أبداً - صحّة الزواج من الصغيرة إلزامَ الولي بأنْ يزوّج ابنته في هذه السّن ، بل يعني أنّ الشرع قد أعطى للولي العاقل مساحةً واسعة من الحريّة يمكنه أنْ يفكّرَ في مصلحتها ، فإن وجدَ من المصلحة عدم التزويج ، فهذا شأنه ولم يكن معاتَباً من قِبَلِ الشارع .
وعليه .. فتكون الكرة في ملعب الولي العاقل في هذه الحالة .
ثم .. يشترط في صحّة التزويج من قِبَلِ الولي عدم المفسدة ، فلو كانت هناك مفسدة بالنسبة للصغيرة فسوف يكون العقدُ فضولياً .. المنهاج ج٣ م٥٩ السيد السيستاني .
🔰 مستند الفقهاء في الحكم بصحة زواج الصغيرة
لم يكن الفقهاء قد جاءوا بجواز زواج الصغيرة من وحي أفكارهم ، بل هو حكمٌ قرآني وارد في كتاب الله العزيز ، فإن القرآن حين بيّن عدّة الطلاق لأصناف النساء ، ذكر عدّة الصغيرة التي لم يطرأ عليها الحيض بعدُ (واللائي لم يحضنَ) قال عزّ اسمه ( وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ) الطلاق ٤ وهذا يعني صحّة زواجها ، لذلك تسمّى مطلّقة عند الإنفصال وعليها أن تعتدّ .
وهو حكم صادرُ عن أهل البيت (ع) أيضاً وقد تصل الروايات التي وردت في هذا الباب إلى حد التواتر ، ومن ذلك ما ورد في الوسائل ج ٢٠ باب ٤٥ من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، فراجع .
🔰 ثبوت صدور الحكم من المعصوم يقتضي التسليم من المسلم
وبعد أن عرفنا من خلال ما تقدّم ، كون الحكم بجواز الزواج من الصغيرة صادراً عن المعصوم ، فقد وجب التسليم له عملاً بقوله تعالى ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء ٦٥
فمن يعترض على الأحكام الثابتة عن المعصوم بنصوص ثابتةٍ حُجّيتُها فإنه يؤدي إلى الخلل في إيمانه حسب ما جاء في الآية الكريمة .
🔰 صحة عقد النكاح لا يقتضي جواز المقاربة مطلقاً
قد يخلط البعض بين صحة عقد الزواج وبين جواز الوطئ !
والصحيح هو :
إذا كانت البنت لم تُكمل تسع سنين ، فلا يجوز وطئُها شرعاً .
وأما من تجاوزت هذه السن ، فإن كان الوطئ يسبب لها ضرراً ، فعلى القاعدة ، وأنه لا يجوز إيقاع الضرر بالآخر ، وإن لم يسبب ضرراً معتدّاً به ، فهي زوجته ، وهذا تابع لبُنية الزوجة الجسميّة ، بعد إذن الولي بتزويجها الذي افترضناه عاقلاً ومهتماً بمصلحة ابنته .
🔰 هذا لمن آمن بالغَيْب .. ولا شأن لنا بالمهرّجين
لعلّّ هذا المنطق العلمي الذي سقنا الكلام وفقَه لا ينسجم مع ذائقة بعض المهرّجين الذين ادّعوا - كذباً - أنّ الفقهاء أجازوا الاستمتاع بالبنت ذات الشهر !
فيا هذا ... هل هناك عاقل يرى في ذات الشهر استمتاعاً ؟ حتى يُناقَش في مرحلة الجواز وعدمه ؟! .. هل مُسخ عقلُك إلى حدٍ مابات يميّز بين الموضوعات ؟ وأنّى لعقلك الفكرة ولم يُمهله مُذهبُه ؟!
هذا والحمد لله أولاً وخراً .. وصلى الله على محمد وعلى آله الطاهرين .
________________________
١) ذكر هذا المبحث الشيخ الآخوند (رض) في كفاية الأصول في التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة . ص ٣٤٨ .
توضيح / المقصود بالمنفعة والضرر والمصلحة والمفسدة :
قد يتناول المريض دواءً مركّزاً قد ترتفع درجة حرارته ليوم أو يومين جرّاء تناول هذا الدواء ، ولكنّه سيشفيه من مرضٍ عُضال .
فيقال : إنّ الدواء وإن أضرّ به نسبياً ولكنّه كان بمصلحته .
وقد يظلم الإنسان فيحصل على منافع مادية نتيجةً لظلمه ، ولكنّه يُعدّ مفسداً في نظر العقلاء .
وبهذا يتبيّن أنّ المصلحة تختلف عن المنفعة . والمفسدة تختلف عن الضرر .
|