• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : رسول الله صلى الله عليه وآله اسوة الصابرين (١) .
                          • الكاتب : السيد محمد رضا شرف الدين .

رسول الله صلى الله عليه وآله اسوة الصابرين (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

المرحلة المكّيّة

شمس تتوهج مكرمة وتشع جلالاً، وبدر يتلألأ نبلاً وجمالاً، لم يسبق لأم القرى أن أحنت هامها وبخعت بأكابرها وأصاغرها لسواه، مجمع نيرين نسبًا وحسبًا، يُمَثّلُ الذروةَ في سلالةٍ حازت منتهى الهيبةِ لا لبطشٍ قاهر، وغاية السؤدد لا لثروةٍ كاثِرةٍ، استجمع المحامد كلّها فكان دون الخليقة مُحَمَّدًا.

في مجتمع جاهليٍّ قَبَليٍّ يُدمِنُ الرذيلةَ ويمتهنُ الغارات ويتخذُ من الصحراء طبيعتها الخشنة القاحلة، روّض طغيانها هذا الفتى اليتيمُ بمكارم أخلاقه ومحاسن صفاته؛ فما تمالكت ألسنتهم أن تنطلق بنبز -وهم المتقنون لفن التنابز-، بل لهجت بمدحته مُلقّبَةً إيّاه بالصادق الأمين، تحتكم إليه في مهماتها، وتلوذ بحكمته عند مُلمّاتها.

حتى إذا بلغ أشُدَّهُ وبلغ أربعين سنة جاءهم بخير الدنيا وسعادة الآخرة، فانقلبت عليه على حين غرّة تَسِمَه بالجنون والشعر تارة، وتَصِمَه بالكذب والسحر تارة أخرى.

لقد جاءهم بسيادة المعمورة وريادة الأمم وقدّم لهم أسُسَ حضارة لا تُبارى، فقابلوه بألسنة حداد ينهشونه لينثني عما أراد.

وإذا بمحمد الصادق الأمين في أمسِهم يوصف -معاذ الله وحاشا لرسوله (صلى لله عليه وآله)- بالمذمم الكذاب الأشر الساحر في يومهم، وقديمًا قيل:

جراحات السنان لها التيام
 

 

ولا يلتام ما جرح اللسان
 

ولم تتوقف الوقاحة والإمعان بالإيذاء منهم تجاهه عند الحرب الإعلامية ومحاولة الاغتيال الاجتماعي، بل تصاعدت لتصل إلى حدِّ الإهانات الماديّة المتكررة من إلقاء العَذَرَة بباب داره، ونثر الروث والقذارات على شخصه الشريف، ووضع الأشواك في طريقه، بل لامست مرحلة العنف الجسدي، والحصار الاقتصادي والاجتماعي، ولمَّا انتقل حامي حماه وكفيله وناصره سيدنا أبو طالب صلوات الله عليه إلى الملأ الأعلى بلغ الأمر بالقوم إلى الضرب والإدماء بل المباشرة بالتصفية الجسدية.

فكيف واجه قومه؟

وبأيّ شيء بادلهم سوء صنيعهم وشنيع فعالهم؟

إنَّ في المرويِّ عن أميرِ البيانِ لغنىً عن كلِّ بيانٍ، واختزالاً لمطولاتِ ما جاءَ في صحائفِ التاريخِ ومُتونِ السِّيَرِ، مُختَصَرٌ مِنَ المقالِ يعكسُ لنا المشهدَ برُمَّته حيث قال:

(..النبي (صلى لله عليه وآله) صَبَرَ في ذاتِ اللهِ وأعذَرَ قومَه، إذ كُذِّبَ وشُرِّدَ وحُصِبَ بالحصاةِ وعَلاهُ أبو جهلٍ بِسَلا شاةٍ فأوحى الله إلى جاجائيل مَلَكِ الجبالِ أنْ شُقَّ الجبالَ وانتهِ إلى أمرِ مُحمَّدٍ، فأتاه فقال له: قد أُُمِرتُ لك بالطاعة فإنْ أمَرْتَ أطبقتُ عليهمُ الجبالَ فأهلكتُهُم بها، قال: إنّما بُعِثْتُ رحمةً، اللهم اهدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون)([14]).

ولما أَذِن الله له أن يخرج من مكة بعد تضييق قريش الخناق عليه إثر وفاة عمه، وافى الطائف فأقام فيها عشرة أيام، وقيل: شهرًا، لا يدع من أشرافهم أحدًا إلا جاءه، وكَلَّمَه، فلم يجيبوه، وخافوا على أحداثهم؛ فطلبوا منه أن يخرج عنهم، وأغروا به سفهاءهم؛ فجلسوا لـه في الطريق صَفين يرمونـه بالحجارة، وعلي (عليه السلام) يدافع عنه، حتى شُجَّ في رأسه، أو أنَّ الذي شُجَّ في رأسه هو زيد بن حارثة، فما فرغ من أرضهم إلا وقدماه تشخب دمًا، فعمد لحائط من كرومهم، وجلس مكروبًا، فقال:

(اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّةَ حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملَّكته أمري؟!

إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك) ([15]).

كانوا يكيلون له ما لا يطاق من مبرزات العداء ويستشرسون بكل ما أوتوا من قوة ويبطنون له ما هو أعظم حقدًا عليه لا لذنب أو جريرة وإنما لأنه جاءهم بنسخة الشفاء التي فيها نجاتهم من كل داء، وكان كلما ارتفع لديهم منسوب حدَّة الضغائن واشتد بأس الحرب الضروس عليه عاقلها منه ما يفوقها من إخلاص وإشفاق يورثه حسرات حارقة في قلبه الأقدس تتأجج حرصًا عليهم حتى نزل قوله تعالى مخففًا عنه:

 {..فإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}([16]).

فلم يسجل له التاريخ في مرحلته المكية مَطلَعًا وختامًا وما بينهما مبادلةً بالمثل عنفًا يواجه به عنفهم وردًّا يسانخ فعلهم، بل كان مصداقًا لقول الشاعر: (أريد حياته ويريد قتلي..)([17]).

ولما تحوّل إلى المدينة المنورة وأسس فيها دولته المباركة، ولم يسلم من أذى قريش والأحزاب، إذ أقحموه في معارك دفاعية أودت بِثُلَّة من أحبته وأرحامه، والخلص من أصحابه، وكادت أن تودي بحياته؛ حيث كان سعيهم الدؤوبُ مُنصَبًّا على تحقيق هذا الهدف لإنهاء دعوته لم يَحِد -بأبي هو و أمي- عن سيرته تلك، بل كان يتّخذ الحرب وسيلة دفاعية لا يصار إليها إلا عند الضرورة القصوى، خالية عن الغضب الشخصيّ ودفائنِ الأحقاد.

 وبحسبنا من ذلك عيّنتان كافيتان لإثبات مُدَّعانا:

الأولى: في أُحُد وما أدراك ما أُحد، بعد أن استشهد عمه أسد الله وأسد رسوله الحمزة بن عبد المطلب (عليه السلام) اغتيالاً في قلب المعركة بإيعاز آكلة الأكباد، وسقط جملة من خاصته وحامّته مضرجين بسيف الشرك والغدر، وولى معظم الصحابة الأدبار فلم يثبت إلا نفر يسير ممن امتحن الله قلوبهم للإيمان صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبلغ منه الأذى كل مبلغ حتى كاد يزين ركب الشهداء لحاقًا بالرفيق الأعلى، نظر إليه بعض من معه -وقد جلَّلت الدماء محيّاه الأزهر- قائلاً: يا نبيّ الله، أُدعُ عليهم!

فأجاب (صلى لله عليه وآله) بذات الدعاء الذي كان يدعو به قبل هجرته: (اللهمّ اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون)([18]).

والعينة الأخرى يوم فتح مكة:

مكة التي كذَّبه أهلها، وآذوه، وطردوه، وحَمَّلوا ذاكرتَهُ أفظع الصور وأقسى المشاهد، وتتبعوه إلى دار هجرته عازمين على مداهمة عاصمته وإفناء أمره، جيّشوا الجيوش ضده، واستألبوا الأحزاب عليه، ثم عاهدوه فنكثوا عهده، فلما علا بكعبه فوق هامهم، وأرغم الله بالذل أنوفهم، وهم حانقون يعضّون عليه الأنامل من الغيظ، ولولا أن جُذّت أيديهم لأنزلوا به النوازل، نراه وقد جاس ديارهم يهتف بنداء الرحمة والغفران والأمن والأمان: (اليوم يوم المرحمة)([19]).

وإذ قد ظفر يومها بهم عفا وصفح عنهم، ولم يتعدَّ قوله لهم أن اذهبوا فأنتم الطلقاء..

وقد أطلعه الله على سرائرهم وما يختلج في ضمائرهم فحدَّثهم به وأبداه لهم: يا فلان قد قلت في نفسك كذا ، ويا فلان قلت في نفسك كذا.

وأرى أنَّ أبا سفيان أوجس في نفسه خيفة أن يفتضح أمره كما كان من غيره فاستبق الحدث وقال: أنت تعلم أني لم أقل شيئًا.

فعاد النبي إلى دعائه المعهود: (اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعملون)([20]).
((يتبع)) إن شاء الله تعالى
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=112569
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 12 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 19