• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ذكرياتُ جسرٍ عائم .
                          • الكاتب : زهير مهدي .

ذكرياتُ جسرٍ عائم

كسائق شاحنة يكِدُّ كثيرا ويجني قليلا

لم يعجزني التعب و السهر و رائحة الديزل و الزيوت و الجوع و الحذر عن الاستمتاع بتفحص كل ما هو جميل في الطريق

كل قرية او ناحية او مدينة امر بها هنا في طرق الولايات المتحدة لها وجهان :

( وجه مدني معاصر مزدحم بالمولات و المجمعات التجارية و الشقق السكنية و البيوت الفارهة )

و ( وجه تراثي قديم مكتظ بالمباني القديمة و الازقة الضيقة و محلات الحرف القديمة )

و بلا شعور ترجع بي الذاكرة الى طفولتي و ذكريات قضاء الخضر التابع ادارياً الى محافظة المثنى

حيث كانت امي تصطحبني الى هناك كثيرا

كنت احب تلك المدينة حبا جما و كانت امي رحمها الله تتناغم مع حبي لمدينة اهلها رغم اني ما وُلدت او عشتُ فيها

كانت امي تلبي رغبتي الجامحة في العبور الى الضفة الاخرى من المدينة على الجسر القديم العائم

كنت اعشق اهتزاز الجسر و تمايله مع امواج النهر و افرح حين تخترق سبيل المشاة عليه سيارة تثير اصوات اصطكاك الخشب و انشداد الحبال

كانت تحوم حول الجسر اسراب طيور النورس القادمة من شمال اوراسيا باصواتها الجميلة لتكمل جمال تلك اللوحة و كانت مسامعي تلتقط الكلمات الدافئة من احاديث المشاة المارين على الجسر

الجماغ و العقال و الدشداشة و البشت و العباية و الشيلة و قاط الافندي كانت من ابرز الازياء المرتبطة باهل تلك المدينة

كانت النساء يتوقفن عن المشي و ( يستترن بالعبائة الى الحائط ) لو صادفن الرجال في الازقة الضيقة للمدينة القديمة ( الدرابين ) مع ذلك كان السلام و التحية متبادلة بين النساء و الرجال مفعمة بمشاعر الاخوة و تقديس الجيرة

كان نهر الفرات يشطر المدينة الى شطرين ( شطر مدني معاصر انيق )  و ( شطر قديم فلكلوري تراثي جميل )

ولعل السبب الذي يجعلني اربط بين مدينة الخضر الحبيبة و تلك المدن الامريكية هو ( تلك الممازجة بين الحداثة و الاصالة )

منذ بداية عصر النهضة العراقية حتى بدايات عصر الحروب في الثمانينيات حافظت مدن العراق بشكل عام على تلك الممازجة

فإحتفتظت الاحياء القديمة في بغداد كحافظ القاضي و شارع الرشيد و الكاظمية و الفضل و السراي و غيرها على طرازها القديم و اصالتها

بينما ظهرت مظاهر التمدن و البناء في الباب الشرقي و السعدون و النضال و في جانب الكرخ عموما

حتى النجف و الديوانية و الحلة و الموصل و غيرها كانت كذلك

كان العقل العراقي المخطط ينسجم تماما مع الذوق الانساني العالمي في الممازجة بين ( الاهتمام بالحداثة و العصرنة ) و بين ( احترام الاصالة و التراث )

كان في البصرة نهر صغير يتفرع من شط العرب ( نهر العشار ) وكان يخترق البصرة طولا بعرض، تطل عليه بيوت الشناشيل

فكرة ذلك النهر الصغير لم تأتي من فراغ و كان يفترض به ان يجعل المدينة نسخةً مشابهةً لمدنٍ جميلة كمدن

‏( Basel في سويسرا ) و ( Strasbuorg في فرنسا) و ( Cologne في المانيا )

لكن ( وُدِع البزون شحمة ) و ابتلي العراق برجل حرب اهوج يحكمه كصدام وضع عصى الحرب في دولاب التقدم و تبعه ساسةٌ مصالحيون انتهازيون لم يجلبوا من ديار المنفى شيئا من الاصالة و الحداثة

 بل اخترعوا نظاما محاصصياً في المشاريع مختلقين شركاتٍ وهمية لا تجيد غير تبديل بلاط الارصفة المقرنص لثلاث مراتٍ في السنة

حتى مظاهر الحداثة و المباني المعاصرة المحدودة و المولات باتت تزحف شيئاً فشيئاً نحو الاحياء القديمة فتخنقها و تقضمها قضماً عشوائياً بلا ادنى احترام لاصالتها

في حين ان خطط الدولة في مجابهة مشكلة الانفجار السكاني تحبوا حبوا بطيئاً و تتلكأ دائما بسبب التعاقد مع مقاولين معروفين بفسادهم فلا مجمعات سكنية حديثة تُبنى خارج المدن القديمة و لا بناء عامودي مما إضطر الناس الى الزحف على المناطق الخضراء لانشاء مساكن عشوائية تفتقر لادنى الخدمات 

ازمة السكن ضربت الدرابين القديمة و بيوت الشناشيل بالصميم ، فبتنامي اعداد الاُسر هُدِمَت الكثير من البيوت القديمة و اُعيد بنائها بطرق حديثة لتتسع لاعداد اكبر

لا ادري لما اكتب كل ذلك و اتنهد الحسرات وانا ادرك جيدا مدى خلو العقلية الادارية في البلد من اي استراتيجية لاعادة ترميم البنية التحتية بما يضمن حل ازمة السكن و الموازنة بين الاصالة و ( الحداثة الحقيقية) وليس (التلزيكية)

بالنتيجة ستستمر الحسرات تناغما مع حسرات بلدٍ اُريد لشعبه ان ينشغل باحداث يومه حدثا بعد حدث لكي ينسى ان بلده كان من المفترض ان يُصبح يوما ما افضل و اجمل من لندن

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=112176
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 12 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29