• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الإنسـان والتحـوّلات .
                          • الكاتب : افنان المهدي .

الإنسـان والتحـوّلات

شكٌّ ويقين، يسار ويمين، انقلاب وثبات، ركود وحركة!
متضادّات وحالاتٌ يمرّ بها الإنسان.

حين الاقتراب من جوّانيات الإنسان والتأمّل في أحواله المتقلبة، التي تتمظهر بتقلبات مزاجه، وعواطفه، وميولاته وأحاسيسه، ومشاعره وأفكاره، نلحظ أنه في ساعات من أيّامه وسنينه، يصبح يسارياً متراخياً، نرجسيًّا حدّ النخاع، مغروراً، وفي آونة أخرى، متواضعاً درويشاً، انقلابات من النقيض للنقيض!

*ما سِرّ تلك الانقلابات؟!*
*وما هي دوافع تلك التحولات؟!*
هل لأنه عاطفة تافهة، كما يقول سارتر؟!
أم لأنه مخلوق عابث، كسول وجهول، لا يحاول الاقتراب من نفسه لفهم طبيعتها، واحتياجاتها، ونقائضها، وتقلّباتها، ساعياً لرفع ذلك ما استطاع لئلا يقع في المتناقضات؟!
أم أنّ ثمة أموراً وأسراراً أخرى، لم يتمكّن للآن من الوصول لمعرفتها والإحاطة بها برغم كلّ التقنيات والكشوفات التي اخترعها؟!

هذا نموذج من الأسئلة التي يحقّ للإنسان طرحها، وثمة أسئلة أخرى في البين، ستطفو على السّطح كذلك، *من قبيل:*
التحوّلات، ألا تُعدّ مواجهة مفتوحة مع الجمود؟!
ألا تمثّل حالة صحية تدلّ على فاعلية العقل وعدم استلابه؟!
أم حالة مرضية من عدم الثقة بالأفكار الموروثة؟!
الانقلاب والثبات، هل هما ثنائيات شعورية؟! أم ثنائيات عقلية؟!
ماهي أسباب التحوّلات؟!
أسباب برّانية أم جوّانية؟!

هذه الأسئلة وغيرها، لست معنيّة بالإجابة عنها كلّها! بقدر ما يهمّني طرحها على الإنسان بما هو إنسان موجود، ليستفزّ عقله ووجدانه في محاولة للإجابة عنها!
ومن ثم يفهم الدوافع إن كانت جوّانية - لادخالة له فيها بحسب النموذج المعروض - أو برّانية بإراداته استسلم لها، في حال طرأت عليه وعلى مجرى حياته تحوّلات مختلفة، ليتمكّن من التشخيص ومواجهة كل التحديات في معركته الوجودية، فيسير على بصيرة وهدى من أمره.

وجدير بالذكر، أني في هذا المقال سأهتمّ في محاولة منّي للإجابة عن السؤالين الأخيرين، وسأتّخذ منهجية إحضار أنموذج كعيّنة اجتماعية في محاولة لفهم التحوّل الذي أصيب به!
هذا الأنموذج هو مجتمع الكوفة، أيام نهضة الإمام الحسين "ع".

*مقدّمة سيسولوجية:*
الإنسان بطبيعته مخلوق اجتماعي، تقوده غريزته ودوافعه الأساسية إلى خلق وإيجاد قواعد أخلاقية تجمع الناس مع بعضهم بعضاً في مجموعات اجتماعية، بحسب رأي عالم الاجتماع (فرانسيس فوكوياما) صاحب نظرية نهاية التاريخ، في كتابه (التصدّع العظيم).

*الكوفة كمدينة تتميز بمائزتين:*

١/ لم تُؤسّس إلا كمدينة عسكرية، لذلك بعض الباحثين كـ نبيل الحسني يُرجع السبب الأول في ارتكاز الثقافة الكوفية في يوم عاشوراء، مقاتلة ابن الرسول "ص"، إلى الامتثال للأمر العسكري، دون استحضار حقّ المراجعة أو المناقشة، لما تصدره قيادة الجند من أوامر؛ لأنّ الكوفة ما تأسست إلا كمدينة عسكرية، والجنود يخضعون للأمر العسكري الذي له مفهوم واحد وهو *الطاعة*، ومصداق واحد وهو *التنفيذ*.

٢/ الأنثربولوجيا الاجتماعية الثقافية لمجتمع الكوفة، قد مرّت بمرحلة من التصدّع وإعادة البناء، وهذه المرحلة تنصّ على قانونين:

١/ *قانون التصدّع الاجتماعي*، وهو حالة خاصّة من الانقسام والصّراع الاجتماعي.
أو حالة منتظمة ومستمرة للصّراعات الاجتماعية، حيث تقسّم المجتمع ضمن خطوط ثقافية وصراعية ثابتة، لفترة طويلة وعلى أساسها تتشكل مجموعات متمايزة ومتعارضة باستمرار، وتتشكل أيضاً على أساسها مظاهر من التوّحد القيمي، والتمسّك بالهوية المشتركة داخل كلّ مجموعة، مع حدود انغلاقية ونسق من الفعل التنظيمي لكلّ هوية أو مجموعة، وهذا واضح جداً في نزعة التسوير للذات المحافِظة لئلا تُخترق من الخصم - إنْ صحّ التوصيف - التيار الحداثي، الذي بدوره ينزع للقطيعة في صور متعدّدة مع التيار المحافظ.

٢/ *قانون الانصهار البنيوي*، وهذا تبعاً للأول، فبعد مرحلة التصدّع الناتج عن فعل مجموعة من العوامل الأنثربولوجية، يكون حال المجتمع على حافة الهاوية، يليها حالة تمزّق النسيج الاجتماعي.

ولكي يُعاد بناء المجتمع، فلا بُدّ أن يدخل مرحلة الانصهار الخُلقي، لغرض زوال العوامل التي تسبّبت في هذا التصدّع والانهيار، ثم بنائه على أسس أخلاقية حميدة.

ما ذُكر أعلاه نستطيع تصنيفه، وبحسب الأنموذج المطروح، أنّها أسباب جوّانية للتحوّل الذي قد جرى آنذاك لبعض أعيان الكوفة وكبار شخصياتها، بل لأغلب من تحوّل إن لم يكن كلّهم؛ لأنّ هذين السببين المذكورين لا دخالة لهم فيها!

بقي أن نستعرض الأسباب البرّانية التي - ربما - لها دور كبير في التحوّل، لا سيّما وأنّها تعود لاختيار الإنسان نفسه، وليس كما هي الأسباب الجوّانية آنفة الذكر.

*الأسباب البرّانية هي في حقيقتها مفاهيم نفسية اجتماعية أربعة:*

١/ *التأثير الاجتماعي*، وهو العمليات التي يُؤثر الناس من خلالها، بشكل مباشر أو غير مباشر على أفكار بعضهم أو مشاعرهم أو أفعالهم، كالبيئة والأصدقاء والدراسة وغيرها من المؤثرات.
٢/ *الإذعان*، مسايرة الفرد الآخرين في سلوك معيّن، دون حدوث تغيّر دائم في اعتقاده أو مشاعره أو سلوكه.
٣/ *القبول*، مرتبة أعلى من السّابق، حيث هنا يقوم الفرد بسلوك يساير فيه التوقعات التي لدى الآخرين، مع اقتناعه بقيمة هذا السلوك نفسه.
٤/ *الطاعة*، تنفيذ الرغبات لطلبات محدّدة من أفراد آخرين يكونون عادة مصادر سلطة.

ونستطيع إجمال الثلاثة الأخيرة: بـالمسايرة، القبول بسبب القوة والاستبداد من الآخر، استلاب الإرادة.

وتلكم الأسباب كانت جلية في التحوّل من النقيض للنقيض، وفي تغيّر التعامل مع (مسلم بن عقيل)، فحينما دخل الكوفة، أحدث تحوّلا كبيراً في ظاهر الحياة السّياسية، لدرجة أنّ الناس انثالت عليه مبايعة للإمام الحسين "ع"، فعدد من بايع على أقلّ التقادير ١٨ ألفاً، وعلى أكثرها ٤٠ ألفاً، بحسب بعض المصادر التاريخية.

ولم يكن ذلك فقط، بل استبشروا بدخول (ابن زياد) حينما دخل الكوفة متنكّرًا بعد عزل (النعمان بن بشير)؛ لظنّهم أنّ الأول كان سيّد الشهداء "ع"، وهذا يشي بمدى استعدادهم لاستقبال حفيد النبي "ص".

إلا أنّ العرفاء كان لهم دور كبير في التأثير الاجتماعي عليهم، ومن ثم ساهموا بقوتهم ونفودهم وتهديدهم بحرمان العطاء، على تخذيل الناس، وأشاعوا الإرهاب فأصبح الناس مطيعين لهم، مستلبي الإرادة، فكانت النتيجة الطبيعية لذلك التحوّل مواجهة مسلم عسكرياً وإعلامياً وسياسياً، حتى أْجهضت حركته!
وبذلك انقلبوا من النقيض إلى النقيض!




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=112110
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 12 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19