• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : ضفادع بلا نقيق .
                          • الكاتب : ا . د . ناصر الاسدي .

ضفادع بلا نقيق

كنا صغارا حين أطل علينا (حميد) أدركنا زمن الركض.. تقافزنا كالفرشات، وفي زمن البرد تلفعنا بأردية قصار، ولا يكاد يمنع من معانقة الأقدام الطين.. ولأول مرة رأيناه، كان رجلاً طويلاً تتشرب وجهه السمرة، يذكرنا بتمثال من البرونز غائر العينين.. العالم الرحب ينطوي من خلالهما.. يترنح في مشيته وكأنه إزاء ريح تهب. رقيقاً في حركة يديه الطويلتين.. كان واثقاً من نفسه كثير الاعتداد بها، وربما تراه قد خبر سني حياته،وأجمل ما يشدك في ملبسه ذلك رباط العنق الذي كان بلون الرماد.نألف حميد من خلال عروجه المستمر لناحيتنا.. وصولاً الى الجزيرة المجاورة. يتطلع حميد نحو الأفق المشرئب بلون البنفسج، يشده ملكوت من الصمت الرائع الكامن وراء غابات القصب القاتمة حد الملل. بينما يحرك صمت حميد صوت البلام أبي جواد الذي جاء يطفو بزورقه الخشبي وهو يكابد حركة الماء نحو حافة المعبر الطيني. كنا مجموعة يصعب تكرارها لأننا لا نكاد نفترق، فقد الفتنا الدروب وألفناها، بل أنها كانت تسمع أنفاسنا وتحفظ وقع أقدامنا. بل كانت أشجار النبق والنخل تعرف أسماءنا وحتى لون دشاديشنا.
كنا نستبق تاركين الدروب خلفنا، وإذا ما أدركنا وجع الأقدام رحنا نتسلق أشجار النبق. وكنا نصطاد صغار السمك عند مدارج الطابوق التي اتخذها الصيادون مرافئ صغيرة لانطلاقاتهم عبر الشط الكبير. كنا صاخبين كالبحر. وكانت غرابة حميد تثير اهتمامنا، حيث الغموض يدفعنا كي نتساءل من أين يأتي؟ يرد احد الصغار من الجزيرة البعيدة. آواه تلك الجزيرة المخيفة التي يكتنفها الظلام.. إنها ملئ بالطناطل.
-  إلى أين يذهب؟ قال احدهم.
يرد منذر محركاً يده بإشارة إلى الجزيرة القريبة.
- إِنه هناك.. حيث تقطن أخته كما يقولون. يصيح حميد.. يشق صوته عبر النهر. يدوي الصوت عبر أثير الشط.. هناك كان البلام أبو جواد يستظل بزورقه تحت شجرة السرو الوارفة الموغلة في عمق الماء، قال حميد.. مستعجلاً البلام. يرد عليه أبو جواد بالإيماء سأتيك، هناك عابر في الطريق. يحرك البلام عصاه. تتحطم مرآة الماء، تكبر الدوائر ثم تتلاشى وتكبر دوائر أخرى ثم تنطفئ في مرآة الماء الأخرى.. يندفع البلم وبفعل عملية الدفع تنحني مويجات الماء. تتعانق. ترتعش. يتزلج البلم وكأنه فوق الثلج.الدقائق تمر.يعانق البلم الضفاف. يقفز البلام. يطوي حبل البلم حول عنق شجرة السرو القريبة ثم يطفق مسرعاً.. يلقي تحيته. - أهلا بك يا حميد.
- أهلا بك يا أبا جواد.
      يرد البلام.
-    كيف الحال.
-    بخير.
-    هل تأخرت عليك؟
قالها البلام:
-    لا بأس.
لازال الصغار يلاحقون حميد كظله بألفاظ سمجة وحجارات من الطين، والمشهد كان تلاحقياً. يزم حميد شفتيه معبراً عن استياء. تناول حجارة. فجر رده من خلالها. يطلقها تستقر في كتف احد الصغار يتأوه الصغير ثم يفر باكياً بينما ينبري منذر أكثر الصغار مشاكسة بسخريته.. يلمح ستره حميد كانت ممزقة وصوت نقيق الضفادع يأتي من بعيد ليحمل رائحة الغروب. غابات القصب الداكنة هي المأوى والنقيق، هو نوع من الحنين أو الالفة إيذاناً بأنَّ زمن الغروب قد أزف.الصغير منذر يردد بسخرياته، يردد رفاقه ذلك.
-  (حميد عكروكة.. سترته مشكوكه)
يكرر الصغار المقطع مرات ومرات. حميد يأخذه الاستغراب.. يصيح البلام مغاضباً مؤنباً الصغار الصاخبين.. تتناهى حجارات البلام عند أقدامهم.
يتراجع الصغار مؤنبين، الى أماكن ملاعبهم خائبين.. يحرك حميد يديه مستاء غير مبال بما يفعلون.. يحدث نفسه.
- عجباً نصبح في آخر المطاف ضفادعاً.. لكنها بلا نقيق.. يطبع حميد ابتسامة عريضة على شفتيه.. يتخذ مكاناً في وسط البلم.. حرك البلام عصاه الغليضة. ينطلق البلم.. تبتسم الضفاف وهي تعانق رذاذ الماء الطافح فوق سطح الماء.. يدرك حميد ورغم ابتسامته أن حزناً شفيفاً راح يتدفق فوق مرآة الماء عانق كتفيه بحركة شعورية دائرية.. أحس بلسع النسيم البارد.. اسقط أنامله على جيب سترته.
أحس برغبة عطشى للماء.. ارتشف كفه الممتلئة.. كرر ذلك حد الارتواء.. البلم عند منتصف النهر.. الغسق يصطبغ بحمرة المغيب.. تتكسر الحمرة على مرآة الماء الصافية.. الضفة الأخرى.. الظلام بدأ يلفها.. الأكواخ بصمتها المخيف.الجزيرة مثيرة وخاوية كأنها جزيرة الموت.. تركع في الخوف.. الكلاب تعوي. يتمزق صمت غريب. يسبح عبر الماء المجهول.. مجهول لانعرفه.. نخافه.. نتلفع باغطية ثخينه… نتساءل:- من هو حميد؟.. من أين يأتي..؟ إلى أين يذهب؟ وما علاقة نقيق الضفادع به.. حميد الوافد الغريب.. إنها أهازيج.. نطلقها تأتي عفوا.. نألفها ثم تلوكها ألسنتنا في زمن رديء غريب لا يرحم الغرباء.
 

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=11097
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 11 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19