• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : مظفّر النوّاب و(بين السماوات ورأس الحسين) .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

مظفّر النوّاب و(بين السماوات ورأس الحسين)

 إن كان السّياب قصيدة شعر حزينة فإنّ مظفّر رواية في قصيدة..وحزن مظفّر ليس كالسياب حيث ينبت على مهل كالنخيل إذ يكسوا البساتين أو يرافق دجلة على الضفاف..حزن مظفّر ثائر لا أنين فيه..صاخب كالموج المتكسّر على الصّخر..مظفّر قصيدة ثورة دائمة..وفي خيال هذا الشاعر المتمرّد تنبت مرثية الحسين وهي تترنّج بين حزن متكسّر وثورة هادرة..فالرثاء هنا صلاة..رحلة في الوادي المقدّس..وقوف..وقوف بين السماوات ورأس الحسين..يولد الحسين في مخاض القصيد..كـ" فضّةٌ من صلاة تعم الدخول"..بينما:

والحمائم أسراب نور تلوذ بريحانة
أترعتها ينابيع مكة أعذب ما تستطيع

وتدفعني المظفّريات إلى البوح : إنّ الحسين نغمة نبوية تنحدر من سلالة الوحي..حتى تراب مضجه غدا سماء..فمظفّر يؤثر أن يقبّله من الوجنتين حيث قبّله جده وفاض حليب البتول:

ولست أبالغ أنك وحيُ تواصل بعد الرسول
ومن المسك أجنحة وفضاء كأني أعلو،
و يمسكني أن ترابك هيهات يُعلى عليه
وبعض التراب سماء تنير العقول
وليس ذا ذهب ما أقبّل
بل حيث قبّل جدك من وجنتيك
وفاض حليب البتول

يقرأ مظفر في تراب الحسين وقائع الفاجعة..وهو لديه الفتى في شموخ الأبطال..غالب لا يغلب وإن داسته خيول الطّغام..ثابت كالطود يرتعب منه العدا.. والموت هنا وهج..وهج ينير الضّريح:

لم يزل همماً للقتال ترابك
أسمع هول السيوف
ووهج ممات ينير الضريح

يعيدني مظفّر ابن بغداد عاشق الأهوار إلى الرميض: حكاية الفتى بذي قار..قانص الإنجليز..له في الرثاء مذهب يأبى الحزن والبكاء..لأنّ الحسين في جنون الفتى لم يقتل..ولسبب بسيط لم يقتل..لأنّ السؤال الذي يطرح: من يملك أن يقتل حسينا..كان رميض يقف جنب الراوي فإذا بلغ المقتل فيا ويله إن قال الحسين قتل..الحسين هنا ابن الخيال..حيث يعاد بناء المأساة خارج نذالة الواقع..للرمزي هنا دلالة موصولة بتمام القيم..الحسين في ديوان مظفّر كالرميض لم يمت..هو الذي يتراءى ضياء..هو أكثر حياة من الأحياء..هو الشموخ..وحتى الحزن إن أتى فهو حزن يمتاز بالتّفرّد والقوة..كان الحسين وحيدا..ثابتا..ولكنه في كل هذا كان منتصرا:

ويوشك طفل ضريحك أن يتدلج عنك
أراك بكل المرايا على صهوة من ضياء
وتخرج منها فأذهل أنك أكثر منا حياة
ألست الحسين بن فاطمة و علي !
لماذا الذهول
تعلمت منك ثباتي
وقوة حزني وحيداً
فكم كنت يوم الطفوف وحيداً
ولم يك أشمخ منك وأنت تدوس عليك الخيول

على حافّة هذا الحزن يتحفنا مظفر برائعة من رائعته..رائعة الروائع..تصوير أخّاذ..خيال دافق..جمالية المعنى وهي تحلّق فوق سماء الإنحاء..يا لسحر الشّعر حين يرثي الحسين..يا لروعة مظفّر وهو يطلق العنان لمعنى المعنى..من هناك، أي من بعيد في الزمان..يرمق الرأس يحزّ والحريق يشبّ في الخيام:(من بعيد رأيت - و رأسك كان يُحزُ - حريق الخيام)..لكن ماذا بعد؟ بعد أن رأى مظفر (على النار أسبلت جفنيك حلماً)..اسمعوا لهذا المظفّر ماذا رأى:

بكى الله فيك بصمت وتم الكتاب
فدمعك كان ختام النزول

الحسين هنا معيار..هو الجزاء..هو الجنّة..وإن قاتلوه لكي لا يبايعه النّاس فهو الآن شامخ كالعدالة في ضمير المعذّبين في الأرض..فالتاريخ يبايعه إلى الأبد..والكل يهفوا إلى الحسين..والكل يحلم بوصاله..حتى الجنة تسعى إليه طمعا في النعيم..ولتسؤلنّ يومئذ عن النعيم:

مذ أبيتَ يبايعك الدهر
وارتاب في نفسه الموت مما يراك بكل شهيد
فأين ترى جنة لتوازن هذا مقامك
هل كنت تسعى إليها حفيف الخطى
أم ترى جنة الله كانت تريد إليك الوصول

ماذا يفعل فينا هذا المظفّر..هذا الصنديد الذي ينحدر بصخب شعري من قبيلة التّوّابين..أحسبه: الفرزدق؟ لا..أحسبه: المتنبئ؟ لا..هو مظفّر وكفى..فيه كل آلاء التّمرّد..هو شاعر في موكب سليمان بن صرد الخزاعي..هو احتجاج شعري متدفّق..هنا العشق: عشق الحسين منسدر في قصيدة مظفر..هو يطلب الحسين عاشقا..مظفر غير مشغول بطلب الجنة..هو يريد الدنوّ من الحسين وكفى..وللعبارة مفهوم فافهم: الحسين جنّة قائمة..وهو غير منشغل بالاستجارة من النار..وللعبارة مفهوم أيضا: يزيد هو الجحيم..هذا إيمان يسكن أحشاء متمرد..هذا الشاعر الذي تشعرك قصائده باليتم، تراه يبوح بوجدان غنيّ:

واقف وشجوني ببابك
ما شاغلي جنة الخلد
أو أستجير من النار
لكنني فاض قلبي بصوتك
تستمطر الله قطرة ماء

ولا زال مظفّر يهزّ المخيال هزّا..ولا زال يحتج احتجاج مارق في زمن الفوضى..لا ينافق مظفر المعنى لأنه أخلص للشعر..وتبدو روعة التصوير الفنّي هنا على سهلها الممتنع تغور وتغور في طبقات المعنى: ترى ما أشعرك مظفّر..الحسين لم يمت..هو باقي كما بقي ذلّ يزيد أزليّا..ولكن الحسين أطال الثورة في الواقع والخيال..إنّ زمان يزيد متجدد كما هو زمن الحسين..فأينما حلّ وارتحل طارده الحسين..وهذه حقيقة في الوجدان، أنّى لها أن تظهر في القصيد..ولكن مظفّر يقرّب حروفه من هول المصاب وبؤس التّاريخ..يزيد حاضر متشعب الفروع في أزمنتنا..ولكن وكما يقول مظفر: وفي كل فرع لنا كربلاء..

تطيل وقوفك ضد يزيد إلى الآن
لله مما بتاريخنا من مغولٍ
ومما به من ذرىً لا تطال و عنها انحدار السيول
إننا في زمانٍ يزيدٍ
كثير الفروع وفي كل فرع لنا كربلاء

يستحضر مظفر الحسين شاهدا على مهازل التّاريخ المستعاد..وإذا أصابتك شظيّة من هجاء مظفّر فاحن الرأس للعاصفة..فمجذوب القصيد لا يستثني أحدا..ألم يقل في قصيدة عبد الله الإرهابي: ما أوسخنا ..ونكابر..ما أوسخنا..لا أستثني أحدا..فهو يعيّر مجلس الحكم وبني جلدته..وقد وصفهم بـ: إحدى وعشرون عمرو بن العاص ونصف..وبها يكتمل 22 عضوا..وأما النّصف فهو معرّف عند مظفّر..النّصف الذي يفتش روث بني قينقاع..شيئ تتقيّؤه الكلاب في نظر مظفّر..نحني الرأس قليلا ونعبر إلى هناك بعيدا قليلا أو كثيرا..نعود إلى حيث لا خلاف..ننطّ بعيدا لأنّ قصيدة مظفّر لا ترحم مذ عيّر العرب في القدس عروس عروبتكم ونظائرها..نطّ ولا تجادل..هو الآن يحلّق في كبرياء السماوات..هناك حيث يتربّع الحسين..شاهدا على منحدر العراق..بكبريائه وشموخه ونبل القيم..ماذا في وسع عراق مقيّد في سلاسل ثقيلة من التوازنات وانحراف المزاج..ماذا في وسع من يرمق المنحدر من كبرياء السماوات:

إمام الشهادة
عهد على عاشقي كبرياء السماوات في ناظريك
نقاوم
نعرف أن القتال مرير
وأن التوازن صعب
وأن حكوماتنا في ركاب العدو
وأن ضعاف النفوس انتموا للذئاب
وعاث الذئاب من الطائفية تفتك بالناس

ما كان الحسين يوما طائفيّا..فهو أمّة قانتة..أمة نهضة وشموخ..فهل يا ترى يرضى مظفر بأن ينزل رأس الحسين من كبرياء السماوات؟ كلاّ..بين الحسين والعراق اليوم جسر هزيمة..هو شهيد وشاهدعلى بقايا عرق التّوابين في يتمهم الحيو- سياسي..حين يحاصرهم الجوع والعذاب والاحتلال..ولقد جرّب مظفر كل سلاليم المقاومة: الاستبداد والاحتلال..ولتحرير المجال لا بد من تحرير الخيال..تحرير الحسين من منحدرات أنماطنا..

ما أنت طائفة
إنما أمة للنهوض
تواجه ما سوف يأتي
إذ الشر يعلن دولته بالطبول

ابن الهور بالعشق والتّبني..رميضي الهوى..وفي الحسين يناهض البكاء..ولكنه في الوقت نفسه يحار..كيف لا تبكي حسينا حين تطرق باب الذكرى طواف الرأس فوق القنا..كيف يبكي والحسين يأبى البكاء للرجال..كيف لا يبكي والحسين مدرج في تلك الصور بالدماء؟ فالمرجلة حقّ في الحسين..والدموع فضيلة في الرجولة لا رقّة ولا خور..

أنا لست ابكي
فإنك تأبى بكاء الرجال
ولكنها ذرفتني أمام الضريح عيوني
يطاف برأسك فوق الرماح

يربط مظفر بين الأمس واليوم..هناك رأس الحسين يطاف به فوق الرماح..واليوم رأس فلسطين يطاف به في البلاد..هنا تبدو المأساة مضاعفة..وفلسطين اليوم ذبيح في العراء:

ورأس فلسطين أيضاً يطاف به
في بلاد العروبة
يا للمروءة والعبقرية بالجبن

ولا حديث عن العراق على الرغم من كل الرزايا..وهذا الوجع الموصول بين أزمنة لا يوجد بينها فترة من سلام ولا هدأة راحة..من يجرأ أن ينسى العراق وفيه ضريح أبي الأحرار يهزّ العالم كل عام حين بات مقامه عاصمة الله، مهما بدا الجود ضئيلا..بل خجولا..وهنا تنضح قصيدة مظفر بوفاء وطني يشبه وفاء المزارع للنخيل..هو العراق رغم كلّ هذا : وطن..وكأنّي به يردده ترديد منسابا سيّابيا على مذهب أنشودة المطر..هنا لا ضير من القول حدّ البُحاح: وطن..وطن..وطن..
والحقيقة أنّهم بنوا للعراق وطنا في القلوب والدموع والمهاجر وفي القصيد..هو اليوم الوطن الذي انتظره الشعراء يصلي للموت ويغرق حزنا..ويتكرر المشهد حتى تبدو صباحات الموت في العراق بطاقات عرس:

أما العراق فيُنسى
لأن ضريحك عاصمة الله فيه
وجُودُ بنيهِ أقلُ من الجودِ بالروحِ
جودٌ خجول
وطني رغم كل الرزايا يصل على الموت كل صباح
ويغمد في الحزن كل مساء
وينهض ثانية والصباحات بين يديه بطاقات عرس

وأيّا كان وضع العراق فهو يظلّ تحت ضوء الثّريّا كما الثريّا فوق ضريح الحسين..يتأوّه مظفّر متهجّدا يتوسّل الرّبّ أن ينير وجهه بتلك الثّرياّ..

و تبقى الثريا معلقة فوقه
أسوة بالثريات فوق ضريحك
يا رب نوّر بتلك الثريات وجهي
وبالطلع
والتي تبين على الدرب عرضاً وطول

ليست القضية قضية كفر بل قضية حرّية..ألم يخطب فيهم أبو عبد الله: فكونوا أحرارا في دنياكم إن كنتم عربا كما تزعمون؟ كما هو حال الحرّ بن يزيد الرياحي..كما هو حال كل كفر حوّله الإحساس بالحرية إلى فورة إيمان:

أنت لا بد يا رب تغفر للكفر إن كان حراً أبياً
وهيهات تغفر للمؤمنين العبيد

ليس الحسين من احتزّ رأسه هنا..فالحسين بات عنوانا لكل احتزاز..ففلسطين احتز رأسها وطافوا به في بلاد العروبة..وكذلك احتز رأس العراق حين ترجّل..بدا وحيدا في مسلسل من العما العربي..يطوف به يزيد في البلاد:

وهذا العراق و قد رجلته جيوش الحصار وحيداً يصول
كأن العروبة ليست ترى
كيف يحتز رأس العراق وكيف يقطّع أوصاله
ويطوف يزيد به في البلاد

وببالغ التّأوه والحسرة ينعى مظفّر الحسين في العراق، والعراق في الحسين..لقد توحدّ الهمّ وتشابك الحزن..وبات العراق الكريم..الكريم في خجل يمدّ اليد لمن كان أكرمهم في سالف الأزمان..إنّه الانكسار..العراق مثال لفاجعة الطّف..حين استباحه يزيد..وكل شيء تمّ بعين الرجال..هذا حظّ العراق من اليتم..والحصار..والحزن:

و واه من الانكسار المرير بعين الرجال
يمدون أيديهم لزمان لكم أكرموه
ولم ألق مثل العراق كريماً خجول.

في شعر مظفّر توتّر..بين الانكسار والجنوح إلى التّحدّي..بين تمثّلات الموقف بقسوة الرجال في ملاحم الصمود والميل إلى ذرف الدموع..وفي كلّ هذا يبقى رأس الحسين شامخا في كبرياء السماوات..

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=105603
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 09 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16