• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : حديث العقول   -2-قراءة في وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم في العقل .
                          • الكاتب : د . الشيخ عماد الكاظمي .

حديث العقول   -2-قراءة في وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم في العقل

تحدثنا في الحلقة السابقة عن هذه الوصية المباركة للإمام الكاظم (عليه السلام) ضمن فقرات ثلاث، وهي: 1- مصدر رواية الوصية الشريفة. 2- التعريف بـ"هشام بن الحكم". 3- الوصف الإجمالي لمضمون الوصية. وفي هذه الحلقة نحاول بيان مضمون الوصية، وأهم ما ذكره الإمام (عليه السلام) في وصيته، وينبغي علينا أنْ نقرأها وكأنَّ الإمام يوصي كُلَّ إنسان بها من خلال تلميذه "هشام بن الحكم"، لا أنْ نقرأها وكأنها جزء من التراث الإسلامي الأخلاقي التربوي، بل أنها منهاج عملي تربوي، وسوف أضع عنوانات معينة تلائم فقرات الوصية؛ لتكون أكثر وضوحًا للقارىء الكريم.

(بشارة أهل العقل)

قال (عليه السلام): إِنَّ اللهَ تباركَ وتعالى بَشَّرَ أَهْلَ العَقْلِ والفَهْمِ في كتابِهِ، فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾. ([1])   

ٱبتدأ الإمام (عليه السلام) في وصيته ببيان بشارة الله تعالى لأهل العقل، وهذا يدل على أهمية العقل، ومكانة العقلاء عند الله تعالى، فالآية الشريفة واضحة الدلالة في بيان ما يتعلق بذلك، وقد تضمنت صفتين من صفات العقلاء، ومقامين لهم أيضًا، أما الصفتان اللتان ذكرتهما الآية الشريفة فهما:

1- إنهم يمتثلون إلى تعاليم الشريعة المقدسة، وقد عبَّرت عن ذلك بقوله تعالى: ﴿يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ﴾ والاستماع غير السماع كما هو واضح، فهو سمع مع الإصغاء إلى المتكلم، قال "الراغب الأصفهاني": ((والاستماعُ: الإصغاء)) ([2])، والإصغاء يؤدي إلى التفكُّر والتأمل، وهما يؤديان إلى الإيمان والعمل الصالح، والعقيدة الراسخة، و﴿القَوْلَ﴾ هو إما مطلق ما ورد عن الشريعة المقدسة، أو خصوص القرآن الكريم، وقد ذكر المفسرون ما ورد في من أقوال.   

2- إنهم يجاهدون أنفسهم باتباع أكمل الأقوال وأفضلها وأحسنها في التقرب إلى الله تعالى، وقد عبرت عن ذلك بقوله تعالى: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾، فالآية تشير إلى أنَّ العقلاء يبحثون عن الأقوال والأفعال التي تأمرهم الشريعة المقدسة بها كُلَّها، فيختارون الأحسن منها والأفضل.

وقد ورد عن المفسرين في خصوص هاتين الصفتين ما يؤكِّد ذلك، قال الشيخ "الطوسي": ((وصفَ عبادَهُ الذينَ أضافَهُمْ إلى نفسِهِ على وجهِ الاختصاصِ فقال: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ﴾ يعني يصغونَ إلى تلاوةِ القرآنِ والأقوالِ الدالةِ على توحيدِهِ، ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ إنما قال: ﴿أَحْسَنَهُ﴾ ولم يقل (حسنه)؛ لأنه أرادَ ما يستحقُّ به المدحُ والثوابُ، وليس كُلُّ حَسَنٍ يستحقُّ به ذلك؛ لأنَّ المُبَاحَ حَسَنٌ ولا يستحقُّ به مدحٌ ولا ثوابٌ، و(الأحسن) الأولى بالفعلِ في العقلِ والشرعِ)) ([3])، وقال "الزمخشري": ((وأرادَ أنْ يكونوا نُقَّادًا في الدينِ ([4]) يُمَيِّزونَ بينَ الحَسَنَ والأحسنِ، والفاضلِ والأفضلِ، فإذا ٱعترضَهُمْ أمرانِ: واجبٌ وندبٌ، ٱختاروا الواجبَ، وكذلكَ المباحُ والندبُ، حُرَّاصًا على ما هو أقربُ عندَ اللهِ، وأكثرُ ثوابًا)). ([5])   

ولو تأمَّلنا في هاتين الصفتين الكريمتين لرأينا أنها حقيقة من صفات العقلاء عامة، وهي مسألة عقلية قبل أنْ تكون شرعية، فالعاقل هو الذي ينبغي عليه الإنصات إلى الآخر لسماع قوله وتقييمه والإفادة منه، وكذا في الاتباع، وهذا يؤكِّد على موافقة تعاليم الشريعة المقدسة للعقل؛ لذا نرى أنَّ الرسالة الإسلامية لم تكن مخصوصة بالمسلمين من دون غيرهم، وإنما هي رحمة للبشرية كُلِّها لو أنهم آمنوا بذلك فاستمعوا وٱتبعوا، فقال تعالى في بيان حكمة بعث النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ ([6])، وقال تعالى في بيان آثار ٱتباع الشريعة المقدسة مخاطبًا أهل الكتاب: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آمَنُوا وَٱتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾.([7])     

أما المقامان اللذان ذكرتهما الآية الشريفة فهما:

1- إنهم من المهتدين بما قاموا به من حيث الإصغاء إلى الشريعة المقدسة، وتميز الحسن وٱتباع الأحسن، كما أشار تعالى بقوله: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ﴾.

2- إنهم أصحاب العقول الخالصة التي ترى الحقيقة، وتبحث عنها، وتتمسك بها، من دون أنْ تغترَّ بالشهوات فتسير خلفها، كما أشار تعالى بقوله: ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾، وقد أُطلق اللبُّ على العقل مع خصوصية له، قال "الراغب الأصفهاني": ((اللبُّ: العقلُ الخالصُ من الشوائِبِ، وسُمِّيَ بذلكَ لكونهِ خالصَ ما في الإنسانِ من معانيهِ، كاللبِّ واللبابِ من الشيءِ، وقيلَ: هو ما زكى من العقلِ)) ([8])، وتكرر هذا الوصف ﴿أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ في القرآن الكريم في ست عشرة آية، كلها تؤكد المقام العظيم المحمود لمن وُصِفَ به.

وفي المقامين بشارة عظيمة من الله تعالى للذين يؤثرون عقولهم على شهواتهم، وقد أشار المفسرون إلى ذلك، قال "الفخر الرازي": ((وفي ذلكَ دقيقةٌ عجيبةٌ، وهي أنَّ حصولَ الهدايَةِ في العقلِ والروحِ أمرٌ حادثٌ، فإنَّ الإنسانَ ما لم يكُنْ عاقلاً كاملَ الفهمِ ٱمتنعَ حصولُ هذهِ المعارفِ الحقيَّةِ في قلبهِ)) ([9])، وقال السيد "الطباطبائي": ((﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ﴾ إشارةٌ إلى أنَّ هذهِ الصفةَ هي الهدايَةُ الإلهيَّةُ، وهذهِ الهدايَةُ أعني طلبَ الحقِّ والتهيؤ التامَّ لاتِّباعِ الحقِّ أينما وُجِدَ هي الهدايةُ الإجماليَّةُ، وإليها تنتهي كُلُّ هدايةٍ تفصيليةٍ إلى المعارفِ الإلهيَّةِ، وقوله: ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ أي ذوو العقولِ، ويستفادُ منه أنَّ العقلَ هو الذي به الاهتداءُ إلى الحقِّ، وآيتُهُ صفةُ ٱتباعِ الحَقِّ)). ([10])  

         من خلال ما تقدم يتبين لنا سبب وأهمية تأكيد الإمام الكاظم (عليه السلام) على العقل، وبشارة الله تعالى لأصحابه، فهو مصدر الهداية والصلاح، والوصول إلى الحق، وفي ذلك دعوة منه لاستثمار نعم الله تعالى، ومن أعظم نعمه هو العقل.

         وسوف نبين في الحلقة القادمة ما يتعلق بالعقل والاستدلال على وجود الخالق وعظمته، من خلال بيان بعض آيات الله تعالى الآفاقية والأنفسية، وقد أشار إليها الإمام (عليه السلام) بوضوح تام، وظهور دقيق.


([1])  سورة الزمر: الآيتان 17-18

([2])  مفردات غريب القرآن: 426 (سمع).

([3])  التبيان في تفسير القرآن 9/17

([4])  وهذا تعبير لطيف منه، وفيه دلالة على رفض التقليد المذموم للآباء والرؤساء وأصحاب الآراء، من غير تمحيص وبيان ومعرفة بجميع الأقوال، وتمييز الصالح من غيره، وٱختيار الأصلح منها، وفي ذلك دعوة إلى العلم والمعرفة بما فيه صلاح الإنسان في الدنيا والآخرة، وليس المراد الإفراط والتفريط بين مطلق الاتباع، ومطلق الرد والإنكار والاعتراض.

([5])   تفسير الكشاف 4/122-123

([6])  سورة الأنبياء: الآية 107

([7])  سورة المائدة: الآيتان 65-66

([8])  مفردات غريب القرآن: 733 (اللب)

([9])  التفسير الكبير 26/438

([10])  الميزان في تفسير القرآن 17/250




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=105277
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 09 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28