• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : من المسؤول عن المحاصصة (رد على حميد الخاقاني) .
                          • الكاتب : د . عبد الخالق حسين .

من المسؤول عن المحاصصة (رد على حميد الخاقاني)

عندما قبلنا أن نمارس الكتابة ونخوض في القضايا العامة، والشائكة، والمثيرة للجدل، والاختلاف مثل المعضلات السياسية العراقية كنا نعلم مسبقاً أن هذا العمل سيعرضنا للنقد والهجوم، وأحياناً إلى الشتائم والاتهامات بالعمل لصالح هذه الجهة أو تلك، و رمينا بمختلف الأسماء، والألقاب مثل وعاظ السلاطين، وكتاب السلطة، وعملاء أمريكا..الخ. لذا، ومنذ أكثر من عامين، جرني عدد من الكتاب العراقيين إلى سجالات بعضها مفيد، وبعضها عقيم وهابط، وأخرى لا تخلو من بذاءات وشتائم، خاصة من أولئك الذين يكتبون تحت أسماء مستعارة، كما حصل لي مؤخراً مع كاتب نعرفه، ولكنه اختار هذه المرة أن ينشر بذاءاته وهجومه علينا تحت اسم (عبد عون) في عدد من مواقع الانترنت. ومعظم هذه الردود أو التعليقات يبعثها لي أصدقاء مشكورين، يلفتون انتباهي لها، مع عبارة فيها شيء من التشجيع والدعم المعنوي أحياناً، مثل قولهم: "لا تهتم، إن الشجرة المثمرة هي التي ترمى بالحجارة!!...الخ"، أو "أن هذا الهجوم عليك هو دليل على تأثير مقالاتك في المجتمع، لذلك استهدفوك في حملة منسقة للنيل منك!!" والحقيقة إن بعض الردود من قبل كتاب رصينين هو نوع من التثمين، ولا يخلو من فائدة، فالجدل العقلاني مفيد لأنه يساعد للوصول إلى الحقيقة.
 
وآخر ما وصلني في هذا الصدد هو، مقالة السيد حميد الخاقاني، بعنوان: (جدل هاديء مع عبدالخالق حسين) في خمس حلقات، نشرها على عدد من مواقع الإنترنت، ليعيد نشرها جميعاً في ملف واحد على موقع (الحوار المتمدن)، وإني إذ أشكره على جهده وصبره في كتابة هكذا مقال مطول وبإسهاب، يقع في خمسين صفحة (19440 كلمة بالتمام والكمال!)، للرد على مقالتي التي لم تزد على 4 صفحات بعنوان (ظاهرة عداء الناس للسلطة)[1] نشرتها قبل سبعة أشهر، والتي تطرقتُ فيها إلى مقالة السيد الخاقاني الأولى بعنوان: (لتَعُدْ أموالُ الدولة للدولة . . . ولْتَعُد الدولةُ للناس)[2]. 
 
تطرق الكاتب في رده إلى المشكلات العراقية وما أكثرها. وبعد أن يعدد مبررات رده "الهادئ"المتأخر، يقول: "هذا كله أجده جديرا بالتعليق والتصويب والردّ، حتى لا نكون، هو وأنا، والعياذ بالله، ممن "يساهمون في تضليل الجماهير، ودفعها ضد مصالحها"، مثلما يقول هو، وكأن هذه "الجماهير" لا تعرف طريقها، ولا تفقه مصالحها!.". 
 
هنا، أختلف مع السيد الخاقاني، إذ أعتقد أن الجماهير ليست بالضرورة تفقه مصالحها دائماً، فأرى كما يرى غيري، أن من واجب المثقفين توعيتها، لا التزلف لها ودفعها إلى حتفها، ولا أظن أن السيد الكاتب من المتزلفين للجماهير، معاذ الله، فهو ليس سياسياً ليتزلف لها لكسب أصواتها في الانتخابات البرلمانية، كما يفعل السياسيون. لذا أرى من المفيد الاستشهاد برأي الدكتور قاسم حسن صالح، الأستاذ في علم النفس، والذي نشر مقالاً بعنوان: ( ثلثا العراقيين.. مغيّب وعيهم !) جاء فيه: "... فالسياسيون يعظّمون الجماهير في خطاباتهم ويضفون على ملايينها أفضل الصفات ،ليس فقط لأنها أوصلتهم للسلطة، بل لأن ديمومة بقائهم فيها مرهونة بها .ولهذا فهم يجزلون المديح للجماهير ويفضلونها على أنفسهم في أحاديثهم الإعلامية. والبسطاء يعدّون هذا الوصف انتقاصا من ذكائهم فيما يرون أنفسهم أنهم يعرفون خفايا الأمور، وان الجماهير منزّهة من الأخطاء..مع إنها ترتكب من الرذائل ما هو أفضع من رذائل السياسيين..ولك أن تستشهد من التاريخ بالجماهير الألمانية التي جاءت بـ (هتلر) في انتخابات ديمقراطية بنسبة تعدت 75% مع إن الشعب الألماني يعدّ من أذكى الشعوب!."[3]. 
 
والمشكلة، أنه ليس السياسيون وحدهم يعظمون الجماهير وينافقون لها، بل وحتى بعض المثقفين الشعبويين يتبعون نهج الديماغوجية، مع الأسف، والويل لمن ينتقد الجماهير لمصلحتها، وقد تطرقت لهذا الموضوع المهم في مقال لي بعنوان: (الشعب والغوغاء من منظور الوردي)[4].
 
لا أريد هنا الرد على كل فقرة كتبها السيد الخاقاني، فهذا غير ممكن، فضلاً عن أنه عمل ممل ومتعب، بل أكتفي بالرد على بعض النقاط الضرورية التي نختلف فيها، وبإيجاز شديد.
 
1- يقول السيد الخاقاني: "السلطة، أيةَ سلطة كانت، والأحزاب عموماً، من يحكمُ منها، ومن يعارض، لا تستطيب غير المديح، وتضيق بالنقد، شديدا كان، أو ناعماً." 
أتفق مع هذا الرأي، وفي نفس الوقت أؤكد، أني لست ضد النقد البناء والموجه، بل ضد التهييج، والتأجيج، والتأليب، وكيل الأكاذيب. وقد ذكرت الكثير من الأمثلة في مقالات سابقة حول الموضوع، لأن إصلاح الوضع لا يتم عن طريق كيل الأكاذيب والافتراءات والاتهامات الباطلة، فحبل الكذب قصير. 
كما وإني لست ضد التظاهرات السلمية، والتي هي وسيلة ضغط تستخدمها الجماهير على السلطة لتحقيق مطاليبها، وتغيير القوانين البالية، إذ نشرت مقالاً بعنوان: (نعم للتظاهرات ضد الفساد..لا لتسلل البعثيين)، ومقالة أخرى بعنوان: (التظاهرات كعلاج نفسي) التي قوبلت من قبل البعض بمحاولات تشويه المعنى، رغم أني ذكرت بالعربي الفصيح أن منع التظاهرات يؤدي إلى احتقانات نفسية وانفجارات اجتماعية، لذلك تعتبر هذه التظاهرات وحرية التعبير صمام أمان لحفظ السلام الاجتماعي. ولكن مع الأسف الشديد، حاول عدد من الكتاب ليّ عنق الحقيقة وتشويه القصد بقولهم أني قصدت بأن "الجماهير تتظاهر لأنها مصابة بالعصاب والأمراض النفسية" معاذ الله، والقصد معروف من هذا التشويه وهو أسلوب ابتزاز وتأليب رخيصين يستخدمهما هؤلاء ضد كل من يختلف معهم في الرأي. فقد بات معروفاً، أن المجتمعات المحكومة بالأنظمة الدكتاتورية الجائرة، تعاني من أمراض واحتقانات وتوترات وعقد نفسية أكثر مما في المجتمعات المحكومة بالأنظمة الديمقراطية.
 
كذلك إني ضد الأخبار المفبركة لتشويه صورة وسمعة المسؤولين في السلطة، إذ نستلم يومياً الكثير من هذه الأكاذيب عن طريق الإيميلات، وما ينشر منها على شكل مقالات وتقارير على مواقع الانترنت، ولا بد أن السيد الخاقاني يعرف هذه الحقيقة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك البعض من المحسوبين على الاتجاه اليساري، نشر إشاعات عبر الإيميل، مفادها أن مجزرة كنيسة النجاة تمت بتنسيق بين المالكي وإيران. ولا أدري ما فائدة رئيس حكومة يقوم بهكذا عمل شنيع في بلاده وضد مواطنيه. وإذا ما كذبنا الخبر احتراماً لعقولنا وعقول القراء، اتهمونا بأننا ندافع عن المالكي، وأننا من كتاب السلطة، ووعاظ السلاطين، وتحولنا من صفوف الشعب إلى صفوف "الحاكم المستبد بأمره!".
 
أما المقالات الإنتقادية، وما أكثرها، فهي حق مشروع، وظاهرة صحية، إذ هناك صحف في الداخل تطالب حتى بإسقاط الحكومة، وهناك من يصرخ بوجه رئيس الوزراء في المؤتمرات، ويرشح لنيل جائزة نوبل، وآخر يعقد مؤتمرات صحفية يكيل فيها الافتراءات ضد رئيس الوزراء، ويلقب بأنه "أبو ذر الغفاري" بعد أن كان يلقب بالحرامي من قبل الجماهير "الواعية". وكل ذلك دليل على نجاح الديمقراطية التي أرى رعايتها وليس وأدها وهي في المهد.
 
على أي حال، مازلت متمسكاً بكل ما ورد في مقالي الموسوم (ظاهرة عداء الناس للسلطة)، الذي رد عليه السيد الخاقاني، إذ أرى أنه ليس من حق أية جهة مصادرة ممتلكات الدولة، حتى ولو في عهد حزب البعث الجائر، أضع رابطَيْ مقالتي ومقالة السيد الخاقاني في الهامش، وأترك الحكم للقراء الأعزاء. كما وأود الإشارة إلى أني في مقال سابق، قد دافعت عن الحزب الشيوعي حول هذا الموضوع، بعنوان (تضامنا مع الحزب الشيوعي العراق)[5]، وأدنت جميع الجهات، أفراداً، وجماعات، وأحزاباً، متنفذة، سواءً من داخل السلطة أو خارجها، والتي استحوذت على ممتلكات الدولة بدون وجه حق. كذلك أدنت "تسخير شرطة الدولة لإغلاق النوادي الاجتماعية" في رسالة مفتوحة وجهتها إلى السيد رئيس الوزراء، وهذا هو الرابط (خطاب مفتوح إلى دولة رئيس الوزراء)[6]، واستلمت من الناطق الرسمي للحكومة رسالة شكر، وتأكيد أن خطابي نال اهتمام السيد رئيس الوزراء.
*************
2- وفي مقاله الثاني: (في هويـة الدولــة وعلاقتـها بالناس) يقول السيد الخاقاني: "لم تقم دولة المواطنين والناس الأحرار عندنا بعد...لا في الماضي ولا في الحاضر". 
لقد مرت الدولة العراقية الحديثة بمخاضات عسيرة منذ ولادتها عام 1921، لأنها كانت دولة المكونة الواحدة، وعوملت المكونات الأخرى كمواطنين من الدرجة الثانية، ما عدا فترة حكم الزعم عبدالكريم قاسم. ولكن في ولادتها الثانية يوم 9/4/2003، حصلت نقلة نوعية للدولة، تتمثل في كونها ديمقراطية حقيقية، دولة جميع العراقيين بدون استثناء، لذلك فمازلتُ عند رأيي السابق: "بأن الدولة تتكون من الشعب، والوطن، والسلطة، والسيادة، لذلك فالسلطة أو الحكومة هي جزء من الدولة وليست كل الدولة. والدولة هي دولة الشعب في جميع الأحوال"، وممتلكاتها هي ممتلكات الشعب حتى ولو كانت السلطة مستبدة وغير شرعية كما كان في عهد البعث البائد.
 
نعم هذه الدولة الديمقراطية تواجه الكثير من المشكلات والأزمات، وهذا ليس بالأمر الغريب بعد كل الكوارث التي أنزلها النظام البعثي الساقط، حيث ترك العراق خرابة حقيقية، وشعبها مبتلى بألف علة وعلة، كما هو معروف. فالعراق الآن أشبه بالمريض الذي خرج تواً من صالة العمليات الجراحية ودخل قسم الإنعاش، فليس من المنطق أن نطالب هذا المريض بالمشاركة في السباقات الأولمبية!! فالديمقراطية العراقية مازالت ناشئة، تحتاج إلى رعاية الجميع وبالأخص من المثقفين. ولكن المشكلة عندنا، أن كل مثقف يريدها وفق مقاساته، فمثلاً، السيد الخاقاني، كما يبدو من مقالاته، يريدها أن تكون بمستوى الدول الديمقراطية العريقة "الكفار" من يوم ولادتها، وإلا "فهي ليست دولة المواطنين الأحرار". لا أعتقد أن السيد الكاتب يجهل المراحل العسيرة التي مرت بها الدول الغربية العريقة، والحروب الداخلية والخارجية التي خاضتها شعوبها طوال تاريخها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، وإلى أن بلغت هذه المرحلة من النضج. ولكن رغم كل هذه الصعوبات، وبشهادة السفير الفرنسي في بغداد، أن العراق حقق نجاحات باهرة، والآن عبارة عن مختبر للديمقراطية. كما ونؤكد مقولتنا (أن الديمقراطية لا تولد متكاملة ولن تكتمل أبداً)، بل هي صيرورة دائمة بلا نهاية، وعملية تراكمية تبدأ مثلاً بـ 20%، ثم 30%، ثم 40%، وهكذا تنضج الديمقراطية مع النضج الحضاري للشعب. أما الذين يريدونها أن تولد متكاملة من يومها الأول دفعة واحدة، فهم أشبه بأولئك الذي يصرون على سياسة (كل شيء أو لا شيء)، فينتهون دائماً بلا شيء، وهذا هو سبب عدم استقرار العراق خلال التسعين سنة الماضية.
 
نعم هناك فساد إداري ومالي، وتزوير شهادات دراسية، وسرقة أموال الشعب على نطاق واسع... كل ذلك صحيح، ولا يمكن أن ينكرها أي عاقل، وهي أمراض اجتماعية- سياسية مزمنة من مخلفات العهد البعثي والعهود السابقة، لا يمكن التخلص منها بين يوم وليلة عن طريق التأليب ضد رئيس الحكومة، لأن هكذا فساد، وبهذا الحجم الرهيب، دليل على فساد المجتمع كله، والمسؤولية تقع على عاتق الجميع، وليس على شخص واحد معين، أو جهة معينة، ولا يمكن معالجته بإسقاط الحكومة، إذ من يضمن أن الحكومة البديلة ستكون بمستوى حكومة الهند أو ألمانيا التي يطالب السيد الخاقاني لتحقيقها في العراق بضربة سحرية، وبين عشية وضحاها.
 
نعم، المطالبة بإسقاط الحكومة في النظام الديمقراطي حق مشروع للمواطنين، ولكن يجب أن يتم بنفس الوسائل التي جاءت بها، أي بالوسائل الديمقراطية، يعني من خلال البرلمان المنتخب. وقد ناقشنا هذه المسألة في مقال بعنوان: (أفضل طريقة لإسقاط حكومة المالكي! )[7].
فإسقاط الحكومة الديمقراطية لا يحتاج إلى كل هذه الضجة، وحرق مؤسسات الدولة في تظاهرات عنيفة، بل يمكن أن تتفق أية كتلتين كبيرتين في البرلمان، أو مجموعة من النواب يحصلون على العدد السحري 163، فيسقطون الحكومة بالوسائل السلمية ويختارون غيرها، وكفى الله المؤمنين شر القتال. ولكن المشكلة التي يواجهها دعاة السقوط أنهم لحد الآن ليس لديهم البديل الأفضل يتمتع بدعم 163 نائب أو أكثر، فقط يريدون السقوط من أجل السقوط لتصفية حسابات سياسية ليس غير. 
 
والملاحظ أنه رغم العنوان المتحضر لمقاله: (جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين)، لم يتخلص الكاتب من لغة الأستاذية في مخاطبة الآخر، واتهامه بـ(دوافع نفسية "مَرَضية")، و"لا يمتلك منهج البحث العلمي"، " ويَسقُط هو وكتابته في سذاجة التعميم وسطحيته،" إذ كتب السيد الخاقاني قائلاً: [يجنح الدكتور حسين، كما لاحظتُ في بعض كتاباته، إلى البحث عن دوافع نفسية "مَرَضية" ينسبُ إليها نقدَ قطاعات من المثقفين والناس الآخرين للسلطة، سواء كان هذا النقد كتابة أو مظاهرات احتجاج، ويوقفه عند هذه الدوافع لا غير. المشكلةُ ليس في هذا الجنوح وإنما في أن صاحبه لا يمتلك منهج البحث العلمي عن هذه الدوافع وأدواته، فإذا به يُسقِطُ ما يقرأه، هكذا ببساطة وعجالة، على ظواهر معقدة، من قبيل العلاقة بين السلطة ونقادها، ويَسقُط هو وكتابته في سذاجة التعميم وسطحيته، في النهاية.] انتهى. 
 
ما هذه اللغة في مخاطبة الآخرين، وإذا كان هذا أسلوبكم "الهادئ" في مجادلة الآخرين، فكيف يكون جدلكم الساخن والصاخب إذنْ؟ 
المشكلة، أنه مهما حاول هؤلاء بالتظاهر بثوب الحضارة فتحته يخبو ذلك البدوي، إذ كما قال علي الوردي في هذا الخصوص: "يجب أن لا ننسى أن الكثيرين منا متحضرون ظاهرياً بينما هم في أعماقهم لا يزالون بدواً أو أشباه بدو، فإن قيم البداوة التي تمكنت من أنفسهم على توالي الأجيال ليس من السهل أن تزول عنهم دفعة واحدة بمجرد تقمصهم الأزياء الحديثة أو تمشدقهم بالخطب الرنانة." 
وأرجو من السيد الخاقاني أن لا يتهمني مرة أخرى بخطأ قراءتي للوردي، فلغة الوردي واضحة لا تحتاج إلى أي تفسير أو تأويل. إن إدعاء العلمية، وامتلاك الحقيقة، ووصف الآخرين بالسذاجة وحالات نفسية مرضية، لغة مرفوضة في الجدال بين المثقفين الرصينين، والذي يجب أن يكون هادئاً حقاً ورصيناً، الغاية منه الوصول إلى الحقيقة.
 
وأقولها بألم، أن الثقافة العراقية الموروثة تتسم بالعنف حتى في أسلوب المخاطبة فيما بين المثقفين أنفسهم، فتاريخ المثقفين اليساريين خاصة، حافل بتخريب الوطن وباسم الوطنية والديمقراطية منذ العهد الملكي وإلى الآن، حيث يتبعون نهج التأليب على كل ما تعمله الحكومة من مشاريع حتى ولو كان في صالح الشعب. وفي هذا الخصوص، كتب الأستاذ الدكتور حسين رستم، مقالاً قيما بعنوان: (يا علمانيي العراق اتحدوا !!)، بدأه قائلاً: [قبل أيام أعلن عن تأسيس تجمع للقوى الديمقراطية ضم شراذم من هنا وهناك. والمتتبع لتاريخ العراق السياسي القريب يتضح له مقدار الضرر الذي ألحقته به التجمعات التي تدعي العلمانية والليبرالية والديمقراطية والاشتراكية. الليبرالية والديمقراطية منها بقيادة المرحوم كامل الجادرجي اتسمت بالسلبية إلى درجة الخيال، واعترضت حتى على إنشاء الجسور والمدارس في الريف والطرق السريعة، بدعوى إنها لأغراض عسكرية لخدمة حلف بغداد. مثال على ذلك، المقال الذي ذيله المرحوم  الجادرجي بتوقيعه في جريدة الأهالي ووصف فيه جسر الصرافية بأنه عسكري لان "لونه اخضر"، و ذكر في حينه أن المرحوم نوري السعيد تندر قائلا: "عرب وين طنبورة وين، طاح حظ السياسة". أثار ذلك المقال المظاهرات وأوقف العمل لإنشاء الجسر المحاذي له لان المخطط كان جسرا ذا ممرين. طلبة الكليات قادوا تلك المظاهرات و"القادة" الحاليين معظمهم من تلك الجوقة السطحية التفكير و الإدراك. أما الاشتراكيون فقد مارسوا أسلوب الإرهاب السياسي المتمثل بلجان صيانة الجمهورية، والمقاومة الشعبية، والحرس القومي، وسحل الناس بالحبال في الشوارع.]
 
ما أشبه اليوم بالبارحة. فهؤلاء هم أنفسهم، يلعبون اليوم ذات الدور التخريبي، وباسم الوطنية والتقدمية والديمقراطية التي يريدونها أن تكون بمستوى ديمقراطية الهند وألمانيا، وإلا يجب العمل على هدم ما تحقق، يعني كما يقول المثل العراقي: "شاف القصر هدَّم كوخه" ودون أن تكون لديه إمكانيات بناء القصر الديمقراطي الشامخ يشبه القصر الألماني أو الهندي. 
************
3- وفي مقاله الثالث بعنوان: (في شـرور الطائفـية ومحاصصاتها)، يتطرق السيد الخاقاني إلى مساوئ الطائفية والعرقية ومحاصصاتها، وشرور الدولة الدينية وكوارثها، ويصفها بأنها أصل البلاء، ويعدد تلك الشرور في عدة صفحات، ويستشهد بأقوال عدد كبير من المفكرين الكبار المحترمين. وأنا إذ اتفق معه ومعهم بلا تحفظ في هذا الخصوص، وقد كتبت عن المحاصصة، ومساوئ الدولة الدينية في مقالات عديدة، ولا أرى ضرورة لتكرار ما قلته سابقاً، إذ خصصت فصلاً كاملاً بعنوان (حول إشكالية حكومة المشاركة أو المحاصصة)[8] في كتابي الموسوم: (الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق)، اختتمته بأن الحل الوحيد للأزمة العراقية هو قيام دولة علمانية ديمقراطية، دولة المواطنة الحقة، يكون فيها الدين لله والوطن للجميع. أضع الرابط في ذيل المقال، ليراجعه من يرغب. لذلك فإني أرفض أن تلقى عليَّ محاضرات عن دولة المواطنة، والديمقراطية من قبل أناس يحملون أيديولوجية تؤمن بالديكتاتورية البروليتارية، ومازالت تسمي الأنظمة الديمقراطية الغربية بالرأسمالية "المتوحشة".
 
كذلك، أختلف عن السيد الخاقاني في قوله أن سبب المحاصصة هو السياسيون الحاليون، وأمريكا، لأني أعتقد أن الحالة فرضتها ظروف موضوعية، وهي تركة ثقيلة من نتاج التاريخ والجغرافية، ومظالم الحكومات المتعاقبة. و يعترف بذلك السيد الخاقاني نفسه في مكان آخر من مقاله، فيقول: "... أن عمر الانقسام الطائفي، في هذه "الأمة" وهذا "الدين" له جذور عميقة ظل يُغذّيها، ويسهر على رعايتها، ولقرون طويلة، أولو الأمر من الساسة والفقهاء والوعاظ، بأشكال شتى، منذ حادثة "السقيفة" قبل أكثر من 1400 عام، وبدء تشتت المسلمين مذاهب وفرقاً، وما صاحب هذا من أحداث دموية، واضطهاد وتمييز، وقمع وموت. ظواهر ما زالت تتواصل إلى يومنا هذا."
 
إذنْ، أين نقطة الخلاف؟ فهاهو السيد الخاقاني قالها وبكلامه أن عمر هذا الصراع الدموي أكثر من 1400 سنة، لذلك أعتقد أن هؤلاء السياسيين والمحاصصة هم نتاج الوضع الاجتماعي الموروث وليس العكس.
 
كما وكتبت في مقال بعنوان: (المحاصصة شر لا بد منه) ذكرت فيه أن إزاحة المحاصصة مستحيلة في الوقت الراهن، وهذا لا يمنع المثقفين من شن حملة ضدها. والمؤسف أن فسّرَ السيد الخاقاني كلامي هذا، كما لو كنت مؤيداً للمحاصصة وشرورها، وأني ضد المساعي للتخلص منها، وضد نقد السلطة. وليثبت أني على خطأ، راح يستشهد بأقوال القادة السياسيين المشاركين في السلطة، وموقفهم المضاد منها وإدانتها، بمن فيهم السادة: نوري المالكي، وأسامة النجيفي، والشيخ همام حمودي وغيرهم كثيرون. 
 
يقول مارك توين: "كل الناس يتحدثون عن الطقس، ولكن لا أحد يعمل أي شيء إزاءه."
هذا القول البليغ ينطبق على المحاصصة الطائفية والأثنية في العراق، إذ الكل يتحدث عنها، ويدينها، ويصب اللعنات عليها، ولكن لا أحد يعمل أي شيء إزاءها لتغييرها، بل الكل يمارسها، ويعترف بذلك السيد الخاقاني نفسه عندما قال: "جميعهم يشكو المحاصصة اليومَ، ويرفع عقيرتَه بنقدها، لكنهم جميعاً يذهبون، في الممارسة، إلى ما يُبقي عليها ويؤدي إلى تكريسها في المجتمع وفي عمل السلطة والدولة على السواء!"
مرة أخرى، أسأل السيد الخاقاني: أين الخلاف بيني وبينك في هذه المسألة؟
 
الخلاف هو، أن السيد الخاقاني يعتقد أنه يستطيع تغيير الوضع بين عشية وضحاها بمجرد إصدار فرمان أو مقال، بينما أنا أعتقد عدم إمكانية ذلك في الظروف الراهنة، لأن المحاصصة ضاربة جذورها في عمق تاريخ المجتمع العراقي. ولذلك أقول لهم، طيب، تفضلوا أيها السادة المثقفون المتنورون المناضلون الأفاضل، حاولوا تغيير الوضع، وسأكون أول المؤيدين والمصفقين لكم إذا نجحتم في تخليص العراق من المحاصصة وشرورها. ولكني أعرف مسبقاً، أن مهمتكم مستحيلة، وتوصلت إلى استنتاج أن الديمقراطية التوافقية، والمحاصصة في هذه الظروف هي أهون الشرَّين، لأن البديل هو دكتاتورية المكونة الواحدة، كما كان في العراق قبل 2003، وكما هو في السعودية والبحرين وإيران الآن. إذ كما قال هيغل: "لا يمكن تجاوز أية مرحلة تاريخية إلا بعد استنفاد شروط وجودها". 
 
وهنا أعود مرة أخرى إلى أستاذنا الوردي، وأحسب أن السيد الكاتب من المعجبين بهذا العالم الجليل الذي قال: "إن الشعب العراقي منشق على نفسه وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر- باستثناء لبنان- وليس هناك من طريقة لعلاج هذا الانشقاق أجدى من تطبيق النظام الديمقراطي فيه، حيث يتاح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية. ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية، وهذا هو أوان الاعتبار! فهل من يسمع؟!" (على الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ص382). 
ماذا يعني الوردي في قوله هذا؟ وأسأل ثانية: هل هناك مجال للتأويل والتلاعب بالعبارات لتفسيرها حسب ما يريد السيد الخاقاني، كما اتهمني بأني أخطأت في قراءة الوردي؟
 
حول استنساخ النموذج الهندي والألماني
يعقد السيد الخاقاني مقارنة طويلة بين الديمقراطية العراقية من جهة، وبين ديمقراطية الهند وألمانيا من جهة أخرى. وبعد كيل المديح والثناء للهند وألمانيا، وذم النموذج العراقي، يتوصل إلى نتيجة مفادها أن الديمقراطية في العراق مزيفة وكاذبة، ولا وجود لها، وحتى الدولة العراقية ليست دولة مواطنين أحرار...الخ. 
 
هناك عدة حقائق أغفلها السيد الكاتب وهي:
أولاً، أن الشعب الهندي مارس الديمقراطية في ظل الاستعمار البريطاني لأربعة قرون تقريباً، على شكل انتخابات مجالس الحكومات المحلية، وحتى حزب المؤتمر الهندي الذي قاد النضال بقيادة المهاتما غاندي، ونهرو، وجناح، قد تأسس عام 1885، أي 63 عاماً قبل استقلال الهند. يعني أن الشعب الهندي قد مارس الديمقراطية، وتدرب عليها قبل الاستقلال بعشرات السنين، ولم يمر بدكتاتورية مثل دكتاتورية البعث الصدامي. ومع ذلك فعند الاستقلال لم تمر الأمور بسلاسة وسلام كما صور لنا الكاتب، بل حصلت حروب أهلية دينية بين الهندوس والمسلمين، قتل فيها نحو ثلاثة ملايين، وانفصل الشمال عن الجنوب، ليؤسس المسلمون بقيادة محمد علي جناح، دولتهم الإسلامية باسم (باكستان) والتي تعني (الأرض الطاهرة) نكاية بهندستان. بل وبلغت الصراعات السياسية والطائفية إلى درجة أن اغتيل فيها المهاتما غاندي نفسه الذي قاد العصيان المدني ضد الاستعمار وحقق الاستقلال. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وقعت عدة حروب بين باكستان والهند، وأخيراً وقعت الحرب بين باكستان الغربية وباكستان الشرقية، والتي أدت إلى انفصال الأخيرة باسم بنغلادش. بينما في العراق لم تصل الحالة إلى حروب أهلية وانفصال، أما الإرهاب فهو حرب شنتها فلول البعث وحلفائهم من أتباع القاعدة على كل مكونات الشعب دون استثناء.
 
أما ألمانيا، فتاريخها حافل بالحروب، منها حروب دينية دموية في القرن السابع عشر لثلاثين سنة، انتهت بصلح ويستفاليا عام 1648. والعراق متخلف عن ألمانيا بثلاثمائة سنة، ومع ذلك لم تقع فيه حروب طائفية على غرار ما حدث في ألمانيا. وهذا لا يعني أننا يجب أن ننتظر ثلاثة قرون لنصبح مثل ألمانيا، لأن التطور يسير الآن بسرعة بفضل التقدم المذهل في وسائل الاتصال والنقل والتوعية. كذلك، يجب أن لا ننسى أن الديمقراطية في الهند وألمانيا مرت عليها نحو سبعة عقود، ولا توجد في جوارها دول معادية مثل إيران والسعودية وسوريا تحاول إجهاض العملية السياسية فيهما كما هو حظ العراق العاثر.
 
يدعو السيد الخاقاني، ومعه بعض المثقفين العلمانيين، إلى تغيير الوضع، والتخلص من المحاصصة الطائفية والأثنية، ليحيلوا النظام العراقي إلى ما يشبه النظام في الهند وألمانيا بضربة سحرية. أعتقد أنه لا يمكن بناء نظام ديمقراطي في العراق على غرار ما في ألمانيا والهند، ما لم يتطور الشعب العراقي إلى مستوى الشعبين في ألمانيا والهند. فالحكومات هي إفرازات شعوبها، إذ كما تفيد الحكمة: "كما تكونوا يولى عليكم".
 
أيها السادة، أنا أيضاً مثلكم، بودي أن يكون النظام السياسي في العراق مثل ما في الهند وألمانيا، وأية دولة ديمقراطية عريقة، ولكن التمنيات شيء والواقع الممكن شيء آخر. ولا أعتقد أن السيد الخاقاني يجهل أن "السياسة فن الممكن"، فلو كان مشروعكم واقعي، لتحقق بجهود القوى السياسية العلمانية الديمقراطية، ومعها النخب الثقافية، وفرضت صيغتها التي تريد بعد سقوط البعث مباشرة، بينما الواقع المرير أثبت أن الذي انتصر هو تيار مقتدى الصدر، والحكيم، والمالكي، والنجيفي، وطالباني وبارزاني، وغيرهم من قادة التحالفات الكبرى التي تعمل وفق الانقسام الطائفي والأثني، وإذا كنتم تعتقدون أن جهودكم ستثمر بتغيير الوضع وبناء القصر الديمقراطي الألماني في العراق، فهيا بكم، وسيروا على بركة الله. 
 
لكن هناك صخرة الواقع التي ستصطدمون بها، إذ كما قال الفيلسوف الإنكليزي، هربرت سبنسر: "إن التحول الحضاري لا يتم على يد بطل، أو حاكم، ولكنه يتم على يد الحكمة الجماعية وهي من المصلحين وقادة الفكر". والمقصود هنا بالحكمة الجماعية هو معدل العقل الجمعي للشعب وليس عقل النخب الثقافية (الإنتلجنسيا). فتأثير النخب الثقافية لا تظهر ثماره إلا بعد عشرات السنين. والخراب العراقي الذي نشهده الآن هو نتاج تخريب حكم التيار القومي العروبي لأربعين سنة، ولا يمكن إزالته بين ليلة وضحاها. 
 
لذا، نؤكد ثانية، أنه ليس صحيحاً القول أن الاستقطاب الطائفي- الأثني في العراق هو نتاج القادة السياسيين، بل العكس هو الصحيح، أي أن القادة السياسيين هم نتاج الوضع الاجتماعي والسياسي، وهم يمثلون إرادة غالبية الشعب، ويعملون وفقها، أي على غرار مقولة ماركس: "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم". أي أن الوضع الاجتماعي هو الذي فرض هذا الاستقطاب الطائفي والأثني والذي هو نتيجة لتراكمات الماضي ومظالم الحكومات المتعاقبة كما ذكرناً آنفاً. 
 
فلو كان هذا الوضع من صنع القادة السياسيين، وأن المجتمع العراقي حقاً يرفض الطائفية والعرقية، فلماذا لم يعمل القادة السياسيون العلمانيون من أمثال السادة: حميد مجيد موسى، ومثال الآلوسي، وأياد جمال الدين، وأياد علاوي، ونصير الجادرجي وعدنان الباجه جي وغيرهم كثيرون، على خلق وضع مشابه لما في ألمانيا وغيرها منذ اليوم الأول من سقوط حكم البعث؟ ولماذا خسر العديد من هؤلاء القادة وتنظيماتهم في الانتخابات الأخيرة، بينما برز السيد مقتدى الصدر كأكبر منتصر، وأكثر شعبية من أي قائد آخر؟؟. فهل سأل السيد الخاقاني، وغيره من الكتاب اليساريين أنفسهم، لماذا فشل أكثر القادة العلمانيين، ومعهم النخب الثقافية التي تعارض السلطة، لماذا فشلوا في تحشيد الجماهير لتنظيم تظاهرة احتجاجية في ساحة التحرير، وفي أحسن الأحوال لا يزيد عدد المستجيبين لهم على ثلاثة آلاف، بينما ينجح السيد مقتدى الصدر، وبإشارة من أصبعه في تحشيد مليونين؟ هل السيد مقتدى أوسع ثقافة، وخبرة بالسياسة، وأبلغ خطابة من القائد الشيوعي السيد حميد مجيد موسى، وغيره من القادة العلمانيين؟ الجواب: كلا، إذ ليس هناك قصور في إمكانيات القادة العلمانيين، وإنما السبب هو أن السيد مقتدى الصدر، ورغم إمكانياته الثقافية المتواضعة، هو من يمثل معدل العقل الجمعي للمجتمع العراقي، ولذلك احتضنته الجماهير الفقيرة لأنها وجدت فيه من يمثل مصالحهم، ففاز تياره في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بأربعين مقعد، بينما فشلت الأحزاب العلمانية من خارج التحالفات الكبرى بالفوز حتى ولو بمقعد واحد. 
هل بحث هؤلاء السادة المثقفون الذين يدعون "العلمية والأكاديمية"، وينعتون غيرهم بـ("السذاجة والعصابية ودوافع نفسية "مَرَضية")، هل بحثوا عن السبب الحقيقي لهذه الظاهرة الاجتماعية- السياسية، أم أكتفوا فقط بشتم الفائزين، وإلقاء اللوم على قانون الانتخابات، والمرجعية الدينية، والتأليب على السلطة عن طريق كيل الأكاذيب والافتراءات، والمطالبة بإعادة الانتخابات، عسى ولعل أن ترأف الجماهير بحالهم في المرة القادمة؟ 
 
موقف الفرد والشعب من الحكومة
ينتقد الراحل العلامة الوردي موقف الفرد من الحكومة قائلاً: "في العراق ظاهرة اجتماعية عامة نكاد نلاحظها في كل مكان هي أن الفرد العراقي ميال إلى انتقاد الحكومة ووضع اللوم عليها في ما لا يعجبه من أمور الحياة، وكثير ما يقارن حكومته بالحكومات الراقية حضارياً ثم يأخذ بالتأفف والشتم. إنه يريد من حكومته أن تكون أرقى حكومة في الدنيا ولكنه ينسى أنه لا يتعاون معها ولا يطيع قوانينها، أو هو بعبارة أخرى يريد منها أن تكون كحكومة السويد مثلاً بينما هو يسلك تجاهها كما كان أبوه يسلك تجاه الحكومة العثمانية. إنه حفظ الحقوق التي له على الحكومة كالمواطن السويدي ولكنه لا يقوم مثله بالواجبات التي عليه. ولست أقول هذا من باب الدفاع عن الحكومة العراقية، بل هي حقيقة اجتماعية يجب أن تقال! (لمحات اجتماعية، ج1، ص290).
 
أما عن تركيبة الشعب العراقي وموقفه من السلطة، فيقول المرحوم الملك فيصل الأول في مذكرة له عممها على رجال الحكم، قبل 80 سنة، ما يلي: "وفي هذا الصدد أقول وقلبي ملآن أسى: إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتقاض على أي حكومة كانت، فنحن  نريد والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل. هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي… " (عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي، ج1، ص12).
فما الذي تغير، ونحن في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟ أليس الوضع كما كان في عهد الملك الراحل قبل ثمانين سنة، إن لم يكن أسوأ؟
 
لماذا حكومة الوحدة الوطنية؟
نعم، أقولها للمرة العاشرة أو العشرين، أن الحكومة الحالية ليست مثالية كما نريدها أن تكون، ولكن في الظروف الراهنة، هذا هو الممكن، فإما أن تكون بهذا الشكل أولا تكون، لأن العراق يعيش ظروفاً استثنائية بعد كل هذا الخراب الشامل. كما ويجب أن يعرف السادة الأفاضل، أن ليس في العراق معارضة ديمقراطية، بل هناك كتل سياسية متصارعة على المناصب والنفوذ، فإما أن تكون مشاركة في السلطة، أو مشاركة في الإرهاب. وأية كتلة تخرج من السلطة ستنضم إلى الإرهاب. وقد عرفنا ذلك من تهديدات السيد أياد علاوي بإشعال حرب أهلية، وتصاعد موجة الإرهاب إذا لم يصبح هو رئيساً للوزراء. ولسوء حظ علاوي أنه فشل في كسب أي تحالف آخر إلى جانبه ليحصل على تأييد 163 نائباً أو أكثر. وهذا التهديد لم يأتِ من فراغ، بل لأن هناك علاقة بين بعض الكتل المشاركة في السلطة وفرق الموت والجريمة المنظمة. وآخر تقرير قرأناه في هذا الخصوص هو: "علاوي يدعو لاستجواب المالكي حول الإنهيارات الأمنية" (تقرير إيلاف 12/10/2011). ولذلك، يجب أن لا نستغرب من ضرورة مشاركة الجميع، وانتفاخ مجلس الوزراء إلى أكثر من أربعين حقيبة وزارية، وذلك لإرضاء هذا العدد الكبير من الكتل السياسية، وهي حالة شاذة طبعاً، ولكن ما العمل، فمشاركة الجميع في هذه المرحلة أقل شراً من عزل أي منها. 
 
من هم وعاظ السلاطين؟
في عام 1954، أصدر العلامة علي الوردي كتاباً رائعاً، حقق له شهرة واسعة، عنوانه: (وعاظ السلاطين)، والتعبير من اختراعه، يقصد به رجال الدين الذين أحاطوا بالحكام، وزينوا لهم مظالمهم من جهة، ويوعظون الناس بالمثاليات التي يصعب على البشر تطبيقها. لم يدُر بخلد الوردي أن يأتي زمان رديء على هذه الأمة التعيسة، ليظهر فيه كتاب يستغلون هذا الخراب الأخلاقي، حيث اختلط الحابل بالنابل، وتشويش المفاهيم، ليسيئوا استخدام تعبير (وعاظ السلاطين)، فيلصقونه بكل من لا يسير على نهجهم، رغم أنهم ملئوا الدنيا ضجيجاً بأنهم ديمقراطيون حد النخاع، وأن "النقد أساس التقدم" كما قال ماركس الذي يدعون الانتماء إلى فكره. 
 
والمضحك المبكي، أنه لم يسلم من تهمة "وعاظ السلاطين" حتى المرحوم علي الوردي نفسه. إذ كتب أحدهم باسم مستعار (عبد عون)، وهو معروف لدينا، مقالاً هجومياً ضدي، انتقد فيه بعنف شديد ما اقتبسته من الوردي قوله: "في العهد البائد –يقصد العهد الملكي- كنت أخشى الحكام، والآن –يقص عهد ثورة 14 تموز- أخشى الغوغاء"! فأخطأ صاحبنا حتى في الاقتباس، وعلق قائلاً: "إنها في الواقع إنتقالة من صفوف الشعب إلى صف الحكام كأحد وعاظ السلاطين"، يعني حتى الوردي لم يسلم من هذه التسمية.
 
والمؤسف، أن السيد الخاقاني، هو الآخر راح يصفني، تلميحاً أو تصريحاً، وبتكرار، تارة بأني من "وعاظ السلاطين"، وتارة  "واعظ السلطان". لذلك أرجو أن يسمح لي القراء الكرام أن أبيِّن  من هم وعاظ السلاطين؟
وعاظ السلاطين، وكما قصد الوردي، هم كما ذكرت آنفاً، رجال دين منافقون، يدافعون عن السلطان،  ويسيرون مع التيار السائد، "يميلون مع كل ريح وينعقون مع كل ناعق" كما وصفهم الإمام علي. بينما أنا وأمثالي بعيدون عن "السلطان" المقصود، بآلاف الأميال، ونسبح ضد التيار السائد، لأن اليوم  ليس أسهل على المرء من أن يشتم الحكومة العراقية، ويصفها بـ"حكومة الفساد والمحاصصة، نصبها الاحتلال الغاشم!!" ليعتبر بطلاً وشجاعاً. والجدير بالذكر أن بعض الحكومات العربية، ومؤسساتها الثقافية، وضعت الجوائز المالية والتقديرية المغرية للشعراء والكتاب العرب، وخاصة العراقيين منهم، من يشتم الحكومة العراقية، ويثني على "المقاومة الوطنية الشريفة"، وليصبح نجما لامعاً تستضيفه الفضائيات العربية. لذلك، فنحن على الضد تماماً من وعاظ السلاطين، لأننا نعتقد أنه ليس صحيحاً إسقاط حكومة منتخبة، وإقامة أخرى عن طريق كيل الأكاذيب، والافتراءات، وتضليل الجماهير المغيب وعيها، والتزلف لها. إذ كما قال جورج أورويل: "قول الصدق في زمن الخديعة عمل ثوري".
 
نعم، التركة ثقيلة، إذ كما قال الأستاذ حسن حاتم المذكور في مقاله: (ديموقراطية البطرانيين . .!!!): "جمهوريتا البعث، (جمهورية 1963، وجمهورية 1968) كانتا مجزرة بشعة للقيم والأخلاق والوعي والثقافة والتقاليد والأعراف الحميدة، افرغتا المجتمع من كل ما هو ايجابي استورثـه من الأجداد عبر مئآت وآلاف السنين وتركتاه أنقاضاً خلف مربع الصفر، ومن تلك النقطة البائسة، وجد العراقيون اليوم أنفسهم ملزمين أن يبدؤوا ويتحملوا معاناة الإصلاح وإعادة البناء، وليس باستطاعة المخيلة والوهم والترقب السلبي أن يصنع بديلاً جاهزاً أو مستورداً من خارج واقعهم، ولا خيار لهم إلا أن يكون لهم نموذجهم النابع من أحشاء تجاربهم."[9]
 
إن دعوة السيد الخاقاني وأمثاله في التخلي عن المحاصصة الطائفية وإقامة دولة ديمقراطية على غرار ما في ألمانيا والهند، هي بلا شك، دعوة مخلصة، وصحيحة نظرياً، ولكنها في الحقيقة لا تختلف عن خطابات وعاظ السلاطين لأنها غير قابلة للتطبيق. وفي هذا الخصوص يقول الوردي ما يلي: 
"إن هذا يشبه ما ورد في القصة الرمزية حول اجتماع الفئران للبحث عن طريقة ينجون بها من خطر القط ، فهم قد اتفقوا أخيراً على أن يربطوا في عنق القط جرساً حتى إذا داهمهم سمعوا به واستطاعوا الهرب منه في الوقت المناسب. لا يخفى أن هذا الرأي صحيح جداً من الناحية النظرية، لكن عيبه الوحيد أنه غير عملي، إذ كيف يمكن للفئران أن يمسكوا بعنق القط ويشدوا عليه الجرس دون أن يأكلهم؟!" 
 
الخاتمة
وفي ختام مقاله "جدل هادئ"، يسألني السيد الخاقاني ما يلي: "... ألا يجد السيد حسين صلة بين ما يذكره العلامة الوردي (ص 12) عن منطق الواعظ الأفلاطوني الذي يقول للناس: "لقد ظلمتم أنفسكم وبحثتم عن حتفكم بظلفكم"، وبين مقالته التي يرى فيها أن المتظاهرين لإصلاح الحال "يسيرون نحو الهاوية وهم نيام"!؟
الجواب كلا، وألف كلا، والعكس هو الصحيح يا سيد الخاقاني، فالجماهير اقتيدوا إلى الهاوية من قبل، وتاريخ العراق حافل بهذه المآسي، وأنا لست ضد المظاهرات السلمية، ولا ضد النقد البناء الذي يريد الإصلاح حقاً، بل أنا ضد المظاهرات التي أحرق فيها المتظاهرون مؤسسات الدولة، وقتلوا الشرطة في مناطق عديدة، وفي الموصل رفعوا أعلام البعث، وأعلام المملكة السعودية، فهؤلاء لا يريدون الإصلاح، بل يريدون عودة سلطة البعث وبنسخة طالبانية. وأود أن أذكر السيد الخاقاني بقول أخوتنا المصريين: "رماني وبكى، سبقني واشتكى". فالأجدر بالكاتب أن يوجه هذا السؤال لنفسه، ولمن حثه من "الرفاق" على كتابة هذه المقالات الخمس. 
كما وأود أن أؤكد للسيد حميد الخاقاني، أني ما زلت متمسكاً  بقولي: "لا بد لهذه الجماهير أن تستيقظَ يوماً فتصب اللعنة على من خدعها"، آملاً له أن لا يكون هو من بين هؤلاء الخادعين الملعونين، وهم كثرٌ والعياذ بالله. 
ــــــــــــــــــــــــــ
مقالات ذات علاقة بالموضوع:
1- عبدالخالق حسين: ظاهرة عداء الناس للسلطة
 
2- حميد الخاقاني، لتـعُدْ أملاكُ الدولة للدولة . . . ولتَـعُدِ الدولةُ للناس
 
3-  ثلثا العراقيين. مغيّب وعيهم !  قاسم حسين صالح
4- عبدالخالق حسين: الشعب والغوغاء من منظور الوردي
 
5- عبدالخالق حسين: تضامنا مع الحزب الشيوعي العراق
6- عبدالخالق حسين: خطاب مفتوح إلى دولة رئيس الوزراء
 
7- عبدالخالق حسين: أفضل طريقة لإسقاط حكومة المالكي!
8- حول إشكالية حكومة المشاركة أو المحاصصة
 
9- حسن حاتم المذكر: ديموقراطية البطرانيين . . !!!



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=10395
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 10 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28